ترتيبات ثنائية: ماذا تريد إسرائيل من إثيوبيا بعد زيارة “جدعون ساعر”؟

في 5 مايو 2025، قام وزير الخارجية الإسرائيلي “جدعون ساعر”، بزيارة رسمية إلى العاصمة الإثيوبية أديس أبابا، مع وفد تجاري رفيع المستوي، يضم ممثلين عن عدد من الشركات الإسرائيلية العاملة في قطاعات استراتيجية مختلفة، من بينها الزراعة والصناعات الزراعية، تقنيات المياه والمناخ، الطاقة المتجددة، الابتكار والتكنولوجيا، بالإضافة إلى الأجهزة الطبية وقطاعات صناعية أخري، وقد كان في استقباله لدي وصوله إلى مطار “بولي” الدولي، وزير الدولة الإثيوبي للشئون الخارجية السفير “برهانو تسغاي”، في مشهد يعكس الأهمية السياسية التي توليها أديس أبابا لهذه الزيارة.
تندرج هذه الزيارة ضمن مساعي تعزيز العلاقات الثنائية بين إسرائيل وإثيوبيا، حيث أجري “ساعر” سلسلة من اللقاءات رفيعة المستوى مع كبار المسؤولين الإثيوبيين، في سياقٍ يعكس الرغبة المشتركة في ترسيخ شراكة استراتيجية مستدامة. وقد تحمل هذه الزيارة أبعادًا استراتيجية تتجاوز إطارها الدبلوماسي التقليدي، خاصةً في ظل التحولات الجيوسياسية التي يشهدها القرن الإفريقي، والتطورات المتسارعة في منطقة الشرق الأوسط. وبالتالي، تمثل هذه الزيارة مؤشرًا على تقارب متزايد في المصالح بين تل أبيب وأديس أبابا، وتفتح المجال أمام قراءة معمقة لتداعياتها المحتملة على مسار العلاقات الثنائية وسياقها الإقليمي والدولي.
دلالات التوقيت:
تحمل الزيارة أبعادًا استراتيجية دقيقة، تعكس وعيًا متزايدًا من الطرفين بحساسة الوضع المتأزم في المنطقة، خاصة في ظل تقاطع ملفات إقليمية مُتعددة، تتطلب تحركات محسوبة لتعزيز المصالح المتبادلة:
(*) امتداد لمسار دبلوماسي متصاعد: تأتي الزيارة بعد مرور شهرين فقط على زيارة وزير الخارجية الإثيوبي “جدعون تيموثيوس” إلى تل أبيب، بما يُشير إلى تسارع وتيرة التنسيق السياسي بين الجانبين، مع تصاعد الاهتمام برفع العلاقات إلى مستوي استراتيجي. ويعزز هذا المسار التوافقي مؤشرات على وجود ملفات تتجاوز التعاون الثنائي، لتطال جوانب أمنية واقتصادية ذات أبعاد إقليمية.
(*) تتزامن مع تصعيد التوترات الإقليمية في المنطقة: تتزامن الزيارة مع وقت تشهد فيه منطقة البحر الأحمر والقرن الإفريقي تصاعدًا في التوتر، من بينها الصراع في السودان، والتحركات العسكرية في البحر الأحمر من قبل الحوثيين، إلى جانب استمرار الخلاف بين مصر وإثيوبيا حول ملف سد النهضة، وهي معطيات تعطي بعدًا براجماتيًا للزيارة من جانب إسرائيل، التي تسعي لتعزيز موطئ قدم لها في منطقة القرن الإفريقي في سياق سباق النفوذ الإقليمي القائم.
(*) رسائل ضمنية تتعلق بالوجود العسكري والأمني: في ظل استهدافات يمنية متكررة للعمق الإسرائيلي من جماعة الحوثي، لا يُستبعد أن تكون الزيارة محاولة أولية لبحث ترتيبات لوجستية أو دعم استخباراتي في محيط البحر الأحمر، مع ما يتردد عن سعي تل أبيب لتأمين خطوطها البحرية الحيوية عبر تعاون دفاعي مع دول محورية في الإقليم، خاصة مع التهديدات التي تتعرض لها إسرائيل من جماعة الحوثي.
(*) جزء من استراتيجية أوسع لتطويق النفوذ الإيراني: تمثل إثيوبيا إحدى الساحات الحيوية، التي تسعي إسرائيل إلى تعزيز وجودها بها، ضمن إطار مواجهة التمدد الإيراني في إفريقيا، ولا سيما مع دول مثل السودان وإريتريا، لذلك قد تبدو الزيارة جزءًا من رؤية أوسع، تضع أديس أبابا ضمن دوائر التحالف الإسرائيلي في شرق القارة السمراء، لتحقيق هذا الهدف.
أهداف متعددة:
تسعي كل من إسرائيل وإثيوبيا من خلال هذه التحركات إلى تحقيق مجموعة من الأهداف المتنوعة التي تتراوح بين ماهو معلن ورسمي، وما هو غير مباشر، ويُعبر عن مصالح استراتيجية أوسع نطاقًا، ويسهم تصنيف هذه الأهداف إلى مباشرة وغير مباشرة في توضيح أبعاد هذه العلاقات، كالتالي:
(-) أهداف مباشرة.. تعزيز التعاون الثنائي: تندرج هذه الزيارة ضمن مساعي تعزيز العلاقات الثنائية بين إسرائيل وإثيوبيا، استنادًا إلى تحالف “طويل الأمد” قائم على أسس تاريخية وثقافية وأمنية، وفق تصريحات وزير الخارجية الإسرائيلي “جدعون ساعر”، حيث شملت المحادثات بين “ساعر” و رئيس الوزراء الإثيوبي “آبي أحمد” ووزير خارجيته “جيديون تيموثيون”، بحث سبل توسيع التعاون السياسي والاقتصادي والأمني، بما يعكس رغبة البلدين في ترسيخ شراكة استراتيجية مستدامة.
وتُركز الزيارة على الأبعاد الاقتصادية والتكنولوجية، وليس على الجوانب السياسية فقط، حيث التقي وزير الخارجية الإسرائيلي ونظيره الإثيوبي، بمشاركة فاعلة من ممثلي القطاع الخاص ورجال الأعمال من إسرائيل وإثيوبيا، بالإضافة إلى مسؤولين رفيعي المستوى من مختلف القطاعات بين البلدين، مما يعكس توجهًا نحو تعزيز الشراكة الاستثمارية وتوسيع النفوذ الإسرائيلي عبر أدوات “القوة الناعمة” في مجالات الزراعة والتكنولوجيا والمياه. كما اتفق وزيرا خارجية البلدين على أن الإرهاب يشكل تهديدًا مشتركًا، وأكدا على أهمية التعاون في مجالي الأمن والسلام، مما يعزز البُعد الأمني في العلاقات الثنائية بين أديس أبابا وتل أبيب.
ويري بعض المحللين، أن لإسرائيل أهداف اقتصادية واضحة داخل إثيوبيا، تشمل تصدير التكنولوجيا الزراعية والاستثمار في قطاعات غير مستغلة، على غرار النموذج الإسرائيلي في جنوب السودان، مع احتمالية توقيع اتفاقيات ثنائية لتعزيز هذه المصالح.
(&) أهداف غير مباشرة.. ورقة ضغط غير مباشر في ملف “سد النهضة”: رغم غياب التصريحات الرسمية، تشير التقديرات إلى أن توقيت زيارة الوزير الإسرائيلي يحمل دلالات ضمنية تتعلق بملف “سد النهضة”، حيث قد تمثل الزيارة دعمًا غير مباشر لموقف أديس أبابا، فقد أشارت تقارير إعلامية، أبرزها ما نُشر في وكالة الأناضول التركية، إلى أن تل أبيب تسعي من خلال هذه التحركات إلى إرسال رسائل سياسية للقاهرة، لا سيما في ظل التوتر المُتعلق بمواقف مصر من “تهجير الفلسطينيين” من غزة.
تداعيات مُحتملة:
تتمثل التداعيات المُحتملة لزيارة وزير الخارجية الإسرائيلي إلى إثيوبيا، وفقًا لقراءة المشهد في عدة تداعيات، يتم توضيح أبرزها فيما يلي:
(-) تعزيز الحضور الإسرائيلي في إفريقيا وتشكيل تحالفات جديدة: قد تنظر إسرائيل إلى هذه الزيارة على أنها فرصة لتعزيز تواجدها في بعض الدول الإفريقية، لاسيما في شرق القارة، ومن المُحتمل أن تشمل الزيارة محادثات بشأن إقامة قواعد إسرائيلية في إثيوبيا، الأمر الذي يحمل أبعادًا أمنية وعسكرية واضحة. واستمرار إسرائيل في توطيد علاقاتها مع دول إفريقية، قد يسهم في تشكيل تحالفات جديدة، تُعزز من مكانتها داخل المنظمات الإقليمية، وعلى رأسها الاتحاد الإفريقي، الذي تسعي تل أبيب لاستعادة وضعها فيه كدولة عضو مراقب بشكل دائم.
وسبق وأن أرست إسرائيل علاقات قوية مع دول مثل رواندا وأوغندا في مجالات الأمن والتكنولوجيا، وبالتوازي مع تعزيز التعاون مع إثيوبيا، قد تسعي إسرائيل إلى تشكيل “محور استراتيجي” يمتد من منطقة القرن الإفريقي إلى منطقة البحيرات العظمي، وهو ما يدعم مكانتها داخل المنظومة الإفريقية.
(-) محاولة إسرائيلية لتطويق النفوذ الإيراني في شرق إفريقيا: قد تكون هذه الزيارة جزءًا من مسعي إسرائيلي لمواجهة النفوذ الإيراني في المنطقة، خاصة وأن أيران تسعي لبناء نفوذ سياسي وأمني عبر دعم بعض الفاعلين المحللين، وقد تسعي إسرائيل لإنشاء مراكز استخباراتية أو نقاط مراقبة في إثيوبيا، لرصد التحركات الإيرانية، أو لدعم دول شرق إفريقيا التي تخوض مواجهات أمنية مع حركات مدعومة من طهران، خاصة جماعة الحوثي في البحر الأحمر.
(-) توتو مُحتمل في المشهد الأمني الإقليمي: من المُحتمل أن يُفضي التوسع في التعاون بين إسرائيل وإثيوبيا في مجالات التكنولوجيا والمياه والطاقة، إلى تعاون أمني واستخباراتي مُستقبلي، وهو ما قد يزيد من تعقيد المشهد الأمني في منطقة القرن الإفريقي، ويُرجح أن يُستفاد من البنية التحتية الإسرائيلية في إثيوبيا في مراقبة أنشطة بعض الفاعلين الإقليميين مثل إيران وتركيا. كما قد يتم إنشاء أنظمة دفاعية قرب مرافق حساسة من “سد النهضة”، وهو ما يعيد إلى الأذهاب التقارير السابقة عن نشر أنظمة دفاع جوي إسرائيلية في محيط السد بالرغم من النفي الإسرائيلي الرسمي لذلك.
في ضوء ما سبق، تمثل زيارة وزير الخارجية الإسرائيلي إلى أديس أبابا محطة مفصلية في مسار العلاقات الإسرائيلية-الإثيوبية، تتجاوز أبعادها الطابع البروتوكولي لتعبر عن تحول استراتيجي أوسع في موازين التحالفات الإقليمية، إذ لا تنفصل هذه الخطوة عن السياقات الجيوسياسية المضطربة في منطقتي القرن الإفريقي والشرق الأوسط، ولا عن الرغبة الإسرائيلية في توسيع نفوذها عبر أدوات القوة الناعمة والصلبة معًا. وبينما تسعى إسرائيل لتعزيز موقعها في إفريقيا ومجابهة خصومها الإقليميين، تجد في إثيوبيا شريكًا محوريًا يمكن عبره النفاذ إلى ملفات أمنية واقتصادية حساسة، من سد النهضة إلى البحر الأحمر. وفي المقابل، تحرص أديس أبابا حريصة على استثمار هذا التقارب لتعزيز موقعها الإقليمي وتنويع شراكاتها الاستراتيجية، بما يحقق مصالحها في ظل نظام دولي متغير.
وختامًا، تحمل الزيارة دلالات تتجاوز التعاون الثنائي، لتكشف عن توجه إسرائيلي متسارع نحو إعادة التموضع في القارة السمراء، في محاولة لموازنة القوى الإقليمية ومواجهة الخصوم التقليديين، خصوصًا إيران ومصر. كما تؤشر إلى انفتاح مُحتمل على ترتيبات أمنية طويلة الأمد، تشمل تبادل المعلومات وتعزيز الحضور الاستخباراتي والتكنولوجي. ومن ثم، لا يُستبعد أن تشكل هذه الخطوة بداية مرحلة جديدة لإعادة تشكيل التوازنات في المنطقة، في ظل التنافس المتزايد على النفوذ في القارة الإفريقية، وانخراط قوى دولية وإقليمية متعددة في سباق محموم على إعادة ترسيم خريطة التحالفات.