التحوط المحسوب: كيف يفكر “بزشكيان” في علاقات إيران مع دول الخليج؟

“رسالتي إلي العالم الجديد” هكذا كان عنوان المقال الذي كتبه الرئيس الإيراني المنتخب مسعود بزشكيان، الذي نُشر في صحيفة طهران تايمز الحكومية بالإنجليزية بعد أسبوع من فوزه بانتخابات الرئاسة الإيرانية. بدأ المقال بشرحه للسياسات العامة لحكومته والخطوط العريضة للسياسية الخارجية للبلاد، والبارز في الأمر أنه ركز علي أن “تعزيز العلاقات مع دول الجوار سيكون أولوية”، داعياً “السعودية والعراق وسلطنة عُمان وقطر والبحرين والكويت والإمارات وتركيا إلي تعميق العلاقات سيما التجارية ومعالجة التحديات المشتركة في المنطقة”. وكذلك دعا إلي الحفاظ علي التوجه الإيراني شرقاً وتعميق التعاون مع المحور الأوراسي (الصين وروسيا)، في الوقت الذي ألقى فيه باللوم على الولايات المتحدة الأمريكية والحكومات الأوروبية، في تعثّر الاتفاق النووي لعام 2015.

ويتميز مسعود بزشكيان بتاريخ سياسي متوازن نتاج خبرة واسعة في العمل البرلماني والحكومي، ما يعني أننا أمام مزيج من التجانس بين السلطتين التشريعية والتنفيذية، إلي جانب أن نجاحه في البقاء في البرلمان الإيراني لأربع دورات، بمثابة دليل قاطع علي شعبيته الواسعة وقدرته علي الحشد الجماهيري. وعلى الرغم من أن السلطات في إيران تتركز بشكل أساسي في يد المرشد الأعلى الإيراني علي خامنئي، وذلك بموجب دستور البلاد الذي تم إقراره في عام 1979، وما جري عليه من تعديلات في عام 1989، وأن الرئيس في إيران، هو التالي بعد المرشد الأعلى والحرس الثوري،- إلا أن ذلك لا ينفي أن للرئيس هامشاً من الحركة يمارسه بميزان دقيق وسياسات محدودة، وربما يُسمح له في التأثير في بعض القرارات على المستويين الداخلي والخارجي سيما إذا كانت تتوافق مع مفردات النظام.

وعليه، ما هو السيناريو المرتقب للسياسة الخارجية الإيرانية تجاه دول الخليج العربي في ظل وجود الرئيس الإصلاحي مسعود بزشكيان؟، وهل يمكن أن تسير العلاقات بين طهران والخليج في مسار توافقي شامل أم أن هنالك محطات خلاف كبيرة ستظل معقدة كما هي؟، وهل آلية التغيير في هذه المحطات من ضمن صلاحيات الرئيس المحدودة أم أنها تحت هيمنة المرشد الأعلى المطلقة؟

مسار مرتقب:

من المرجح بشكل كبير أن السياسة الخارجية الإيرانية تجاه دول الجوار الخليجي في عهد مسعود بزشكيان وفي ضوء ما صرح به خلال حملته الانتخابية وبعد فوزه بكرسي الرئاسة أيضاً،- ستستمر في مسار تحسين العلاقات مع هذه الدول، ويرجع ذلك إلي بُعدين هامين وهما:

(*) البعد الأول: هو استكمالاً لما بدأه الرئيس إبراهيم رئيسي ووزير خارجيته حسين أمير عبداللهيان، بعد المصالحة الكبرى التي تمت في عهدهما مع المملكة العربية السعودية وعودة العلاقات بين البلدين بعد قطيعة استمرت سبع سنوات، وذلك برعاية الصين في مارس 2023، والتي لاقت استحساناً وترحيبًا واسعاً من قبل العديد من الأطراف إقليمياً ودولياً، لأنه من الواضح أيضاً أن هذا المسار الدبلوماسي تحديداً مع دول الخليج يمثل توجهاً استراتيجياً للنظام الإيراني، أي إنه خيار لا يتأثر بتغير الرؤساء ولا الحكومات، بل هو نابع من القيادة العليا في إيران والمتمثلة في سلطة المرشد الأعلى. بالإضافة إلي أن بزشكيان قد دعا خلال مناظراته الانتخابية إلى “إقامة طهران علاقات أفضل مع دول المنطقة، معتبراً أن ذلك يمثل حلاً للمشكلات الداخلية”.

(*) البعد الثاني: يتعلق بشخصية بزشكيان السياسية المخضرمة، فطبقاً لتاريخه نري أنه لديه ما يؤهله من قدرات لتسريع إنهاء النقاط الخلافية وتعزيز الاستقرار ودعم المسارات الدبلوماسية المرنة. ذلك إلي جانب وعوده وتصريحاته في هذه الانتخابات والتي حصل فيها علي دعم الإصلاحيين والمعتدلين بشكل كبير، فكثيراً من تصريحاته فيما يتعلق بالسياسة الخارجية دعا فيها إلي “السعي نحو خفض حدة التوترات الدولية واستعادة الدبلوماسية التشاركية في العالم”. ونستنتج من هذه التصريحات القدرة علي الموازنة بين إرضاء السلطة العليا وتنفيذ سياسته الإصلاحية. ففي تصريح هام لبزشكيان يوُصف بالفطنة والخبرة السياسية العالية من قبل الخبراء، تحدث فيه عن نفسه قائلاَ “أنا محافظ وهذه من المبادئ التي نريد الإصلاح من أجلها”. لذا من المرجح أن بزشكيان ربما يمتلك القدرة حقاً لأن ينجح في تمرير أجندته دون معارضة المحافظين والمحافظين المتشددين.

وعلي الجانب الآخر نري ردود الأفعال الخليجية بعد فوز مسعود بزشكيان تنم عن تمهيد الطريق للتعاون. فلقد بادر العديد من زعماء وقادة الدول الخليجية والعربية بتقديم التهاني للرئيس الإيراني الجديد، ما أعطي انطباعاً إيجابياً تناولته وسائل الإعلام العربية والإيرانية حول رغبة كافة الأطراف في الاستعداد للتعاون وتحسين العلاقات وحلحلة الملفات الخلافية والسعي نحو استقرار المنطقة، بدلاً من العزف علي النزاعات، ولعل هذا من شأنه أن يعكس الملامح المرتقبة لمنطقة الشرق الأوسط في المرحلة المقبلة.

ملفات خلافية:

إيران دولة محورية هامة ذات نفوذ قوي في منطقة الشرق الأوسط وتنتشر وتتمدد عبر وكلائها، وهذا النفوذ يمثل أحد الركائز الأساسية للنظام الإيراني، الذي يعمل علي فكرة “تصدير الثورة”، لذا فهو يُعد من الخطوط الحمراء التي لا يُسمح بتجاوزها أو تغييرها إلا بأمر من المرشد الأعلى الإيراني. وملف التواجد الإيراني في دول المنطقة لا يتغير وفقاً للرؤساء أو الحكومات، لأن القرارات المتعلقة به تقع بأكملها تحت تصرف المرشد والحرس الثوري الإيراني، وهذه الأذرع هي استثمار قوي لطهران لا يمكن التخلي عنه، وهي كذلك أكبر الملفات الخلافية الشائكة مع دول الجوار الخليجي، سيما بعدما شهدته المنطقة في العقد الماضي من ثورات واحتجاجات واسعة وتصاعد وتيرة الصراعات، لذا من المؤكد أن الحرس الثوري سيستمر في دعم وكلاء طهران في لبنان وسوريا والعراق واليمن دون تغيير، سيما في ظل العدوان الإسرائيلي علي قطاع غزة والتوتر غير المسبوق الذي تشهده المنطقة وباعتبار طهران قائداً لمحور المقاومة.

ومن الجدير بالذكر أن بزشكيان، قد عبر بشكل واضح عن دعمه لدور الحرس الثوري الإيراني، ووصفه بأنه “مختلف عن الماضي”، كما أدان إعلان الولايات المتحدة الأمريكية تصنيفه “منظمة إرهابية”، بل ووصف واشنطن بأنها “السبب الجذري للتوترات في الإقليم”. كما أنه ليس من الوارد أن تتخلى إيران عن سياسة دعم الأذرع الخاصة بها. وهنا سنترك القوس مفتوحاً فيما يتعلق بدور هذه الأذرع في عهد بزشكيان وكذلك ردود الأفعال الخليجية.

وفي ظل ما شهده المجتمع الإيراني مؤخراً من حالة السخط الشعبي علي نظام ولاية الفقيه والمطالبة بإسقاطه، نجد أن فوز بزشكيان يُعد فرصة هامة للنظام، للحد من حالة الاحتقان لدي المواطنين خاصة وأن بزشكيان نفسه ليس عدواً للنظام الإيراني، علي الرغم من انتقاده لبعض سياساته سابقاً، ما يجعل وجوده داعماً لشرعية النظام ومنقذاً له في توقيت حرج. ولعل تحسن سعر العملة الوطنية الإيرانية، وارتفاع أسعار الأسهم في بورصة طهران المالية، فور الإعلان عن فوز بزشكيان أحد المؤشرات الإيجابية في هذا الصدد. ولكن بشكل عام وفي إطار محدودية صلاحيات الرئيس الإيراني، تحت مظلة نظام ولاية الفقيه، لا يستطيع الرئيس إحداث أي تحول كبير في السياسة الخارجية، خاصة في ملفين هامين وهما: (البرنامج النووي الإيراني، ودعم الأذرع الإيرانية المسلحة بالشرق الأوسط). سيما إذا كانت لا تتوافق مع قرارات السلطة العليا.

وختاماً، إن مجئ مسعود بزشكيان لسدة الحكم لا يعني الخروج عن النص الإيراني، خاصة فيما يتعلق بسياسة إيران الخارجية، وكما ذكرنا أن استخدام النهج الدبلوماسي المرن في التعامل مع الجوار الخليجي والسعي نحو حلحلة الخلافات القائمة، هو نهج نابع من القيادة العليا في النظام الإيراني أولاً، لذا من المتوقع بشكل كبير أن يستمر بزشكيان عليه، بعدما بدأه الراحل إبراهيم رئيسي.

سارة أمين

سارة أمين- باحث في شئون الشرق الأوسط، الباحثة حاصلة علي ماجستير في العلوم السياسية، شعبة العلاقات الدولية، متخصصة في دراسة شئون الشرق الأوسط والخليج العربي.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى