لماذا زار “بوتين” منطقة الشرق الأوسط في هذا التوقيت؟

بعد مرور شهرين على حرب غزة، أجرى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين زيارة إلى الإمارات والسعودية في السادس من ديسمبر الجاري، في زيارة خارجية نادرة لبوتين منذ بداية الحرب الأوكرانية، وللشرق الأوسط تحديدا، من المرجح أنها حملت في طياتها عناوينا سياسية واقتصادية على قدر كبير من الأهمية. وتأسيسا على ذلك، يناقش هذا التحليل أهداف بوتين من تلك الزيارة في هذا التوقيت، والرسائل التي يوجهها من خلالها.
توقيت لافت:
قد يحمل توقيت زيارة بوتين إلى الإمارات والسعودية العديد من الدلالات، نظرا لكون الزيارة جاءت عقب عدة تطورات، أهمها:
(*) أتت زيارة بوتين إلى المنطقة في وقت تستعد فيه موسكو لإجراء الانتخابات الرئاسية الروسية في مارس ٢٠٢٤، لذا فإن جولات بوتين الخارجية قد تعد رسالة طمأنة ودعوة للداخل الروسي، على المستوى الرسمي والشعبي، لاستعادة الثقة في القيادة السياسية قبل الانتخابات في ظل استمرار الحرب الأوكرانية وعدم حسمها حتى الآن.
(*) أيضا بعد زيارة وفد من أهالي الأسري الإسرائيليين لدى حماس إلى روسيا لمناشدتها على التدخل لحلحلة ملف الأسرى، بعد إحباط الأهالي من موقف الحكومة الإسرائيلية والغرب. ووفقا لتصريحات بعض الأهالي على إحدى القنوات التلفزيونية الإسرائيلية، فإن التأكيد الروسي جاء مطمئنا لهم بأن حماس تضمن أمن هؤلاء الأسرى.
كذلك بعد أيام من إعلان أوبك+التزامها بسياسة تخفيض إنتاج النفط في أواخر الشهر الماضي،والذي تم التوصل إليه بصعوبة بعد خلافات بين الأعضاء حول القرارات والحصص.
(*) إشارة إلى صمود القوات الروسية على جبهة أوكرانيا، واعتراف الجانب الأوكراني بفشل هجومه المضاد، بالذات مع تأخر وصول المساعدات الأمريكية إلى كييف، بعد فشل الكونجرس في التصويت على استمرار دعم أوكرانيا، وإلغاء زيلينسكي بعدها خطابا كان موجها للكونجرس، بالتالي المناخ بالنسبة لروسيا أصبح أكثر أريحية.
تعبر زيارة بوتين إلى الإمارات والسعودية على درجة كبيرة من الأهمية، نظرا لما تحمله من دلالات ورسائل، خاصة وأنها الزيارة الخارجية الثالثة لبوتين منذ الهجوم على أوكرانيا في فبراير ٢٠٢٢، بعد زيارته لقرغيزستان والصين في أكتوبر الماضي، حيث صدرت مذكرة توقيف بحقه وبعض مسئولي الحكومة الروسية من قبل المحكمة الجنائية الدولية في مارس الماضي على خلفية الترحيل غير القانوني لأطفال أوكرانيين إلى روسيا. وفي الوقت نفسه، تحسبا لأي قلائل داخلية قد تظهر فور مغادرته لروسيا، وإن كان بوتين حظى ببعض الأريحية في هذا الشأن بعد مقتل بريغوجين وردع أعدائه الباقين.
مآرب روسية:
مبادرة بوتين نفسه بالخروج من روسيا قاصدا السعودية والإمارات في زيارة هي الأولى منذ ٢٠١٩، قد تأتي استجابة لأهداف روسية خاصة، أهمها:
(&) كسر العزلة الروسية: تحركات موسكو تنم عن مساعي روسية جادة لكسر العزلة الدولية التي فرضتها عليها الدول الغربية إلى جانب الحسابات الداخلية، حيث تلاها في اليوم التالي قمة روسية إيرانية في موسكو، وبعدها قمة روسية فنزويلية. إلى جانب أن روسيا من المقرر أن تترأس اجتماع البريكس العام المقبل، وتسعي لتنسيق المواقف قبلها بحيث يكون للمنظمة تأثير في اتجاهات السياسة العالمية. بالتزامن مع اقتراح رئيس الوزراء الهندي خلال اجتماع للبريكس عبر الفيديو كونفرانس بأن تكون المنظمة واجهة لحل القضية الفلسطينية.
فاستضافة السعودية والإمارات لبوتين، وهو شخصية صادرة بحقها مذكرة توقيف رسالة في غاية الأهمية إلى الغرب، تمثلمناوشة جديدة للولايات المتحدة، حتي أن الرئيس بوتين عندما أقلعت طائرته من مطار موسكو متوجهة إلى المنطقة رافقتها طائرات حربية من طراز سو ٣٥، وبالتالي تم التنسيق بين روسيا والدول التي ستحلق تلك الطائرات فوق أجوائها، بما يعني تأكيد تلك الدول على تعاونها مع موسكو ضد السياسة الأمريكية التي كانت تنوى عزل روسيا عن العالم. ولكن في الوقت نفسه لا يمثل استقبال بوتين تحديا رسميا وصريحا للحليف الأمريكي، فالسعودية والإمارات لم توقعا على الاتفاقية المعنية بتسليم المطلوبين، وفقا لصحيفة وول ستريت جورنال.
(&) الحرب في غزة: روسيا تسعي لاستغلال إحباط دول المنطقة تجاه السياسات الأمريكية خلال السنوات الأخيرة، والعودة إلى الانخراط في ملفات المنطقة بقوة، وقد يكون ملف الحرب الراهنة في غزة بوابتها لذلك، واستغلال التقارب في وجهات النظر مع بعض الدول الخليجية لمحاولة التوصل إلى هدنة طويلة الأجل.
خاصة وأن حماس تبدى تقبلا للتعامل مع الروس وتستحسن الموقف الروسي من الحرب، فقد سبق وزار بعض قادتها موسكو في أكتوبر الماضي، حتى أن حماس أطلقت سراح أسير روسي يدعي رينو كريبوي بعدما تمكن من الهرب رغم أنه لم يكن ضمن قائمة الأسرى المطلق سراحهم، إلا أن حماس قالت إنها أطلقت سراحه بناء على طلب الرئيس الروسي. وبالتالي، روسيا تسعي للعب دور ما في إيقاف الحرب على غزة، ولو بشكل محدود في الدور والتأثير، نظرا لتاريخية وأهمية الموقف الأمريكي في هذا الملف.
على الجانب الآخر، قد تكون روسيا بوابة للسعودية والإمارات لقيادة جهود حل الدولتين، أو على الأقل التوصل إلى حل لوقف إطلاق النار يمكنهما من المنافسة على تصدر المشهد، بعد الدور المصري والقطري في الحرب، مقابل التزامهما بقرار سياسة تخفيض إنتاج النفط.
(&) تقوية أوبك+: موسكو تعتبر أن السعودية والإمارات شريكان تجاريان رئيسيان في منطقة الخليج، فحجم التبادل التجاري بين روسيا والإمارات على سبيل المثال، يزيد عن نصف إجمالي التبادل التجاري الروسي مع دول مجلس التعاون، كما أصبحت الإمارات المركز الدولي الرئيسي للشركات الروسية وطريقا للتحايل على العقوبات الغربية.
كما تعد المملكة العربية السعودية الشريك الرئيسي لروسيا في أوبك +، وهناك إدراك روسي بأن استقرار العلاقات مع السعودية تحديدا يشكل ضمانة رئيسية لاستقرار أسواق النفط العالمية، وبالتالي قد تأتي جولة بوتين بمزيد من التدعيم لاتفاق أوبك+ الأخير الذي أقر بخفض إنتاج النفط، باعتبار أن مثل هذا القرار، واستمراره، يأتي في مصلحة روسيا التي تسعي جاهدة لتخفيض الآثار السلبية للعقوبات الغربية، وتفشل في الوقت نفسه مساعي الدول الغربية لإيجاد بدائل للنفط الروسي بعدما حظرت استيراد النفط الروسي. وعليه، فإن تلك الجولة، بالإضافة إلى لقاء بوتين لرئيسي إيران وفنزويلا قد تنم عن توجها روسيا للتفاهم مع كافة الأطراف الرئيسية لاتفاق أوبك+.
وفي الختام، على ما يبدو أنه توجد محاولات لتوظيف الدبلوماسية الاقتصادية، بدلا من الدبلوماسية العسكرية التي تقودها الولايات المتحدة لحلحلة الصراعات، والتي فشلت دوما في التأسيس لحوار ينتهي بحل مستدام للقضية الفلسطينية.هذا إلى جانب سعي دول المنطقة عموما، ودول الخليج تحديدا، لتنفيذ سياسة توازن دقيقة تهدف إلى تنويع الشركاء والحصول على أكبر استفادة ممكنة، وفي الوقت ذاته، الضغط على واشنطن للوفاء بالتزاماتها السابقة تجاه المنطقة، خاصة وأن دول المنطقة تشترى أسلحة بمليارات الدولارات من واشنطن، وتستضيف عددا من القواعد العسكرية.