ما موقف الغرب من ترشح أردوغان في الانتخابات المقبلة؟
لا زالت أصداء صدور حكم قضائي في تركيا بسجن أكرم إمام أوغلو رئيس بلدية اسطنبول والعضو في حزب الشعب الجمهوري المعارض مستمرة داخل تركيا وخارجها، في ظل وجود علامات استفهام عديدة حول دلالات وتوقيت صدور مثل هذا الحكم القضائي، خاصة بعدما فسره البعض بأنه تم نتيجة إيعاز سياسي من حكومة العدالة والتنمية – وأردوغان تحديدًا – بعدما سطع نجم إمام أوغلو في الفترة الأخيرة، إلى الدرجة التي صورت للرأي العام وأحزاب المعارضة بأنه المنافس الأمثل لأردوغان.
ووفقا لما تقدم، يناقش هذا التحليل أسباب صدور الحكم القضائي بحق أكرم إمام أوغلو في هذا التوقيت الحرج، ومدى تأثيره على حظوظ المعارضة التركية في الانتخابات المقبلة، وحظوظ أردوغان في المقابل، كما سيناقش التحليل مدى احتمالية أن يكون هناك داعم خارجي لإمام أوغلو وتحركات المعارضة بوجه عام.
الطاولة السداسية:
يعيش أردوغان حاليًا في إطار جملة من التوترات داخليا وخارجيا، بالتزامن مع بدء العد التنازلي لموعد إجراء الانتخابات الرئاسية والبرلمانية المقرر إجرائها في يونيو المقبل. فأردوغان لا زال يواجه أزمة اقتصادية قاسية نتيجة لتداعيات الحرب الروسية الأوكرانية وارتفاع أسعار الطاقة، فضلًا عن بعض السياسات الحكومية الخاطئة، ناهيك عن حرب التصريحات الداخلية الآخذة في التزايد بين حكومة العدالة والتنمية – وأردوغان بالتحديد – وأحزاب المعارضة، والتي يحاول كل طرف توظيفها كدعاية سياسية تعينه على جذب الأصوات قبل بضعة أشهر من الانتخابات. ناهيك عن معاركه السياسية الخارجية خلال الفترة الراهنة.
بالتزامن مع ذلك، نجحت أحزاب المعارضة في تنحية خلافاتها جانبًا بالاجتماع حول طاولة واحدة، تضم حزب الشعب الجمهوري، وحزب الجيد، وحزب الديمقراطية والتقدم، والحزب الديمقراطي، بالإصافة إلى حزبي المستقبل والسعادة. وهي أحزاب تجذب قاعدة شعبية كبيرة من المواطنين ما بين الليبراليين والمحافظين والإسلاميين والقوميين، على أمل أن يثمر الاجتماع عن مرشح توافقي نهائي ينافس أردوغان في الانتخابات المقبلة.
ورغم القاعدة الشعبية الواسعة التي يستحوذ عليها حزبي العدالة والتنمية والشعب الجمهوري، إلا أنه لا تزال هناك فئة كبيرة غير محسوبة على أي من الحزبين حتى الآن، وبالتالي فهي في انتظار البرامج والوعود الانتخابية المقدمة من كلا الحزبين حتى تحدد وجهتها النهائية في التصويت.
لذا فإن تأخر المعارضة أكثر في الإعلان عن مرشحها النهائي وبرنامجه الانتخابي، قد يصب في صالح أردوغان، خاصة في ظل نشاط الأخير وحزبه – داخليا وخارجيا – لتصحيح الصورة السيئة التي انطبعت عنه في أذهان الجمهور خلال الفترة الأخيرة.
ويبدو أن المعارضة التركية لم تتفق إلا على إسقاط أردوغان، ولكن خطتها لذلك غير واضحة حتى الآن. غير أن الاجتماع والاتفاق على مسودة حول الدستور الجديد للبلاد هو في حد ذاته إشارة جيدة تجعل المواطنين الأتراك ممن استاؤوا سياسات أردوغان وممن لم يحددوا وجهتهم التصويتية بعد مستعدين لانتظار المزيد من التحالف المعارض.
وبغض النظر عن النتيجة أو مدى الاستفادة من تشكيل التحالف المعارض لأردوغان، فإن جلوس أحزاب المعارضة بشتي انتماءاتها السياسية هو نجاح في حد ذاته، خاصة وأن معظم التوقعات قد رجحت فشل أحزاب المعارضة في الاجتماع أو التوافق على شئ، إلى الدرجة التي دفعت البعض إلى التساؤل حول احتمالية أن يكون ثمة دعم خارجي لهذه التحركات الداخلية المعادية لأردوغان، خاصة من جانب الولايات المتحدة وحلفائها الأوروبيين. وقد يكون هذا الدعم هو ما دفع بعض الأحزاب المعارضة التي كانت مترددة نوعًا ما في الانضمام للتحالف إلى مراجعة حساباتها من جديد، مثل حزب السعادة، لأن التحالف إن كان يحظى بدعم خارجي قوي فهذا سيقوي من فرص الاحزاب المتحالفة – خاصة الصغيرة – في الحصول على مقاعد في البرلمان والحكومة الجديدة.
مشهد ملتبس:
وفي تطور آخر لم يتحدد ما إذا كان أردوغان هو المستفيد منه أم لا؛ أصدرت محكمة تركية قرارا بحبس أكرم إمام أوغلو رئيس بلدية إسطنبول ( لمدة عامين وسبعة أشهر و ١٥ يوما ) بعد اتهامه بإهانة الهيئة العليا للانتخابات، وفي حالة التأكيد على القرار سيحول دون قدرة إمام أوغلو على ممارسة العمل السياسي في توقيت حرج جدا، فلم يتبق على الانتخابات الرئاسية سوى بضعة أشهر، باعتباره أحد أبرز المرشحين المحتملين لهذه الانتخابات.
وعليه، أشارت أصابع الاتهام إلى أردوغان وحزبه بأنهما من دبرا هذه الحادثة، على اعتبار أن القضاء لا يمكنه أن يتحرك بدون إيعاز أو دراية من أردوغان، من أجل إعاقة إمام أوغلو عن منافسته في الانتخابات. واعتبرت وجهة النظر هذه أن أردوغان لجأ إلى الوسيلة نفسها التي لجأ إليها في وقت سابق حينما كان رئيسا لبلدية إسطنبول، بعدما أعادت الحادثة للأذهان لحظة الحكم على أردوغان ومحاولة اغتياله سياسيا بسبب قصيدة ألقاها، الأمر الذي شكل منذ ذلك الحين انطلاقة سياسية لأردوغان مستمرة حتى الآن.
ولكن هناك وجهة نظر أخرى، تري أنه ثمة انقلاب داخلي في صفوف المعارضة التركية، تم بالتعاون بين ميرال أكشينار ( زعيمة حزب الجيد ) وأكرم إمام أوغلو ضد كمال كليتشدار أوغلو ( زعيم حزب الشعب الجمهوري )، لأن الأخير يصر على الترشح للانتخابات القادمة، رغم وجود أصوات رافضة لذلك داخل التحالف المعارض نفسه، ممن اعتبروا أن ترشح كليتشدار أوغلو ضد أكرم إمام أوغلو تشتيتا لأصوات أنصارهم في الانتخابات، مما قد يسفر عن خسارتهم مرة أخرى للانتخابات أمام أردوغان.
خاصة وأن قرار سجن إمام أوغلو شكل دفعة معنوية له، إلى جانب دعم ميرال أكشينار له في التجمعات العامة التي أعقبت صدور القرار القضائي ضده، مما يدعم الطرح الذي يفيد بوجود خلافات داخلية بين المعارضة التركية حول المرشح الأنسب بين الشخصيتين المنتميتين إلى الحزب ذاته.
وأنصار هذا الطرح يرون أن أردوغان ليس ساذجا إلى الدرجة التي تدفعه إلى اتخاذ قرار يرفع من رصيد خصمه في الانتخابات، في ظل وجود احتمال أن يتم تسوية الأمر بدفع إمام أوغلو غرامة مالية، خاصة وأن أردوغان نفسه أكد على أنه لا تزال هناك اجراءات قضائية عدة من شأنها التخفيف من العقوبة أو إلغائها من الأساس.
غير أن الشكوك المحيطة بأردوغان وحكومته قد تتضاعف حال تم تنفيذ الحكم فعليا، لأنه في هذه الحالة سيكون أردوغان المستفيد المباشر والأول بعد منع إمام أوغلو من العمل السياسي بشكل قانوني، إلا إن كان هدفه فقط اللعب على تشويه صورة إمام أوغلو أمام الرأي العام بطريقة ما حال لم تتم إدانته.
أيادٍ خارجية:
بعد صدور الحكم القضائي بحق أكرم إمام أوغلو، توالت البيانات والإدانات من قبل الولايات المتحدة وبريطانيا ودول الاتحاد الأوروبي لهذا القرار، وتم توجيه الاتهامات إلى أردوغان وحزب العدالة والتنمية عموما بتقويض الحريات. فقد وصفت وزيرة الخارجية الألمانية القرار بأنه بمثابة ضربة كبيرة للديمقراطية. وحثت فرنسا تركيا على ” وقف انزلاقها بعيدا عن سيادة القانون والديمقراطية واحترام حقوق الإنسان الأساسية “. كما أصدر الاتحاد الأوروبي بيانا بأن ” هذا الحكم غير متناسب، ويؤكد الافتقار المنهجي لاستقلال القضاء والضغط السياسي غير المبرر على القضاة والمدعين في تركيا “.
كما توالت أيضا التقارير والتحليلات الغربية التي اتهمت أردوغان بالتحديد بتوظيف القضاء لصالحه من أجل إزاحة أبرز منافسيه عن الانتخابات والمشهد السياسي برمته، وبهذا تكون المعارضة قد خسرت أقوى أوراقها. وهي رواية تتبناها بعض عناصر المعارضة التركية داخليا وخارجيا، والتي ترى أن القضاء التركي لم يكن ليصدر هذا القرار أبدا بدون توجيه سياسي من أردوغان وحكومته، خاصة وأن أكرم إمام أوغلو ذو شعبية كبيرة داخل تركيا، مكنته من الفوز في الانتخابات الأخيرة برئاسة ولاية إسطنبول بعد سيطرة لحزب العدالة والتنمية على منصب رئيس الولاية دامت لعقود. الأمر الذي قد يفسر محاولات الاغتيال المعنوي المتكررة لإمام أوغلو من قبل العدالة والتنمية، واستغلال أية هفوات له منذ أن تولى رئاسة ولاية إسطنبول.
ومن هنا جاءت التكهنات باحتمالية وجود مساعي أمريكية بريطانية بالتحديد لإزاحة أردوغان من السلطة، ودعم أكرم إمام أوغلو تحديدا _ أو أى مرشح آخر حال اتفقت عليه المعارضة التركية _ خاصة بعد الإدانات التي وجهتها الولايات المتحدة لقرار القبض على أكرم إمام أوغلو رغم أنه ” شأن داخلي بحت “، وفقا لمسؤولين أتراك. وذلك استنادا إلى عدة مشاهد، أهمها:
- تصريحات الرئيس الأمريكي جو بايدن حينما كان مرشحا للرئاسة عن تحفظه على السياسة الخارجية لتركيا، وحينها قال ” أعتقد أنا علينا اتباع نهج مختلف ضد أردوغان. وأن نؤكد دعمنا لقادة المعارضة بشكل واضح. وكما فعلنا في السابق علينا التواصل بشكل مباشر مع المعارضين، ودعمهم لمنحهم الشجاعة على هزيمة أردوغان. ليس بالانقلاب، بل بالانتخابات “.
- كما شهدت الفترة الماضية عدة لقاءات بين أكرم إمام أوغلو ومسؤولين أمريكان وبريطانيين، كان أبرزها لقاؤه بالسفيرين الأمريكي جيف فليك والبريطاني دومينيك شيلكو.
- وجاءت زيارة السفير الأمريكي لإمام أوغلو بعد وقت قصير فقط من تعرض الأخير لانتقادات داخلية واسعة بسبب ما وجه له من اتهامات حول تقصيره في عمله كرئيس بلدية خلال أزمة هطول الثلوج بشدة على مدينة إسطنبول التي أوقفت الطرق بالكامل. مما دفع البعض إلى اعتبار ان هذه الزيارة أعطت انطباعًا بأن ما يجري هو” استعراض مقصود “.
- حتى أن إمام أوغلو نفسه توجه بعد توليه رئاسة البلدية إلى بريطانيا والولايات المتحدة واليونان.
- كما توجه السفير الأمريكي جيف فليك بعدما قدم أوراق اعتماده للرئيس التركي رجب طيب أردوغان على الفور للقاء رئيس بلدية إسطنبول أكرم إمام أوغلو.
- كما أشار بعض المحللين الأتراك إلى أن وسائل الإعلام الأمريكية ومراكز الدراسات كانت مهتمة كثيرا بإمام أوغلو، ولهذا رجحوا أنه أحد مرشحي الولايات المتحدة.
- ودفع أيضا اختيار السفيرين الأمريكي والبريطاني لمدينة إسطنبول بدلا من العاصمة أنقرة إلى التكهن بأن ما وراء الاهتمام الأمريكي البريطاني بإمام أوغلو يتجاوز التعامل معه كمجرد رئيس للبلدية.
- أضف إلى ذلك، أن أكرم إمام أوغلو قد يكون الأنسب بالنسبة إلى واشطن من حيث ميوله الغربية، خاصة وأن سنه ٥١ سنه فقط، وبالتالي من الممكن أن يكون من ضمن المخطط له أن يخدم المصالح الأمريكية في تركيا ومحيطها لفترة طويلة.
وكل هذا من شأنه أن يؤشر إلى احتمالية أن يكون أكرم إمام أوغلو هو قطعة الدومينو الرابحة التي قد تراهن عليها واشنطن ولندن لإسقاط أردوغان.
ولا شك أن للولايات المتحدة وبريطانيا مبررات كافية للرغبة في إسقاط أردوغان، تتعلق بشخصية أردوغان نفسه التي لا تحبذ التخندق في إطار العباءة الغربية وتبحث عن مزيد من الاستقلالية في تحركاتها الخارجية، وبالتحديد فيما يخص علاقاتها بروسيا، تلك النزعة المتوقع لها أن تتضاعف بعد دور تركيا – وأردوغان تحديدا – خلال الحرب الأوكرانية. وبعدما استعادت أنقرة علاقاتها بدول الخليج التي من الواضح أيضا أنها قد تدعم أردوغان في السباق الانتخابي، مما قد يزيد من قوة أردوغان ويزيد تشبثه بالسلطة لفترة أطول، ومن ثم استمرار تحديه للغرب.
وبالتحديد إذا اكتمل مشروع موسكو وأنقرة الذي يجعل من الأخيرة مركزا لنقل الغاز الروسي إلى العالم، والأهم أوروبا، لأن هذا المشروع من شأنه أن يؤثر سلبا على حجم الصادرات الأمريكية إلى أوروبا بالتحديد، مما قد يفقدها شيئا فشيئا أهميتها بالنسبة للاتحاد الأوروبي على مستويات عدة.
خاصة أن الاتحاد الأوروبي قد يكون في صالحه إتمام المشروع – رغم عدم رضاه بالتأكيد عن تصاعد الدور التركي في المنطقة -، إلا أنه قد يكون الحل الأمثل للخروج من الأزمة الاقتصادية غير المسبوقة خاصة فيما يتعلق بمجال الطاقة، ومن جهة أخرى تحقيق نوع من الاستقلالية عن واشنطن.
وفي الختام، لابد أن نرى كيف سيتعامل أردوغان وحزبه العدالة والتنمية مع هذا الوضع الطارئ ؟، ورغم أنه من المتوقع ألا تصادق المحكمة العليا على قرار سجن أكرم إمام أوغلو وأن تستبدله ربما بغرامة مالية، فإن تبعاته لن يتم تجاوزها ما لم يطرأ تطور سياسي أهم غير متوقع في تركيا، لأنه يظل من الصعب في الوقت الراهن تحديد من المستفيد من القرار.