لماذا تتكرر حوادث الاغتيالات في إيران؟
ما حدث في إيران، خاصة في السنوات القليلة الماضية من اغتيالات نفذها الموساد الإسرائيلي في الداخل والخارج والهجمات المتتابعة علي المنشآت النووية والأمنية، أضف إلي ذلك اغتيال إسماعيل هنية في يوم الأربعاء 31 يوليو 2024،- يُعيد الحديث إلي الساحة حول الاغتيالات الإسرائيلية الموجهة إلي كل ما هو إيراني أو تابع لها سواء كان قائداً سياسياً أو عسكرياً أو حتي عالماً، إلي جانب بروز إشكالية كبري في هذا الصدد ألا وهي أن العمق الإيراني مُخترق أمنياً ويعاني من فشل استخباراتي ذريع، خاصة المنظومة الأمنية للحرس الثوري الإيراني، ما يعني أنه من المرجح بشكل كبير أن هناك أيادٍ خفية إيرانية تعمل لصالح الكيان الصهيوني وداعميه لإتمام هذه الأعمال الإجرامية المشبوهة في الداخل الإيراني.
يُذكر في هذا السياق أن هناك سجل حافل بعمليات الاغتيالات أو التفجيرات التي قام بها الكيان الصهيوني علي الأراضي الإيرانية. كاغتيال إسرائيل للعالم النووي البارز محسن فخره زاده،في 2020 بإطلاق النار عليه بالقرب من منزله في طهران، وفي عام 2021 استُهدفت منشأة نطنز النووية بعبوة ناسفة تم تهريبها وتفجيرها عن بُعد من قبل عملاء إسرائييلين وفقاً لتصريحات المسئولين الإيرانيين حينها. كل هذه العمليات تعكس عجز بل وفشل المنظومة الأمنية الإيرانية سيما الناحية الاستخباراتية للحرس الثوري، والذي كان مسئولاً عن حماية وتأمين إسماعيل هنية أثناء حضوره حفل تنصيب الرئيس الإيراني الجديد، ما يعني إهانة النظام الإيراني وتحطيم الهالة المحيطة بمؤسسة الحرس الثوري التي من المفترض أنها القوي الأمنية الأولي في البلاد ومؤثر أساسي في سياساتها بشكل عام. كما يُعتبر مقتل هنية تحديداً ثغرة عرت على ثغرات أكبر في نسق المنظومة الأمنية الإيرانية.
وعليه، يطرح هذا التحليل عدة تساؤلات، هل حقاً إيران هشة أمنياً؟ وما هي أبزر حالات الاختراق التي شهدتها البلاد؟ وإلي أي مدي يمتد نفوذ الموساد في الداخل الإيراني؟ وما هي دوافع العملاء والجواسيس للعمل مع الموساد؟
حدود التأمين:
عملية اغتيال إسماعيل هنية علي وجه التحديد وفي قلب العاصمة طهران وفي هذا الحدث الهام من تنصيب الرئيس الإيراني الجديد مسعود بزشكيان وبحضور العديد من القادة والشخصيات الهامة، وتنفيذها بهذه الدقة بحيث تم استهداف وإصابة الطابق الثاني للمبنى الذي كان يؤوي هنية ومرافقه، وهو دار ضيافة تابع للحرس الثوري الإيراني، أي أن المنطقة بأكملها من المفترض أنها خاضعة لحراسة مشددة وتتمع بكافة وسائل الحماية الممكنة، تُظهر مدي فداحة اختراق العمق الإيراني وأنه أصبح مستباحاً بشكل كبير من قبل الموساد الإسرائيلي عن طريق شريحة من الجواسيس داخل إيران بل وقد يتقلد بعضهم مناصب عُليا وحساسة في البلاد، ففي تصريح عام 2021 للرئيس الإيراني الأسبق أحمدي نجاد، ذكر فيه “أن المسئول الأعلي لمكافحة التجسس في وزارة الاستخبارات الإيرانية كان بدوره عميلاً لإسرائيل”.
هذا المشهد وضع النظام الإيراني ومرشده الأعلى علي خامنئي، في موقف حرج، حيث أنه لطالما صدّر هذا النظام نفسه علي أنه نظام قوي أمنياً وعسكرياً في الداخل والخارج -فزاعة إيران- ، لذا فهي إهانة كبري لدولة من المفترض أنها من الفواعل الإقليمية المحورية الهامة. إلي جانب ذلك فإيران منذ بداية العدوان الإسرائيلي علي قطاع غزة وهي تتجنب الانجرار نحو حرب مباشرة موسعة مع الكيان الصهيوني، خاصة وأنه بعد حرب 2006 باتت خيارات المواجهة محدودة في نطاق قواعد معينة للاشتباك، ولكن من المحتمل بعد اغتيال هنية، أن يُضطر النظام الإيراني مُكرهاً على أن يصبح في قلب المواجهة.
كما أن ردة الفعل الإيرانية الداخلية علي هذا الحادث جاءت شديدة، ما يبرز حجم الفشل الأمني الذريع للقيادة الإيرانية، خاصة في حدث هام كتنصيب الرئيس. فقد صدرت أوامر عُليا باعتقال أكثر من 20 شخص من بينهم ضباط استخبارات رفيعو المستوي وبعض المسئولين العسكريين في الدولة وكذلك بعض العاملين في دار الضيافة التابعة للحرس الثوري في طهران. ولكن حتي الآن لم يُعلن الحرس الثوري الإيراني، أية تفاصيل أخري تتعلق بالاعتقالات أو المشتبه بهم في هذا الحادث.
ونقلت صحيفة تلغراف البريطانية عن مسئولين في الحرس الثوري الإيراني أن “الموساد الإسرائيلي جند عملاء إيرانيين لزرع عبوات ناسفة بمقر إقامة إسماعيل هنية في طهران أدت لاغتياله”. وبحسب الصحيفة، فإن “القوات المسلحة الإيرانية على ثقة بأن الموساد إستأجر عملاء من وحدة (أنصار المهدي) التابعة للحرس الثوري الإيراني”. وقالت إن “هذه الوحدة تعتبر المسئولة عن ضمان أمن المسئولين رفيعي المستوي”. وخلال التحقيق تم العثور علي عبوتين ناسفتين أخريين بالمنزل الذي كان يقيم فيه هنية. كما نقلت الصحيفة عن أحد موظفي الحرس الثوري، تصريحاً للمرشد الأعلي قائلاً أنه “أصبح التعامل مع فشل الأجهزة الأمنية أكثر أهمية الآن من الانتقام والرد على إسرائيل”.
نفوذ الموساد:
لقد أثار اغتيال إسماعيل هنية في طهران، المخاوف بشأن مدى نفوذ إسرائيل وأجهزتها الاستخباراتية وتأثيرها داخل إيران وكذلك مدي قدرتها علي استقطاب العديد من العملاء والجواسيس الإيرانيين للعمل لصالحها. وفي مقابلة تلفزيونية في عام 2020، أعرب وزير الاستخبارات الإيراني السابق، علي يونسي، عن مخاوفه في هذا السياق قائلاً: “يجب أن يشعر جميع المسئولين الإيرانيين بالقلق على حياتهم”، وأوضح أن “إسرائيل لم تستهدف بعد السلطات السياسية في إيران لأنه لم يُقرر ذلك بعد”، مؤكداً أن هذا الإهمال سمح للموساد بتوجيه ضربات إليها بشكل متكرر وتهديد المسئولين علناً”. كما أن ل يونسي تصريح آخر غاية في الخطورة في عام 2021 يفسر فيه سبب الخلل الأمني الكبير الذي تشهده البلاد قائلاً إن “الأجهزة الاستخباراتية الجديدة والمتنافسة التي تأسست في أوائل العقد الثاني من القرن الـ21، قوضت بشكل كبير وزارة الاستخبارات، وساهمت بشكل مباشر في تسلل الموساد الإسرائيلي إلى داخل إيران”.
كما يوكد حادث مقتل هنية الفجوة الكبيرة في جهاز الاستخبارات والأمن الإيراني الذي يُسرب المعلومات، ويُسبب إحراجاً كبيراً للنظام الإيراني، كون أن بعض العاملين به باتوا عملاء وتابعين لنفوذ الموساد الإسرائيلي. وعلي صعيد السمعة فإن هذا الاختراق مهين لطهران لأبعد الحدود لأنه جاء بعد أيام فقط من قول وزير الاستخبارات الإيراني المنتهية ولايته، إسماعيل الخطيب إن “طهران قلصت نفوذ الاستخبارات الإسرائيلية داخل البلاد”
اختراقات متعددة:
إن عملية اغتيال هنية في طهران ليست إلا الحلقة الأحدث ضمن سلسلة اغتيالات وهجمات نفذها الموساد الإسرائيلي في الداخل الإيراني، فالاختراقات الإسرائيلية المتتابعة للمؤسسات الأمنية الإيرانية وكذلك وللمنشآت النووية وسلسلة الاغتيالات التي تمت داخل الاراضي الايرانية، جميعها تكشف عن ثغرات خطيرة في النظم الأمنية الإيرانية. ولعل ما ذكره وزير خارجية أمريكا السابق والرئيس الأسبق لوكالة المخابرات المركزية الأمريكية، مايك بومبيو في مذكراته التي نشرها منذ فترة قريبة عن واقعة سرقة الأرشيف النووي الإيراني بكافة تفاصيله ومشتملاته وتهريبه إلي خارج إيران بعملية مخابراتية معقدة، وهي العملية التي تمت بالتنسيق الكامل والتخطيط المسبق مع جهاز الموساد الإسرائيلي، وبمشاركة مجموعة من العملاء والجواسيس الإيرانيين ممن يعملون لحساب الموساد والسي آي ايه. ما يعني مدي خطورة تلك الاختراقات الخارجية لأكثر المواقع الأمنية تحصيناً في البلاد حيث مستودع الأسرار النووية الإيرانية التي تتعلق بالأمن القومي.
مما لا شك فيه أن هناك عمل مشترك ممنهج للتخلص من قيادات وممثلي نفوذ الإيراني في منطقة الشرق الأوسط. وأن الاغتيالات العديدة الموجهة مؤخراً لهؤلاء الأشخاص وبالتزامن مع العدوان الإسرائيلي علي قطاع غزة منذ أكتوبر 2023 وحتي الآن، لا تعني علي الإطلاق أن طرف واحد –إسرائيل- هو المسئول عن هذه العمليات وإنما هناك توجه كبير يعزز وجود أطراف إيرانية داخلية تتشارك مع الكيان الصهيوني لإتمام هذه الاغتيالات والسؤال هنا لما التواطؤ؟ أو ما هي دوافع المشاركين في الاغتيالات من الداخل الإيراني؟
يُرجع العديد من الخبراء والمحللين الدوافع إلي أن الداخل الإيراني يعاني من وجود شريحة كبري من المعارضين للنظام الحاكم المتشدد، القائم علي نشر فكرة تصدير الثورة، لا سيما فيما يتعلق بوكلائه وأذرعه في المنطقة العربية ما يقف حاجزاً أمام تحسين العلاقات مع دول الجوار ومع الغرب، إلي جانب ما تتكبده إيران من تكاليف باهظة لدعم تلك الأذرع، ما يمثل عبئاً اقتصادياً وسياسياً وعسكرياً علي البلاد، في حين أنها تعاني من معدلات تضخم وبطالة مرتفعة. أضف إلي ذلك أن الموساد الإسرائيلي يستقطب هؤلاء العملاء مقابل مبالغ مادية طائلة ما يدفعهم بشكل كبير للتواطؤ.
ختاماً، فإن الموساد لن يتوقف عن حماقاته وجرائمه وأساليبه المشبوهة، خاصة في ظل الدعم الغربي الذي تتلقاه الصهيونية، وعلي إيران أن تعيد الترتيب لأوراقها الأمنية وإعادة هيكلة للجهات الاستخباراتية، إلي جانب أنه لابد وأن يكون هناك رد حاسم لمثل هذه الانتهاكات، فما حدث ليس مجرد اغتيال فقط وإنما هو اختراق لسيادة دولة أخري، وإهانتها إقليمياً ودولياً، إلي جانب أن الاغتيالات بطبيعة الحال ليست إلا أساليب مشبوهة.