مسار مقلق: كيف تنظر “أمريكا ترامب” لأوروبا؟

شهد محمود-باحثة مساعدة
واصل الرئيس الأمريكي دونالد ترامب انتقاده لأوروبا وسياساتها خلال لقاء مع موقع “بوليتيكو” في 8 ديسمبر 2025، معتبرًا أن القارة “تسير في اتجاهات خطِرة، وهذا أمر بالغ السوء، سيء جدا لشعوبها”، في استمرار لسلسلة تصريحات ومواقف أثارت قلق قادة أوروبا إزاء التزام واشنطن تجاه التحالف عبر الأطلسي، وهو ما برز بوضوح في استراتيجية الأمن القومي الأمريكية نوفمبر 2025.
تعد مقولة “أمريكا أولًا” الركيزة الأساسية للسياسة الخارجية الأمريكية كما عرضتها استراتيجية الأمن القومي الجديدة، وقد انتقدت هذه الوثيقة الإدارات السابقة لانخراطها في حروب لا تنتهي، وتطرّقت إلى جملة من القضايا الأخرى التي تعكس مدى التحوّل في أولويات واشنطن، لكن الأهم من ذلك، هو ما كشفته الوثيقة عن تحوّل ملحوظ في طبيعة العلاقات الأمريكية – الأوروبية خلال الولاية الثانية لترامب. ومن هنا يبرز التساؤل: إلى أي مدى تبدّلت نظرة “أمريكا ترامب” إلى أوروبا مقارنة بالإدارات السابقة؟
رؤية ترامب لأوروبا
تمثّل وثيقة استراتيجية الأمن القومي لعام 2025 (NSS 2025) نافذة على حقيقة نظرة إدارة ترامب الثانية إلى القارة الأوروبية. فقد خُصّص فيها قسم رئيسي كامل بعنوان: «تعزيز عظمة أوروبا» (Promoting European Greatness) والذي يظهر أن أمريكا لم تعد ترى دورها في حماية أوروبا أو ضمان أمنها، بل في دفع الأوروبيين على تحمّل مسؤولية أمنهم القاري ومصيرهم الحضاري بأنفسهم.
(*) الإبادة الحضارية: أبرز ما في الوثيقة هو تبنّيها خطابًا لم تعرفه الوثائق الرسمية الأمريكية من قبل، إذ تتحدث صراحة عن الإبادة الحضارية التي تهدد أوروبا، معتبرة أن الاتجاهات الديمغرافية الحالية والهجرة غير المنضبطة قد تجعل القارة “غير قابلة للتمييز” خلال نحو عشرين عامًا فقط، وهو ما قد يؤثر على كونها حليف موثوق للولايات المتحدة. ويظهر هذا الخطاب أيضًا من خلال تكرار المواقف السلبية التي سبق أن عبرت عنها الولايات المتحدة تجاه القضايا الأوروبية، بما في ذلك الانتقادات الموجهة لسياسات الهجرة وحرية التعبير. فقد شهد مؤتمر ميونيخ للأمن في فبراير 2025 انتقادات حادة من نائب الرئيس جيه دي فانس للاتحاد الأوروبي، موجهًا اتهامات تتعلق بسوء إدارة الهجرة وحماية القيم الديمقراطية، وهو ما أحدث صدمة في صفوف النخبة السياسية التقليدية في أوروبا[1].
(*) تقارب مع سرديات اليمين المتطرف الأوروبي: هذا الخطاب هو تبنٍّ علني لسردية “الاستبدال العظيم”، التي كانت حتى الأمس القريب حكرًا على أحزاب اليمين المتطرف الأوروبي، ما يضع الوثيقة في تقاربٍ مع ذلك الخطاب، وقد وصف رئيس الوزراء السويدي الأسبق، كارل بيلت، الوثيقة بأنها “أشد تطرفًا من اليمين المتطرف في أوروبا”، في حين رأت مديرة معهد الشؤون الدولية الإيطالي، ناتالي توتشي، أن إدارة ترامب تسعى “لتمزيق أوروبا من الداخل عبر دعم القوميين اليمينيين المدعومين من روسيا”[2].
من المتوقع أن يلقى هذا الخطاب صدى واسعًا داخل أحزاب اليمين المتطرف والقومي في أوروبا التي تبني برامجها على وقف الهجرة غير الأوروبية وانتقاد قيم وسياسات الاتحاد الأوروبي. وعليه يمكن القول إن الوثيقة لا تقدم مجرد رؤية استراتيجية أمريكية للقارة، بل تشكل أيضًا تصعيدًا أيديولوجيًا يظهر اصطفافًا واضحًا بين تيار ماجا (MAGA) وهذه الأحزاب القومية الأوروبية، ما يشير إلى دينامية جديدة في المشهد السياسي الأوروبي تتسم بتقارب المصالح الأيديولوجية عبر المحيط الأطلسي.
(*) عرقَلة السلام: فيما يتعلق بالتطورات الأخيرة وخطة السلام الأمريكية، تشير الوثيقة إلى أن موقف الحكومات الأوروبية الداعمة لأوكرانيا ورافضة لبعض البنود الجوهرية بالنسبة لروسيا يعكس عدم وجود رغبة حقيقية لدى هذه الحكومات في إنهاء الحرب، رغم أن غالبية الشعوب الأوروبية تؤيد التوصل إلى سلام، ما يعني غياب عملية ديمقراطية حقيقية يستند إليها صانعو القرار الأوروبيون في مواقفهم، وترى الوثيقة أن هذا الرفض لا يعرقل الجهود الدبلوماسية الأمريكية فحسب – والتي تهدف الى المصالح الحيوية لأمريكا- بل يهدد أيضًا استقرار الاقتصاد الأوروبي الذي تضرر بالفعل نتيجة استمرار الحرب.[3]
مؤشرات التحول
في الواقع، تمثل الاستراتيجية الجديدة تحولًا غير مسبوق وجذري، سواء في المضمون أو في الأسلوب، عن توجهات الإدارات السابقة، بما في ذلك الولاية الأولى لترامب نفسه. ويمكن إبراز هذا الاختلاف على النحو الآتي:
(-) تعريف الشركاء والخصوم: على الرغم من أنّ إدارة ترامب الأولى، شأنها شأن إدارات أمريكية سابقة، نظرت إلى الصين وروسيا باعتبارهما منافستين أساسيتين في النظام الدولي، فإن استراتيجية الأمن القومي لعام 2025 تعيد صياغة هذا التصور بطريقة تغيّر موقع أوروبا داخل التفكير الاستراتيجي الأمريكي بدرجة لافتة. فالوثيقة تؤكد أن الاقتصاد هو “الرهان النهائي” في العلاقات الدولية، وتطرح هدفًا جديدًا تجاه الصين قائمًا على بناء علاقة اقتصادية متبادلة المنفعة بدلًا من سياسة الاحتواء أو المواجهة الجيوسياسية، وهو تحول يضعف أحد أهم مجالات التوافق عبر الأطلسي، إذ كانت أوروبا تعتمد على اصطفاف أمريكي أكثر صرامة تجاه بكين. أما بالنسبة لروسيا، فتقدّم الوثيقة خطابًا غامضًا ومتحفظًا يتجنّب توصيف موسكو كتهديد مباشر للمصالح الأمريكية، وتكتفي بالقول إن “العديد من الأوروبيين يرون روسيا تهديدًا وجوديًا”، ما يُبعد واشنطن عن الرؤية الأوروبية التقليدية التي تعتبر روسيا التحدي الأمني الأكبر للقارة، ويضعف التنسيق الاستراتيجي بين الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي. والأهم أنّ الوثيقة توجه أقسى انتقاداتها إلى النخب الأوروبية، متهمة إيّاها بسوء تقدير التهديدات وبالفشل في إدارة القارة، ما يضع الحلفاء الأوروبيين التاريخيين تحت ضغط المسؤولية المباشرة عن الأمن والاستقرار، بدلًا من اعتبارهم شركاء متساوين في مواجهة التحديات العالمية.
إن النظر في هذا التحول لا يبشر بخير لمستقبل العلاقات عبر الأطلسي، إذ تشير استراتيجية إدارة ترامب ليس فقط إلى نهاية التحالف عبر الأطلسي القائم على القيم الليبرالية، بل إلى إعادة التوجيه نحو تحالف غير ليبرالي[4]، ما يعكس انفصالًا غير مسبوق عن الإدارات الأمريكية السابقة، ويحوّل أوروبا من شريك استراتيجي متساوٍ إلى ساحة تُمارس فيها واشنطن ضغوطًا مباشرة، وتُحمّل القارة مسؤولية فشلها الأمني والديمغرافي والثقافي، ويعيد ترتيب أولويات الأمن القومي الأمريكي بطريقة تقلل من دور أوروبا التقليدي في السياسة الخارجية للولايات المتحدة.
(-) تقليل الإلتزام الأمريكي اتجاه أوروبا: تظهر استراتيجية الأمن القومي لعام 2025 في عهد ترامب تحوّلًا جذريًا في نظرة واشنطن لدورها العسكري داخل أوروبا، إذ تنص بوضوح على أن القوات الأمريكية لا يمكن ولا يجب أن تتحمل عبء الدفاع عن الحلفاء بمفردها. ورغم أن هذا المبدأ ورد في سياق الدفاع عن تايوان، فإنّه يمتد عمليًا – كما يشير بعض المحللين – إلى الوجود العسكري الأمريكي في أوروبا، بما يعكس توجّه إدارة ترامب الثانية نحو نقل العبء الدفاعي والمالي والاستراتيجي إلى الحلفاء الأوروبيين بوتيرة أسرع من أي وقت سابق. ويتعزز هذا التحول من خلال وثيقة مشروع ميزانية الدفاع الأمريكية التي تلزم وزارة الدفاع بمراعاة مدى التزام دول الناتو برفع إنفاقها العسكري عند اتخاذ قرارات تتعلق بنشر القوات أو إجراء المناورات، إضافة إلى اشتراط تحقيق هدف 5% من الناتج المحلي للدفاع بحلول 2035 وفق إعلان لاهاي، وهو سقف يفوق بكثير نسبة 2% التي تعاني بعض دول الحلف لتحقيقها حتى الآن[5].
في المقابل، تبنّت إدارة بايدن نهجًا معاكسًا تمامًا، إذ أعادت التأكيد على مركزية حلف الناتو، وعززت الانتشار العسكري الأمريكي في شرق أوروبا بعد غزو أوكرانيا، مع الضغط لزيادة الإنفاق الدفاعي ولكن ضمن إطار تدريجي ومنسق يهدف إلى تقوية الناتو لا التخلص من أعبائه. وهكذا يظهر التباين بوضوح، ففي حين اعتبرت إدارة بايدن التحالف عبر الأطلسي استثمارًا استراتيجيًا لا غنى عنه، تنظر إدارة ترامب إليه باعتباره عبئًا متزايدًا ينبغي تقليصه وإعادة توجيهه بما يخدم أولويات الأمن القومي الأمريكي أولاً.
تآكل الثقة الأوروبية في واشنطن
من الجدير بالذكر أنه قبل صدور الوثيقة التي أظهرت تغيّر الاتجاه الأمريكي نحو أوروبا بشكل علني، كشفت مكالمة مسربة بين زيلينسكي وعدد من القادة الأوروبيين عن تخوّف مشترك من احتمال خيانة أمريكية بخصوص المحادثات مع روسيا. فقد أشار ماكرون إلى أن “هناك احتمال أن تخون الولايات المتحدة أوكرانيا في مسألة الأراضي، دون توضيح بشأن الضمانات الأمنية”، وحذّر ميرتز من أن “هم يلعبون ألعابًا معكم ومعنا”، فيما شدّد الرئيس الفنلندي ستوب على أنه “لا يمكن ترك أوكرانيا وحدها مع هؤلاء”[6]. تعكس هذه التعليقات ليس القلق الظرفي المتعلق بمفاوضات السلام فحسب، بل إدراكًا أوروبيًا متناميًا بأن واشنطن لم تعد شريكًا يمكن التنبؤ بسلوكياته أو الاعتماد على التزامه بالمصالح الأمنية الأوروبية كما كان الحال في العقود السابقة. وتشير هذه التصريحات إلى أن التحوّل في الاستراتيجية الأمريكية أصبح عامل قلق ملموس في أوروبا، وأضحى واضحًا في سلوك واشنطن تجاه الحرب الأوكرانية. وعليه، تُعد هذه المكالمة مؤشرًا عمليًا يعزز ما ورد في وثيقة الأمن القومي لعام 2025، إذ تظهر أن النظرة الأمريكية لأوروبا لم تعد قائمة على الشراكة التقليدية أو الالتزام بالأمن الأوروبي، بل على إعادة صياغة الأدوار وتقليص المسؤولية الأمريكية، حتى لو أفضى ذلك إلى زعزعة الثقة داخل التحالف..
لم تأتِ تلك المكالمة وتآكل الثقة الأوروبية نتيجةً مباشرة لخطة السلام الأمريكية، التي تعتبرها أوروبا مجحفة بحق أوكرانيا، ولا نتيجةً لتنبؤات الوثيقة مثلًا، بل هي نتاج سلسلة من التصريحات والسلوكيات الأمريكية المتتابعة. فقد أبدى التيار اليميني الداعم لحركة “ماجا” موقفًا واضحًا لصالح سحب القوات الأمريكية من أوروبا، كما عبّر عن ذلك ستيف بانون بدعمه فكرة الدفاع عن الأمريكتين وليس أوروبا. كما جاء ذلك في تحليل إلبريدج كولبي، المستشار الرئيسي لشؤون الدفاع والسياسة الخارجية في البنتاجون، الذي أوضح في ورقة سياسات عام 2023 بعنوان Getting Strategic Deprioritization Right المنطق الكامن وراء تقليص الالتزامات الأمريكية في أوروبا وإعادة توجيه الموارد إلى مناطق أخرى[7].
وختامًا؛ لم تعد إدارة دونالد ترامب الثانية، بهذا المعنى، تنظر إلى أوروبا كحليفٍ استراتيجي متساوٍ، ولا حتى كشريكٍ يُدار بالودّ والمصالح المشتركة، بل كقارةٍ يجب إجبارها – بالترغيب تارةً وبالترهيب تارة أخرى- على استعادة “عظمتها” بنفسها، أو مواجهة مصيرها الحضاري والأمني وحدها.
إن وثيقة استراتيجية الأمن القومي لعام 2025، بلهجتها غير المسبوقة، لا تُعلن فقط تقويض التحالف الأطلسي القائم على القيم الليبرالية المشتركة منذ الحرب العالمية الثانية، بل تُبشّر بولادة نظامٍ جديد عبر الأطلسي: تحالفٌ انتقائي، غير ليبرالي، يربط واشنطن مباشرةً بالقوى القومية والشعبوية الصاعدة في أوروبا، متجاوزًا – بل مُعاديًا أحيانًا – المؤسسات الأوروبية التقليدية ونُخبها، فإذا استمر هذا المسار خلال السنوات المقبلة، فإننا سنشهد أكبر انفصال منذ عام 1945، وربما أخطر تحول جيوسياسي في القارة الأوروبية منذ نهاية الحرب الباردة؛ فإما أن تكون أوروبا موحدة وقوية بما يكفي لتحل محل الدعم الأمريكي، من خلال استقلالها الاستراتيجي وصناعاتها الدفاعية وموارد طاقتها الآمنة، أو تصبح أوروبا مجزأة وضعيفة مقسمة بين قوى قومية مدعومة أمريكيًا من جهة ومؤسسات ليبرالية تفقد مصداقيتها تدريجيًا من جهة أخرى. وفي كلتا الحالتين، فإن الرسالة الأمريكية وصلت بوضوح قاسٍ: عصر “أمريكا حامية أوروبا” انتهى.