معضلة التراجع.. قراءة في تطورات المشهد السوداني
على الرغم من مرور ثلاثة عشر شهرًا علي بدء الحرب في أبريل المنصرم، لا تزال الاشتباكات المسلحة بين الجيش السوداني وميليشيا “الدعم السريع” مستمرة في التصاعد، لاسيما في مدينة الفاشر، عاصمة ولاية شمال دارفور، حيث تسعي الميليشيا إلي السيطرة علي الفاشر، بعد سيطرتها علي عواصم جنوب وشرق وغرب ووسط دارفور، فضلاً عن شن معارك كبيرة في شمال كردفان في محوري مدينتي “أم روابة” و “الأبيض”، وتصاعد القصف المدفعي والجوي في العاصمة الخرطوم، الأمر الذي يؤدي إلي تزايد الوضع المأساوي في البلاد.
تأسيسًا علي ما سبق، يحاول هذا التحليل رصد تطورات الحرب في السودان، وانعكاساتها الداخلية، مع توضيح الجهود الدولية والإقليمية المبذولة لوقفها.
تصعيد غير محسوب:
شهد السودان خلال الأيام القليلة الماضية معارك كبيرة بين الجيش السوداني وميليشيا “الدعم السريع”، لا سيما في شمال دارفور وشمال كردفان وجنوب العاصمة الخرطوم، ويتم توضيح ذلك بشكل أكثر تفصيلاً فيما يلي:
(*) تجدد الاشتباكات في مدينة الفاشر: لا تزال الاشتباكات بين الجيش وميليشيا “الدعم السريع” في التصاعد، حيث تسعي عناصر الدعم إلي السيطرة علي مدينة الفاشر، عاصمة ولاية شمال دارفور، بعد سيطرتها علي عواصم جنوب وشرق وغرب ووسط دارفور ( نيالا، الضعين، الجنينة، وزالنجي)، حيث تجددت الاشتباكات في الفاشر في الأيام القليلة الماضية بعد أيام من الهدوء، ففي 9 مايو الجاري، اشتدت الاشتباكات بين الجيش السوداني وحلفائه من الفصائل المسلحة من جهة وميليشيا “الدعم” من جهة أخري في الفاشر، إذ دارت معارك عنيفة بالأسلحة الثقيلة بين الطرفين في الأحياء الشمالية الشرقية للمدينة، ووفقًا للمراقبين تمكنت الميليشيا من قصف مواقع للجيش في وسط المدينة، وفي المقابل قام الجيش بشن ضربات مدفعية علي مواقع عناصر “الدعم، الأمر الذي قد يؤدي إلي تزايد أعداد النازحين سواء سكان المدينة أو الهاربين من القتال في مناطقهم، خاصة في حالة وجود جيوش من الحركات المسلحة إلي جانب الجيش، مما يجعل الوضع أكثر خطورة وتعقيدًا علي المدنيين الأبرياء.
علاوة علي ما سبق، يري المراقبون أنه في حال سيطرت ميليشيا “الدعم” علي مدينة الفاشر، فقد يتفكك السودان بسيطرة الميليشيا علي إقليم دارفور بالكامل، خاصة في ظل الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية والإنسانية المتدهورة.
(*) معارك عنيفة في شمال كردفان: لا تتوقف الاشتباكات في دارفور وولايتها فقط، بل ممتدة في إقليم كردفان، وخاصة ولاية شمال كردفان، حيث نشبت معارك مسلحة بين الجيش وميليشيا “الدعم السريع” في محوري مدينتي “أم روابة” و “الأبيض”، وزعمت ميليشيا “الدعم” في بيان رسمي لها بأنها قد هزمت قوات الجيش في المحورين، فضلاً عن زعمها قتل أكثر من 900 شخص من القوة المهاجمة في معارك مختلفة، وأسر آخرين، إضافة إلي أنها استولت علي عربات قتالية وأسلحة وذخائر في المدينتين، حسب زعمها. وفي المقابل لم يصرح الجيش السوداني عن تلك المعارك، بالرغم من تصريحات لمواقع التواصل الموالية للجيش التي أكدت علي مقتل قائد ميليشيا “الدعم” في شمال كردفان المعرف باسم “شيريا”، وعدد من كبار الضباط في معارك شرق مدينة الأبيض، وهو ما اعترف به نشطاء موالون لـلميليشيا، إضافة إلي الحقاء “قوات الهجانة” التابعة للجيش خسائر كبيرة بميليشيا “الدعم” في جبل كردفان قرب بلدة العين، وقد استرد الجيش المعسكر التابع له في جبل كردفان، وطرد عناصر الدعم التي كانت تسيطر علية منذ عدة أشهر، كما استردت معسكر قوات الاحتياطي المركزي، وفقًا لتصريحات النشطاء الموالون للجيش.
(*) تصاعد القصف المدفعي والجوي في العاصمة الخرطوم: شهدت العاصمة الخرطوم يوم 4 مايو الجاري، اشتباكات وقصف جوي ومدفعي بين الجيش وميليشيا “الدعم السريع”، وفقًا لشهود عيان علي موقع (X)، حيث تم سماع قصف مدفعي في محيط سلاح الإشارة، كما أكدت مصادر عسكرية إن قوات الجيش السوداني تقدمت علي تخوم منطقة الشبارقة شرق مدني، التي ترتكز فيها ميليشيا “الدعم” الواقعة قبل كبري حنتوب المؤدي إلي مدينة “ود مدني” عاصمة ولاية الجزيرة (جنوب الخرطوم في وسط السودان).
مهددات متنوعة:
بناءًا علي ما تقدم، تبين أن الوضع في السودان يزداد تعقيدًا في ظل تعنت طرفي النزاع بوقف الحرب واستئناف المفاوضات المقرر عقدها في مايو الجاري، والاستمرار في التصعيد الذي يدفع ثمنه المدنيين السودانيين الأبرياء، حيث يعاني الشعب السوداني من تردي الأوضاع المعيشية وارتفاع سعر العملية المحلية وانتشار الأمراض والمجاعة والاتجار بالبشر، خاصة في ظل تعطيل توصيل المساعدات ونقص المواد الغذائية ووجود مشكلات كبيرة في الإمداد الكهربائي وتعثر الحصول علي مياه شرب نظيفة، الأمر الذي قد يؤدي بالسودان لحافة المجاعة، حيث يعاني أكثر من ثلث سكان البلاد من الانعدام الحاد في الأمن الغذائي واحتمالية تفشي المجاعة في الخرطوم ودارفور في ظل التصعيد المسلح بين الجيش وميليشيا “الدعم”، خاصة وأن هناك نحو 17.7 مليون شخص، و4.9 مليون شخص علي حافة المجاعة، كما يعاني 4.9 مليون طفل دون سن الخامسة والنساء الحوامل والمرضعات من سوء التغذية الحاد خلال عام 2024، الأمر الذي يهدد بانتشار المجاعة،وفقًا لتقرير منظمة الصحة العالمية.
علاوة علي ما سبق، منذ بداية الحرب اضطر حوالي 8.7 مليون شخص للنزوح من منازلهم قصرًا، من بينهم 4.6 مليون طفل، حيث يقدر عدد النازحين داخل البلاد نحو 6.7 مليون شخص، ولجأ حوالي 1.8 مليون شخص إلي دول الجوار، ووفقًا لتقرير اوتشا.
وعليه، تمثل السودان 13% من مجموع النازحين عالميًا أي ما يعادل واحد من كل 80 نازح في العالم هو في السودان، ووفقًا لمؤشرات الحرب السودانية القائمة، فمن المتوقع أن تزداد أعداد النزوح الجماعي بشكل أوسع في ظل تحذيرات من قرب انتشار المجاعة في مدينة الفاشر، نظرًا لتصاعد الاشتباكات في شمال دارفور.
جهود متشابكة:
بالرغم من فشل كل المحاولات الدولية والإقليمية في التوصل لحل سلمي لوقف الحرب القائمة بين طرفي الصراع من خلال استئناف مفاوضات “منبر جدة”، لا تزال القوي الإقليمية والدولية تكثيف جهودها من أجل إقناع الأطراف بالتوقف عن الحرب واستئناف مفاوضات جدة، مع التأكيد علي ضرورة تقديم المساعدات الإنسانية العاجلة للمتضررين، فضلاً عن توجيه منظمة “هيومن رايتس ووتش” اتهام لميليشيا “الدعم السريع” بارتكاب جرائم “تطهير عرقي”، ويتم توضيح ذلك علي النحو التالي:
(&) مؤتمر قوي الحرية والتغيير-الكتلة الديمقراطية بالقاهرة: استكمالاً لجهود قوي الحرية والتغيير المستمرة منذ بدء الحرب، نظمت القوي مؤتمرها الثاني في القاهرة في الفترة من 5 إلي 7 مايو الجاري، بهدف مناقشة الوضع السوداني المتدهور، وكيفية إيصال المساعدات، والتأكيد علي ضرورة وقف الحرب وتحقيق الأمن والاستقرار، فضلاً عن تنفيذ ” إعلان جدة” الموقع في 11 مايو من العام المنصرم، والذي تضمن خروج ميليشيا “الدعم” من منازل المواطنين وتقديم المساعدات الإنسانية للمتضررين.
علاوة علي ما سبق، أسفر المؤتمر عن توقيع “ميثاق السودان” من 48 تنظيمًا سياسيًا وعسكريًا، وأبرزها الحزب الاتحادي الديمقراطي الأصل، وحركة تحرير السودان، وحركة العدل والمساواة، وحزب المؤتمر الشعبي، والتحالف الديمقراطي للعدالة الاجتماعية، وحركة الإصلاح الآن وغيرها، بهدف تسوية الأزمة السياسية والاتفاق علي “فترة تأسيسية انتقالية” لحكم لبلاد، لإنهاء الحرب الدائرة من 15 أبريل 2023، وبالتالي ضمان تحقيق الأمن والاستقرار اللازم للتحول للحكم المدني الديمقراطي.
كما أكد الميثاق علي ضرورة الالتزام بالحوار “السوداني-السوداني” عبر لجنة وطنية؛ لوضع الترتيبات الدستورية لإدارة الفترة الانتقالية لمرحلة ما بعد الحرب والتحول لمسار الحكم المدني الديمقراطي، إضافة إلي تحديد مهام الفترة الانتقالية، والتي تبدأ بإعادة إعمار ما دمرته الحرب ومعالجة الأزمة الاقتصادية، وصياغة دستور دائم للسودان، إلي جانب تنفيذ اتفاق سلام جوبا وعدم تعارضه لأي دور لقوات الدعم السريع في الفترة الانتقالية ودمجها في الجيش، وترك الميثاق تحديد عمر الفترة الانتقالية للحوار الذي من المتوقع أن يتم عقدة في الفترة المقبلة.
(&) تقرير هيومن رايتس ووتش: في 9 مايو الحالي، قامت منظمة “هيومن رايتس ووتش” بتوجيه اتهام لميليشيا “الدعم السريع” في تقرير مكون من 186 صفحة بعنوان : المساليت لن يعودوا إلي ديارهم، تضمن ارتكابها جرائم “تطهير عرقي” وعمليات قتل، في إشارة إلي ارتكابها إبادة جماعية حدثت أو تحدث ضد جماعة “المساليت العرقية الأفريقية” في مدينة الجنينة غرب دارفور، والتي نتج عنها مقتل آلاف الأشخاص ونزوح مئات الآلاف، كما أكدت المنظمة علي توثيقها لكل جرائم الحرب منذ أبريل المنصرم، تاركين الأمر في يد المحكمة الدولية وغيرها من الدول الأعضاء في معاهدة منع الإبادة الجماعية، وطالبت المنظمة من الأمم المتحدة نشر بعثة جديدة بشكل طارئ لحماية المدنيين المعرضين للخطر في السودان بالتعاون مع الاتحاد الأفريقي والوكالة الدولية، ودعت إلي معاقبة القادة والعسكريين المسئولين، منهم حميدتى وأخوه وكل من تسبب في عرقلة وصول المساعدات الإنسانية، مشددة علي ضرورة دعم المجتمع الدولي للمدنيين السودانيين من خلال تمويل المساعدات.
وفي المقابل، نفي عضو المكتب الاستشاري لقائد ميليشيا “الدعم” عمران عبدالله في لقاء صحفي، عدم تورط الدعم في ارتكاب جرائم “تطهير عرقي” في غرب دارفور، مؤكدًا علي تقديم أي عناصر تم توريطها في ارتكاب جرائم للمحاكم.
(&) مؤتمر باريس: في 15 أبريل 2024، عقدت باريس مؤتمر دولي، ضم وزراء وممثلين عن 58 دولة ومنظمة إقليمية والأمم المتحدة والمنظمات غير الحكومية الدولية والمانحين لمناقشة الوضع في السودان، حيث أعلن المانحون الدوليون أنهم سيقدمون أكثر من ملياري دولار أمريكي، وما يقرب من 900 مليون يورو من الاتحاد الأوروبي، بهدف دعم المدنيين الأبرياء في السودان، فضلاً عن الأشخاص اللذين لجأوا لدول الجوار في عام 2024.
علاوة علي ما سبق، تضمن المؤتمر الإشارة إلي ضرورة بذل المجتمع الدولي جهودًا أكبر لوقف الحرب، من خلال إقناع طرفي الصراع بالجلوس علي طاولة المفاوضات بعد مبادرات وساطة متعددة لم تثمر بأي نتائج، والتوصل إلي حلول مرضية للطرفين لوقف إطلاق النار.
ختامًا، بقراءة المشهد السوداني الحالي يمكن القول إن الوضع في البلاد أصبح بحاجة إلي الرجوع عن المطامع السياسية من جانب أطراف الصراع، لوقف الحرب اللاإنسانية التي يتحمل تكلفتها المدنيين الأبرياء، خاصة بعد فشل 3 جولات تفاوض في جدة، وقمتين للهيئة الدولية المعنية بالتنمية في إفريقيا “إيجاد”، وبالتالي في حال استمر الجيش وميليشيا “الدعم” في التعنت بعدم الالتزام ببنود “إعلان جدة”، فمن المتوقع أن تفشل كل جهود الوساطة الدولية والإقليمية المبذولة، لا سيما استئناف مفاوضات جدة التي من المرجح عقدها في مايو الجاري، خاصة في ظل تمسك البرهان بعدم الدخول في أي مفاوضات ولا سلام ولا وقف إطلاق النار، إلا بعد القضاء علي عناصر الدعم، وفي المقابل تسعي ميليشيا “الدعم السريع” بقيادة “حميدتي” للسيطرة علي مدينة الفاشر، وفي حال تمكنت الميليشيا من السيطرة علي المدينة فسوف يصبح موقفها التفاوضي أكبر،وعلي الأرجح قد يتحقق سيناريو “تقسيم السودان” بداية من سيطرة الميليشيا علي عواصم وولايات إقليم دارفور بالكامل.