دلالات زيارة ولي العهد السعودي إلي باريس

في الـ 14 من يونيو 2023، توجه الأمير محمد بن سلمان، إلي باريس، في زيارة رسمية التقى خلالها الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون. ووفقا لوكالة الأنباء السعودية “واس”، هدفت هذه الزيارة إلى مناقشة تداعيات أزمات الاقتصاد والمناخ والطاقة وما يترتب عليها، خصوصا في البلدان النامية، كما تم طرح الحلول المالية لهذه الأزمات للنقاش. وأضافت الوكالة أن ولي العهد سيشارك خلال الزيارة “في حفل استقبال المملكة الرسمي لترشح الرياض لاستضافة إكسبو 2030” المقرر عقده في باريس يوم الاثنين المقبل.

تأسيسا على ما سبق، يحاول هذا التحليل قراءة أسباب الزيارة وانعكاساتها وحدود تأثيرها على القضايا المتشابكة بين الدولتين.

أسباب اللقاء:

يبدو أن العلاقات السعودية – الفرنسية ستكتسب بعدا جديدا في الفترة الحالية والمقبلة، نظرا للمتغيرات الإقليمية والدولية، وضرورة التشاور والتنسيق بين الجانبين، لاسيما أن بينهما تناغما أو تقاطعا إزاء الكثير من الملفات سواء عالمية أو شرق أوسطية. كانت القمة الثنائية بين ولي العهد الأمير محمد بن سلمان والرئيس ماكرون، واللقاء الموسع بين الوفدين السعودي والفرنسي، فرصة للإحاطة بتحديات المرحلة، وحرصا على العمل المشترك من أجل السلام العالمي والاستقرار الإقليمي والتحول في مجالات الطاقة والتخفيف من آثار التغير المناخي. حيث يسعي كل منهما إلي تحقيق نقلة نوعية لجهة تعزيز العلاقات الثنائية وحجم المبادلات، بالإضافة إلى العمل من أجل تهدئة مستديمة للنزاعات خاصة في منطقة الشرق الأوسط، والإسهام في بلورة بدائل مشتركة للتنمية ومكافحة الفقر وأزمة المناخ.

تحظي هذه الزيارة برعاية ومشاركة الأمير محمد بن سلمان حفل الترشيح الرسمي من أجل استضافة مدينة الرياض معرض “إكسبو 2030”. إلي جانب ترأسه أيضا الوفد السعودي المشارك في قمة “من أجل ميثاق مالي عالمي جديد” التي تعقد يومي 22 و23 يونيو، في مقر “منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية”. والتي يعول فيها الرئيس الفرنسي ماكرون على التعاون السعودي من أجل إصلاح النظام المالي الدولي (إصلاح بنوك التنمية متعددة الأطراف وأزمة الديون، وتمويل التكنولوجيا الخضراء) بعد مرور 80 عاما على مؤتمر بريتون وودز.

نتائج متنوعة:

علي المستوي السياسي، يمكن القول، تأتي خصوصية العلاقة بين الرياض وباريس في تناول قضايا وملفات السلم والأمن علي المستويين الإقليمي والدولي والتي يدعمها هذا اللقاء بين الطرفين. إلي جانب أن مقاربة إدارة بايدن لعلاقتها مع الرياض وعدم تماسك سياستها الإقليمية، أحدثا انقلابا جيوسياسيا لصالح الصين وروسيا، لكن باريس لم تتأثر به نظرا لتمسك ماكرون بعلاقته مع الرياض، والحفاظ علي الشراكة الممتدة حتي مع اختلاف وجهات النظر إزاء بعض الملفات، بل والعمل علي تقويتها، وكذلك زيارته الهامة إلى المملكة العربية السعودية في 2021 والتي أدت إلى بلورة علاقة تشاور ودي متواصل مع الأمير محمد بن سلمان.

في ظل هذا الإطار من الثقة المتبادلة والحوار الدائم، عمل الطرفان على التنسق في كثير من الملفات السياسية خلال هذا اللقاء، أبرزها:

(*) الحرب الروسية – الأوكرانية: لم يكن سرا طلب الرئيس ماكرون من الرياض، القيام بجهد خاص لدى الرئيس الروسي بوتين من أجل وقف الحرب، فهو يسعى لإقناع السعودية باستخدام نفوذها لدى روسيا لإيجاد مخرج من هذه الحرب الدائرة يحفظ سيادة وسلامة أوكرانيا، باعتبار أن الجانب السعودي لديه القدرة للتحدث إلى الجانبين الروسي والأوكراني معا. وكان ماكرون قد أشاد علنا باستقبال الرياض للرئيس الأوكراني زيلينسكي خلال القمة العربية الماضية. واتفق الطرفان على المزيد من التنسيق من أجل إيجاد “مخرج للنزاع ولتكثيف التعاون من أجل خفض تأثيرات الحرب في أوروبا والشرق الأوسط وبقية أنحاء العالم”. وهو ما برز في البيان الذي صدر عن قصر الإليزيه.

(*) الأزمة في لبنان: كان من المفترض أن يكون لأمن منطقة الخليج العربي والشرق الأوسط وأزماته الحصة الأكبر من الاهتمام. ولكن البيان الصادر عن قصر الإليزيه الخاص بالاجتماع الثنائي، لم يذكر بالاسم إلا ملف “لبنان” في سياق مجمل الأزمات التي تضرب المنطقة، إذ ورد في البيان نصا “التشديد على ضرورة وضع حد سريعا للفراغ السياسي والمؤسساتي في لبنان الذي يشكل العقبة الحائلة دون إيجاد حل للأزمة الاجتماعية- الاقتصادية العميقة”.

وطوال السنوات الماضية كانت الأزمة اللبنانية حاضرة على جدول أعمال الجانبين. وتأتي زيارة الأمير محمد بن سلمان إلى باريس في لحظة حرجة في هذه الأزمة، وذلك بعد دوام الاستعصاء في الشغور الرئاسي بعد آخر جلسة انتخابات، وبعد تعيين الرئيس ماكرون لوزير خارجيته السابق جان إيف لودريان، مبعوثا شخصيا له إلى لبنان. ويبدو أن الطرفين تجاوزا التسميات والمقترحات السابقة، وأكدا على “عدم السماح بتفاقم الوضع اللبناني والضغط من أجل إيجاد مخرج إنقاذي” يمكن أن تتضح معالمه في الأسابيع القليلة القادمة.

(*) صعيد إقليمي أشمل: حيث أعرب الطرفان عن “تمسكهما المتبادل بالأمن والاستقرار في الشرقين الأدنى والأوسط، وشددا على رغبتهما في مواصلة تنسيق جهودهما من أجل تهدئة مستديمة للنزاعات” ولكن دون التطرق إلي ملف بعينه. ويذكر أن فرنسا أشادت بموقف المملكة وجهودها لإيجاد حل سياسي للحرب القائمة في السودان. لكن الملفات الأخرى مثل عودة سوريا إلى الجامعة العربية والسياسة الإيرانية في الإقليم خاصة بعد الاتفاق السعودي الإيراني واستئناف العلاقات بينهما، وما تتوقعه الرياض من مسارها الجديد إزاء طهران، لم تكن موضع قراءة بين الطرفين. وركز الرئيس الفرنسي على “التزام بلاده بأمن واستقرار المملكة العربية السعودية واستعدادها لمواكبتها في إطار تعزيز قدراتها الدفاعية”.

أما علي المستوي الاقتصادي، فقد كان البعد الاقتصادي هو الطاغي، فقد توافق الطرفان السعودي والفرنسي على “تطوير وتعميق الشراكة” التي تربطهما، ولفت الأنظار إبداء الرئيس ماكرون حرصه على إعادة تأكيد رغبة الشركات الفرنسية في مواكبة المملكة في مشاريعها الطموحة في إطار “رؤية 2030″، وأبرزها مشاريع “الانتقال الطاقوي” وإنتاج الطاقة النظيفة الشمسية والهيدروجين والتقنيات الجديدة. ويبدو أن المجموعات والشركات الفرنسية التي زاد عددها ونشاطها داخل المملكة منذ زيارة ولي العهد في 2018، تتطلع أيضا للاستثمار والتبادل في المجالات المتنوعة مثل الأمن والدفاع.

ولم يغفل البيان المشترك الإشارة إلى التعاون الثقافي الوثيق بين الجانبين، من موقع العُلا الأثري إلى تعليم اللغة الفرنسية والتكوين المهني والرقمي والبحوث العلمية، وهو ما يبين الاهتمام الفرنسي بمواكبة التحول الاجتماعي والثقافي والتنموي في المملكة.

الدبلوماسية السعودية تجاه فرنسا:

العلاقات بين الرياض وباريس قامت على الصداقة، والتعاون الاقتصادي في المقام الأول، ثم تطورت بعد ذلك لتشمل شراكة استراتيجية علي نطاق واسع. وعلي الرغم من عدم وجود تناغم على طول الخط بالنسبة لقضايا معينة، برز الحرص الدائم من البلدين على ديمومة وأهمية العلاقات بينهما، خاصة في عهد الأمير محمد بن سلمان، والتي اشتملت علي العديد من المصالح الاستراتيجية المشتركة والمتمثلة في، حفظ الأمن وبذل الجهود الثنائية لمحاربة الإرهاب، والمناقشات المستمرة بشأن الأزمات والقضايا التي تؤدي إلي توتر الأوضاع في المنطقة. وتعد الزيارات الرسمية الثنائية المنتظمة خير دليل على قوة العلاقات بينهما. كما تشير كافة المعطيات علي أرض الواقع حاليا إلى ازدياد فرص التعاون الاستراتيجي بين المملكة وفرنسا، خاصة مع تعاظم حاجة كل منهما للشراكة والتعاون في المرحلة الراهنة في ظل التغيرات الطارئة علي ساحة النظام العالمي.

كان آخر اللقاءات الرسمية التي جمعت ولي عهد السعودية والرئيس الفرنسي في باريس، في يوليو 2022، وذلك في ظل ارتفاع أسعار الطاقة على خلفية الحرب الروسية الأوكرانية. وناقش الجانبان حينها العديد من القضايا والملفات الهامة، أبرزها أزمة الطاقة والبرنامج النووي الإيراني. وفي نوفمبر الماضي، التقى ولي العهد السعودي، قادة عديد من الدول، بينهم الرئيس الفرنسي ماكرون ورئيس الوزراء السنغافوري لي هسين لونغ، على هامش قمة التعاون الاقتصادي لمنطقة آسيا والمحيط الهادئ في بانكوك.

جدير بالذكر أنه في زيارة وزلي العهد السعودي لفرنسا في يوليو 2022، تم الإعلان عن تأسيس “مجلس شراكة استراتيجية فرنسي- سعودي”، من أبرز أعماله تعزيز أوجه التعاون في مجالات الطاقة وبناء السفن والفرقاطات في المملكة العربية السعودية، وفقا للبروتوكولات والاتفاقيات السابقة، وهناك تعاون آخر يتعلق بتصنيع هياكل الطيران داخل المملكة، وتعاون تكنولوجي جديد في مجال الاتصالات والثورة الرقمية.

لكن لزيارة ولي العهد هذه المرة طابع خاص، فهي تأتي لبيان خصوصية العلاقات السعودية – الفرنسية وتؤكد علي أهميتها، استنادا إلى شراكة استراتيجية متجذرة ومتنوعة، وإلى أواصر من الثقة جرى نسجها بين البلدين، وهذه الزيارة هي الثالثة للأمير محمد بن سلمان منذ توليه لمهامه، ويدل ذلك على حيوية دبلوماسيته تجاه العلاقات الثنائية وأهمية المبادلات بالنسبة للجانبين. إلي جانب الدور الدبلوماسي إجمالا الذي تنتهجه المملكة علي يده، ليس فقط إزاء الشأن الإقليمي، بل والشأن الدولي أيضا.

يبدو أن ولي العهد اختار الوقت المناسب لعرض مشاريع المملكة المستقبلية والترويج لها من باريس، فعلى الرغم من التوجه الذي اتخذته الرياض بشكل متزايد نحو الشرق، تظل باريس شريكا مهما. حيث أن السعودية هي أهم مستورد للأسلحة في العالم، خاصة من أمريكا وفرنسا، ما يسمح للأخيرة بأن تكون في المرتبة الرابعة من بين الدول المصدرة للمملكة في مختلف قطاعات التصدير، مما قد يعني مستقبلا التحرر السعودي من التبعية الأمريكية في مجال التسليح، كما أن الرياض وقعت عقودا مختلفة في ورش بناء البنية التحتية مع كبرى الشركات الفرنسية.

إضافة إلى القمة الدولية التي تستضيفها باريس بين 22 و23 يونيو الحالي للتوصل إلى ميثاق مالي دولي، ويشارك ولي العهد السعودي في هذه القمة أيضا. والهدف من هذا الميثاق، كما أوضح القصر الرئاسي الفرنسي، هو ضخ الأموال والاستثمارات الخاصة والعامة للدول والشعوب الأكثر حاجة لها ولإبعاد شبح الفقر ومساعدتها على إنجاز التحول في الطاقة والبيئة. كما سيشارك الأمير محمد بن سلمان في احتفال إعلان ترشح الرياض لاستقبال “إكسبو 2030″، وهو أمر توليه الرياض أهمية خاصة وحصل على دعم باريس. وهذا يفسر لماذا تلعب الدبلوماسية السعودية هذا الدور في الوقت الحالي تجاه الجانب الفرنسي.

تزايد الدور الفرنسي:

يسعى الرئيس الفرنسي لمواجهة أزمة الطاقة التي باتت تؤثر سلبا على النمو في بلاده وفي كامل الاتحاد الأوروبي حيث تشعر باريس مثل بقية العواصم الغربية بقلق لقرار خفض إنتاج النفط بمعدل مليونين ونصف مليون برميل يوميا ضمن اتفاق أوبك. وتعتبر فرنسا علي غرار الولايات المتحدة الأمريكية أن ذلك سيزيد أن ذلك سيزيد الضغوط عليها بسبب توقف إمدادات النفط الروسية حيث عانت فرنسا بالفعل من تداعيات نقص الطاقة وشوهدت خلال الفترة الماضية طوابير طويلة أمام محطات البنزين. ورغم أن فرنسا عولت على تنويع مصادر الحصول على الطاقة والمحروقات بعقد اتفاقيات مع الجزائر وكذلك مع قطر وغيرها من الدول لكن نتيجة توتر العلاقات الجزائرية الفرنسية، أدي إلي فرض لجوء باريس إلى الرياض كحل جديد لأزمة الطاقة المستعصية قبل حلول فصل الشتاء وعدم تكرار الأزمة.

ذكر مارك لوفاغني المختص في شؤون الشرق الأوسط قوله أن “ماكرون يبحث عن مستثمرين أجانب لمساعدة فرنسا في الأزمة الراهنة، كما أن باريس تسعى لضمان الأسواق الخارجية خاصة ما يتعلق ببيع الأسلحة”. وفي السياق ذاته، انطلقت صباح الثلاثاء 13 يونيو الجاري في باريس، وتحديدا في مقر وزارة الاقتصاد، فعاليات منتدى “رؤية الخليج” الذي تنظمه هيئة الترويج للحضور الفرنسي الاقتصادي والتجاري والاستثماري عبر العالم، المسماة “بيزنس فرانس”، وذلك في نسخته الأولى التي يريد الطرفان تحويلها إلى موعد ثابت بالنظر لما يريان فيه من أهمية وفائدة.

وواضح من الكلمات التي ألقيت والمداخلات التي حصلت في اليوم الأول من المنتدى أن الطرفين يستشعران الحاجة لتعزيز علاقة قديمة لكنها تحتاج إلى تجديد وإلى إعطائها مضامين تتناسب مع التطورات التي يعيشها العالم. وكان وزير الاقتصاد والمالية الفرنسي برونو لومير بالغ الصراحة بتأكيده أن “دول مجلس التعاون الخليجي الست تلعب دورا حاسما في موضوع الانتقال إلى الطاقة النظيفة”. وصرح قائلا “إن العالم القديم في منطقة الخليج كان يعني النفط، لكن صورة العالم الجديد بالنسبة للدول الخليجية هي الاستثمار المكثف من أجل الطاقة النظيفة ومحاربة الاحتباس الحراري”.  لذا من الصعب التطرق إلى الملفات الأساسية في الشرق الأوسط من دون الرجوع إلى الرياض، فهي أول منتج للنفط عالميا، إلى جانب العجز بالميزان التجاري الذي تعاني منه فرنسا منذ عام 1974. ما يفسر رغبة باريس بتوقيع عقود الشراكة الجديدة معها

يبدو أيضا أن ماكرون يريد تقديم بلاده، أنها في طليعة الدول الساعية إلى تحقيق النقلة البيئوية والاقتصاد الأخضر عديم الكربون. فهي تريد أن تعزز من تعاون الشراكات الفرنسية مع دول الخليج للعمل معا في مواجهة نتائج الاحتباس، خاصة وأن الدول الخليجية تمتلك الثروات الطبيعية الهائلة وأيضا المصادر المالية من أجل التوجه نحو الاقتصاد الأخضر.

في النهاية يمكن القول، هناك جو إقليمي وعالمي ملائم لتأسيس تحالف استراتيجي بين السعودية وفرنسا. وهذا سيمنح كلا البلدين ثقلا استراتيجيا يمكن استثماره لموازنة علاقتيهما مع الولايات المتحدة الأمريكية، بشكل عام، وفي المنطقة بشكل خاص. وبالإضافة لذلك، فإن الظروف التي يمر بها الشرق الأوسط حاليا، وتغير توجهات فرنسا تجاه تحالفاتها في المنطقة، تفتح المجال أمام هذا التحالف. ولكن يبقى الأمر مرهونا بالرغبة السياسية لدى الطرفين، ومدى تقديرهما للمصالح وملائمة الوقت لعقد هكذا تحالف.

سارة أمين

سارة أمين- باحث في شئون الشرق الأوسط، الباحثة حاصلة علي ماجستير في العلوم السياسية، شعبة العلاقات الدولية، متخصصة في دراسة شئون الشرق الأوسط والخليج العربي.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى