دلالات اسئتناف محادثات جدة لوقف الحرب في السودان

تمكنت ميليشيا “الدعم السريع” بقيادة محمد حمدان دقلو منذ بدء تمردها على الجيش السوداني في 15 إبريل الماضي من الحفاظ على جانب من تمركزاتها والسيطرة على مواقع ومنشآت هامة بالعاصمة الخرطوم وتشمل مناطق مطار الخرطوم الدولى ومجمع اليرموك للصناعات العسكرية ومزاعم السيطرة على 70% من ولايات دارفور الخمس، كما زعمت تفوقها نسبيًا في السيطرة على المنافذ والجسور التي تربط بين مدن العاصمة الثلاث.

ومع اشتداد حدة الصراع بين الميليشيا والجيش السوداني وارتفاع حصيلة الوفيات إلى أكثر من تسعة آلاف قتيل، أعلنت وزارة الخارجية السعودية عن استئناف المباحثات بين الطرفين بمدينة جدة وذلك بوساطة من الولايات المتحدة الامريكية والمملكة العربية السعودية، وتتركز المفاوضات على تسهيل إيصال المساعدات الإنسانية وتحقيق وقف إطلاق النار ومحاولة التوصل لوقف دائم للأعمال العدائية.

وتأسيسًا على ما سبق: يحاول هذا التحليل الإجابة عن التساؤلات الآتية: ما هي أسباب ودوافع استئناف المفاوضات في الوقت الحالي وما هو الهدف من إجرائها ؟ وإلى أي مدى ستثمر هذه المفاوضات فى إيجاد حل للأزمة السودانية ؟

دوافع الدعوة لاستئناف المفاوضات

بدأ تصاعد الصراع بين ميليشيا “الدعم السريع” والجيش السودانى بسبب الحديث عن دمج تلك القوات لتصبح تابعة للجيش والذي رفضته قيادة الميليشيا ممثلة في “حميدتى” بمزاعم أن هذا الدمج سيؤدى لتفكيك البلاد، وتسليمها لمؤيدي وفلول النظام السابق، وقد أدى عدم التوصل لاتفاق بشأن دمج القوات إلى بدء الحرب، ورغم فشل المفاوضات السابقة إلا أن عودة الطرفين للمفاوضات يعود للأسباب التالية:

(*) التداعيات الكارثية للحرب : وصفت الأمم المتحدة ما يحدث فى السودان الآن من اقتتال شديد بالكارثة الانسانية حيث أدى الصراع إلى حاجة 24 مليون شخص (أي ما يقرب من نصف سكان البلاد) بما في ذلك 14 مليون طفل إلى الغذاء و مساعدات أخرى، لكن 2.5 مليون فقط تلقوا المساعدات الانسانية وذلك بسبب القتال ونقص التمويل، كما فر من القتال ما يقرب من 5.6 مليون شخص داخل أو خارج البلاد وقُتل 18 من عمال الإغاثة.

وقد أدى استمرار هذه الحرب إلى تعرض أكثر من ألف مبنى حكومي وخدمي على الأقل لدمار كبير من بينها مبان تاريخية كالقصر الجمهورى والمتاحف القومية وعدد من أبراج الوزارات والبنوك، وقدرت الخسائر الاقتصادية بأكثر من 100 مليار دولار، كما توقف أكثر من 400 مصنع عن العمل، وقد تسببت كذلك في تدمير واسع للبنية التحتية والتي تشمل شبكات المياه والكهرباء والطرق والجسور وغيرها.

كما توفي أكثر من ألف شخص من مرضى الكلى والأمراض المزمنة بسبب نقص الأدوية والخدمات الطبية المقدمة لهم وأصبح أكثر من 10 ملايين طالب خارج مقاعد الدراسة وذلك بسبب قصف “الدعم السريع” للعديد من المدارس .

هذا بالإضافة إلى تضرر الاقتصاد السوداني فنجد أن الحكومة السودانية عجزت عن صرف رواتب العاملين في جهاز الدولة نتيجة انخفاض وتوقف نشاط الأعمال بسبب تدني التحصيل الضريبى الذي يسهم بنسبة 57 % من فاتورة سداد الديون والمرتبات، كما توقع صندوق النقد الدولي انكماش الاقتصاد السوداني بنسبة 18.3 % وهو الأكبر فى تاريخ السودان، وفقدت العملة السودانية قرابة 70% من قيمتها.

(*) موقف القوى السياسية والمجتمعية من الحرب: جاء استئناف المفاوضات في ظل مساع مدنية لإيقاف الحرب ظهرت في عدد من اللقاءات والاجتماعات بدول الجوار، كان آخرها في أديس أبابا، وهي على النحو التالي:

– اجتماعات اديس ابابا : أعلن تحالف قوى الحرية والتغيير عن انعقاد اجتماع القوى المدنية في العاصمة الإثيوبية أديس أبابا في الفترة من 21 اكتوبر إلى 25 أكتوبر الماضي برعاية كل من الاتحاد الإفريقي والهيئة الحكومية لتنمية دول شرق إفريقيا “إيجاد” وتنظيم الأسود الحرة والجبهة الثورية وحركة العدل والمساواة والحزب الاتحادى الموحد وغيرها من القوى السياسية ، كما شاركت 5 من تنسيقات لجان المقاومة وهي أمدرمان القديمة والحاج يوسف وأم بدة ودار الإسلام وشرق النيل إلى جانب عدد كبير من التنظيمات النقابية والمهنية.

وأعلن المجتمعون أن الهدف الرئيسى للاجتماع إيقاف الحرب، حيث دعوا لوقف دائم لإطلاق النار ووقف الاعمال العدائية والإصلاح المدني والعسكري كبند أساسي وفتح ممرات آمنة للإغاثة برقابة دولية واعتماد طرق جديدة لدخول المعونات، وناشدوا الحركة الشعبية-شمال بقيادة عبدالعزيز الحلو بفتح مسارات الرعي لتجنب تمدد الحرب فى كردفان الكبرى.

 وتبنى المجتمعون الدعوة لتأسيس تحالف مدني مناهض للحرب وانتهى الاجتماع بتأسيس الهيئة القيادية التحضيرية للجبهة المدنية للديموقراطية والتي اختارات اسم “تقدم” واختيار رئيس الوزراء السابق عبدالله حمدوك رئيسًا للقيام بالمهام الرقابية والإشرافية ومتابعة التحضير للمؤتمر التأسيسي خلال ثمانية أسابيع.

ووافقت الجبهة المدنية في البيان الختامي على منح 70% من الهيئة القيادية للقوى غير الحزبية من لجان المقاومة والنقابات والأجسام المهنية والتنظيمات النسائية ومبادرات المجتمع المدنى بينما تم منح التحالفات السياسية وحركات الكفاح المسلح 30% فقط ، كما أجاز الاجتماع ورقة أسس ومبادئ إنهاء الحرب وتأسيس الدولة السودانية ومن أهم نصوصها أن تصورات الحلول السياسية يجب أن تحافظ على وحدة السودان وقيام دولة مستقلة ذات سيادة.

وقد تم التأكيد على أن جهود وقف الحرب يجب أن تقوم على عملية سياسية تفاوضية لا تستثني أي فصيل سياسي سوى المؤتمر الوطني والحركة الإسلامية وواجهاتهما وكل من يدعم حرب 15 أبريل 2023.

– اجتماعات القاهرة : كانت قوى الحرية والتغيير (المجلس المركزي من جهة والكتلة الديقراطية وحلفائها من جهة أخرى) قد عقدتا اجتماعات فى العاصمة المصرية القاهرة بهدف وضع رؤية سياسية لوقف الحرب وواصل نائب رئيس مجلس السيادة السوداني مالك عقار لقاءاته التشاورية مع عدد من الشخصيات السياسية وغير الحزبية السودانية بالقاهرة، وقد توصلت قوى الحرية والتغيير إلى إعلان مشروع خريطة طريق لحل الأزمة السودانية والذي تضمن مجموعة من المقترحات المعروضة للحوار مع مختلف القوى السودانية لوقف الحرب ومعالجة تداعيتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية.

وتضمنت خريطة الطريق محورين رئيسين الأول يتعلق بوقف دائم لإطلاق النار والتأكيد على دعم منبر جدة واقتراح تشكيل آلية وطنية عليا للإشراف على تنفيذ وقف إطلاق النار وتوزيع المساعدات الإنسانية والمحور الثانى يتضمن القضايا السياسية وتشكيل حكومة تصريف أعمال وصولًا إلى تشكيل حكومة انتقالية وإطلاق حوارسوداني شامل.

عقدت الهيئة القيادية التحضيرية لتنسيقية القوى المدنية الديموقراطية “تقدم” أولى اجتماعاتها الرسمية وذلك يوم الخميس 2 نوفمبر 2023 وترأس الاجتماع رئيس الهيئة عبدالله حمدوك وأكد الاجتماع على ضرورة التخطيط المحكم لعقد المؤتمر التأسيسى فى توقيته ومضاعفة الجهود لوقف الحرب ومعالجة الأزمة الانسانية في السودان، وثمن الاجتماع جهود الرياض وواشنطن و”الاتحاد الإفريقي” و”إيجاد” في منبر جدة وحث القوات المسلحة و”الدعم السريع” على الاستمرار في المباحثات وصولًا لعملية سياسية تنهي الحرب.

(*) الموقف الداخلي من الحرب: انقسم القوى السياسية والمجتمعية في السودان إلى ثلاث فئات بشأن الحرب، الفئة الأولى تؤيد الجيش السوداني فمنذ اندلاع الحرب أعلن الكثير من السودانيين تأيدهم ودعمهم للجيش دعمًا لبقاء واستمرار الدولة ووحدة أراضيها باعتباره أحد رموز سيادتها، والفئة الثانية قريبة من “الدعم السريع” تؤيد الاتفاق الإطاري وعلى أمل أن يفضي ذلك إلى تسليم مقاليد الأمور إلى حكم مدني، وتتهم الجيش بموالاة أنصار النظام السابق، أما الفئة الثالثة تتألف من شرائح مختلفة من الشعب السوداني والمستقلين ولجان المقاومة من شباب الثورة وقوى اليسار اتخذت الحياد موقفًا رسميًا ودعت إلى وقف الحرب وطالبت القوى الإقليمية والدولية بالضغط على الطرفين لإنهاء الاقتتال.

ملامح جولة المفاوضات الحالية

فشلت كافة المساعى للتوصل إلى هدنة لوقف القتال وتحقيق الأمن والسلام للشعب السوداني ومع ضغط القوى المجتمعية والدول الإقليمية لوقف الحرب دعت المملكة العربية السعودية لاستئناف المفاوضات من جديد والتي تم تعليقها بسبب انتهاكات إطلاق النار وعدم استجابة “الدعم” لمطالب الخروج من منازل المواطنين، وقد أكدت القوات المسلحة السودانية أنها وافقت على مقترح بوقف إطلاق النار على الرغم من عدم التزام ميليشيا “الدعم السريع” بتنفيذ النقاط التي تم الاتفاق عليها في اتفاق جدة السابق وأهمها الخروج من الأحياء السكنية والكف عن استخدام المواطنين دروعًا بشرية واخلاء المستشفيات والمؤسسات العامة ومرافق الخدمات وهذا ما دفع القوات المسلحة السودانية لتعليق التفاوض.

(&) مشاركة المنظمات الإقليمية: حيث لم تنجح محاولات الوساطة السعودية الأمريكية من قبل في إحراز أي تقدم بل يعتبر أقصى ما توصلت إليه هو فترات قصيرة لوقف إطلاق النار، ومن اللافت انضمام ممثل مشترك لكل من الاتحاد الإفريقي والهيئة الحكومية للتنمية لدول شرق افريقا “إيجاد” إلى المحادثات.

(&) بحث وقف إطلاق النار إنساني رغم استمرار المواجهات: وقد نص بيان وزارة الخارجية السعودية على أن هذه المباحثات ترتكز على تسهيل إيصال المساعدات الإنسانية، وتحقيق وقف إطلاق النار وإجراءات بناء الثقة، وبحث إمكانية التوصل لوقف دائم للأعمال العدائية، كما أكدت أن هذه المحادثات لن تتناول قضايا ذات طبيعة سياسية.

ورغم قبول الطرفين الدعوة لاستئناف المفاوضات ولكن الجيش السوداني شدد على اسمرار معركة الكرامة الوطنية، كما أعلنت ميليشيا “الدعم السريع” عن أملها أن يكون وفد الطرف الآخر قد جاء الى جدة موحدًا ومستقلًا برأيه- على حد زعمه- عن إملاءات حزب المؤتمر الوطني المنحل وأن يملك التفويض اللازم للتحدث باسم القوات المسلحة السودانية.

وقد رحبت الأمم المتحدة باستئناف المحادثات بين ممثلي القوات المسلحة وميليشيا “الدعم السريع” كما عبرت عن أملها بأن تؤدي هذه الجولة الجديدة من المفاوضات لتنفيذ إعلان مبادئ جدة لحماية المدنيين الموقع بين طرفي الحرب في مايو الماضي، وأكدت أنها ستواصل العمل مع الجهات الفاعلة الدولية والإقليمية لدعم جهود الوساطة الجارية من أجل التوصل إلى حل سلمي للصراع في السودان .

وعلى الرغم من استئناف المفاوضات إلا أن القتال لم يتوقف، بل من الملاحظ أن “الدعم السريع” أعلنت سيطرة مقاتليها بشكل كامل على مواقع الجيش في نيالا عاصمة جنوب دارفور وثاني أكبر مدينة في السودان من حيث عدد السكان، وشهدت نيالا موجات من القتال العنيف وأودى القصف الجوي بحياة العشرات وبالتالي فإن المفاوضات حتى الآن لم تتمكن من وقف إطلاق النار أو حماية المدنيين.

وختامًا؛ فإن الأوضاع في السودان شائكة ومعقدة للغاية ومن الصعب التوصل لحل سريع لوقف القتال، وبالتالى فإنه من المتوقع أن تمتد هذه الحرب لفترة أطول ويرجع ذلك لعدة أسباب وهي أن هذه الحرب تجري بين الجيش الوطني وأكبر قوة شبه عسكرية في السودان، كما أن سيطرة “الدعم السريع” على منجم ذهب جبل عامر ومناجم أخرى جنوب كردفان زاد من قوتها وتناميها، كما زاد فى نفوذ حميدتى السياسي والعسكري.

بالإضافة إلى رفض تقديم أي تنازلات على طاولة المفاوضات قبل توجيه ضربة قاسمة للطرف الآخر عسكريًا، وهذا ما لم يتحقق في الحرب منذ بدايتها، كما أن وجود عدد كبير من الحركات المسلحة في السودان يشكل عامل خطر في حال انضمام هذه التشكيلات للحرب والذي من شأنه زيادة حدتها فنجد أن هناك العديد من الجماعات المسلحة تؤيد الجيش السودانى مثل حركة تحرير السودان (مصطفى تمبور)، بينما أعلنت حركات أخرى قتال الجيش بصفة منفردة مثل الحركة الشعبية لتحرير السودان-شمال (جناح عبد العزيز الحلو) أو بالانضمام إلى ميليشيا “الدعم السريع” مثل حركة تمازج وحركة درع السودان.

وبالتالي فإنه من الصعب أن تتوصل مفاوضات جدة إلى حل نهائى بشأن الحرب راهنًا، ولابد من تكاتف القوى الإقليمية والدولية والعمل على التعاون المشترك من أجل وقف هذه الحرب وإنقاذ الشعب السوداني والحفاظ على الدولة ومؤسساتها الرسمية.

نادين مطر

باحث مساعد بوحدة دراسات الأمن الإقليمي، خريجة كلية الدراسات الاقتصادية والعلوم السياسية جامعة الإسكندرية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى