تداعيات محاولة الانقلاب الفاشلة في ألمانيا

ضجت الأوساط الغربية – والألمانية بالتحديد – خلال الساعات الماضية بعد إعلان السلطات الألمانية عن قيام قوات الشرطة بعمليات مداهمة موسعة شملت ١١ ولاية، شارك فيها نحو ثلاثة آلاف فرد من أفراد النخبة في جهاز مكافحة الإرهاب، وكان المستهدفين منها عناصر تابعة لحركة «مواطني الرايخ»، الذين وجهت إليهم تهمة الشروع في محاولة انقلاب على السلطة، والتخطيط لاقتحام البرلمان، وتهديد العديد من مؤسسات الدولة بشكل عام بطريقة غير مشروعة.

وبناءً على ما تقدم، يحاول هذا التحليل إلقاء الضوء على ماهية حركة مواطني الرايخ المتهمة بمحاولة الانقلاب على الحكم في ألمانيا، ودوافعها، وما إذا كانت هناك احتمالية لوجود دعم خارجي للحركة، ومدى إمكانية أن تتكرر هذه المحالة في دول أوروبية أخرى.

ارتباك داخلي:

أثار إعلان وزارة الداخلية الألمانية عن النجاح في تفكيك «خلية إرهابية» القلق في الشارع الألماني تجاه الأوضاع الأمنية الداخلية في الفترة المقبلة، خاصة إذا اقترنت تداعياتها بزيادة تأزم الوضع الاقتصادي، كما أثار أيضًا ترقب الساسة والمتخصصين لما هو قادم في ألمانيا بوجه عام، خاصة فيما يتعلق بمدى تأثيرها على الوضع السياسي والأمني، والأهم الاقتصادي، بعد إعلان السلطات الألمانية أنها بصدد خطر إرهابي نتج عنه المحاولة الانقلابية الفاشلة، لأنه قد يخلق تداعيات سلبية على قطاعات اقتصادية عدة مثل: الاستثمار، والسياحة، وغيره، والأهم، يتعلق بمدى إمكانية تكرار مثل هذه المحاولة مرة أخرى، بالإضافة إلى أثره على السياسة الخارجية الألمانية في الفترة المقبلة.

ومن الظاهر أن سوء الأوضاع الاقتصادية في ألمانيا منذ الحرب الأوكرانية، ومن قبلها أزمة فيروس كورونا مهدت إلى تصاعد نفوذ تيار اليمين المتطرف كغيرها من بقية دول الاتحاد الأوروبي، الأمر الذي أسهم بدوره في انتشار الحركات المتطرفة، خاصة إذا صاحب سوء الأوضاع الاقتصادية معاناة الشعوب واحتجاجاتها، كما هو حاصل الآن في أوروبا جمعاء، وألمانيا بالتحديد، بعدما أغلق خلال العام الجاري فقط ١١٤٠ مصنعًا وأكثر من ٥٠ شركة كبرى، وفقا لـ «دويتش ڤيله» الألمانية. لأنه في هذه الظروف يبدأ الرأي العام الإنصات لأفكار هذه الحركات في ظل قناعته بفشل الحكومة، ومن ضمنها حركة «مواطني الرايخ»، التي أشارت لها أصابع الاتهامات بالتخطيط لمحاولة انقلابية.

ولهذا، قد بادرت الحكومة الألمانية، والحكومات الأوروبية عمومًا، بتقديم إغراءات ودعم اقتصادي للمواطنين، مع تصعيد حدة الخطاب الإعلامي في التحذير من الانضمام أو حتى مجرد الإنصات لمثل تلك الجماعات الإرهابية، وهذا كله لمجرد صرف نظر المواطن عن الاهتمام أو البحث عن بديل للحكومات الحالية حتى ولو بطريقة غير مشروعة.

تداعيات محاولة الانقلاب الفاشلة في ألمانيا

حركة الرايخ:

تشكلت حركة «مواطني الرايخ» بنهاية ٢٠٢١ على أقل تقدير، وكانت قد حددت لنفسها أولوية تتمثل في التغلب على النظام القائم في ألمانيا واستبداله بشكل من دولة خاصة، وفقًا للادعاء العام الألماني، وأسسوا ذراعًا عسكرية تهدف إلى القضاء على دولة القانون، وتهديد الاستقرار، وتتكون الجماعة من شبكة مواطني الرايخ ومؤيدي نظريات المؤامرة، ولا يعترفون بالدولة الألمانية الحديثة، ولا بقوانينها.

كما أن لديهم قناعة بأنهم ورثوا الإمبراطورية الرومانية التي بدأت منذ عام ٨٠٠ وأطلقوا عليها الرايخ الأول، حتى بدأ الرايخ الثاني في ١٨٧١ الذي استمر حتى نهاية الحرب العالمية الأولى بهزيمة ألمانيا، ثم الرايخ الثالث مع وصول هتلر إلى السلطة. لذا يصرون على أن الإمبراطورية الألمانية لا تزال قائمة، ومن ثم يطالبون بعودة بولندا وفرنسا لتكون أراضٍ ملك لألمانيا مرة أخرى.

وعليه، يري أنصار هذه الحركة أن الرايخ الثالث لم ينته بعد، ويرغبون في إعادة إحيائه مرة أخرى، وعليه فهم يعتبرون أن جميع الحكومات الألمانية التي تعاقبت بعد هتلر حتى الآن ما هي إلا حكومات عميقة تخدم الأجندة الغربية، لدرجة أنهم اعتادوا على طباعة رخص القيادة وجوازات السفر مثلًا وغيرها من المستندات بطريقتهم الخاصة، كما يمتنعون عن دفع الضرائب نظرًا لأنهم لا يعترفون بالحكومة.

ووفقًا لتقارير غربية، فإن الحركة تعتمد على تمويل منتظم ولكن غير معروف المصدر، وتتحكم في قناة تحمل اسمها، كما يوجد نحو ٥ ٪ من أعضائها مسلحين وموزعين على دول مختلفة مثل النمسا وفرنسا وغيرها. وقد أفادت عدة صحف بأن عدد أعضائها يقدر بنحو ٥٠ ألف فردًا – إلا أنها معلومات غير مؤكدة أيضًا حول نطاقها وعدد أعضائها – ناهيك عن أنهم لم يعترفوا بالشرطة الألمانية، بل ويواجهون الشرطة إذا حاولت اتخاذ أي إجراء ضدهم، وهذا قد يكون مبررًا في حد ذاته لتخصيص ثلاثة آلاف جندي من أجل مداهمة حوالي ٢٥ شخصًا فقط.

ومن ضمن أفكارهم أيضًا؛ أنه لديهم نزعة متطرفة تؤمن فقط بالعرق الألماني الأبيض، ولكن ما يحد من خطرهم أنهم متفرقين بين عدة دول وغير منظمين حتى على مستوى الحركة، وكانت أول محاولة لتنظيم صفوف الحركة في ٢٠٢١ في فترة الإغلاق العام لمواجهة تداعيات فيروس كورونا، حتى بزغ نجمهم أكثر مع الحرب الأوكرانية، وبدءوا يخططوا لإسقاط الحكومة، فهم يرون أن فشل أولاف شولتز في أكثر من ملف فرصة جيدة لإسقاط الحكومة، ولهذا كانت بداية الهجوم من البرلمان أسوة بما حدث في الولايات المتحدة عقب خسارة ترامب للانتخابات الرئاسية، ولهذا كانوا يخططون لاستهداف ١٨ برلمانيًا من بينهم أولاف شولتز، وفقًا لرويترز.

ويعتبر المتهم الرئيس بها هو الأمير «هاينرش الثالث عشر»، الذي ينتمي إلى عائلة رويس الملكية الألمانية، والتي تبرأت منه في وقت سابق بسبب انتمائه إلى حركة «مواطني الرايخ».

والأخطر أن الشبكة تضم رجال أعمال وأسماء بارزة في البرلمان والقضاء الألماني وغيرها من المؤسسات المهمة والحساسة في ألمانيا، وفقًا لإذاعة غرب ألمانيا. كما أثبتت التحقيقات في ألمانيا بعد الحادثة – بل ومنذ ٢٠١٦ – حدوث اختراقات داخل الشرطة والجيش الألماني.

تداعيات محاولة الانقلاب الفاشلة في ألمانيا

اتهامات لروسيا:

في ظل الحرب الروسية الأوكرانية، وحرب تكسير العظام التي تخوضها روسيا ضد الاتحاد الأوروبي على المستوى الاقتصادي خصوصًا، دارت بعض الشبهات حول موسكو في إطار الشكوك حول وجود طرف خارجي يدعم مثل تلك الجماعات المتطرفة في ألمانيا، وكان ذلك استنادًا إلى عدة مؤشرات، أهمها:

  1. سلط الإعلام الغربي بوجه عام الضوء على مواطن روسي تم إلقاء القبض عليه في إطار مداهمة الشرطة الألمانية لبعض عناصر حركة مواطني الرايخ، ووجهت إليه الشرطة الألمانية تهم بالتجسس، إلا إن السفارة الروسية أصرت على نفي أي علاقة لها بما حدث في ألمانيا، مستندين – الروس – إلى أن أعضاء الحركة متفرقين ولن يخدموا المصالح الروسية حاليًا. ولكن حتى هذا التصريح استشف منه البعض أن لروسيا علاقة بالمخطط الانقلابي في ألمانيا بشكل ما، خاصة وأنها لم تبد رفضًا صريحًا حول التعاون مع مثل تلك الحركات في المستقبل.
  2. بدأت تنتشر تصريحات متلفزة سابقة لها ينرش الـ ١٣ يشكر فيها القنصلية الروسية على حسن استضافته، مما قد يؤشر إلى تغلغل أصابع روسيا في الداخل الألماني إلى الدرجة التي تمكنها من دعم تحركات مثل تلك الجماعات.
  3. كما وردت عدة تقارير عن محاولات هاينرش المتكررة من أجل لقاء وزير الخارجية الروسي سي رجي لافروف، كما تعددت لقاءاته بالمسئولين الروس في ألمانيا، وإعلانه أكثر من مرة عن أنه يفضل التعامل مع الروس في أكثر من مناسبة.
  4. ووفقا للمدعي العام الألماني، فإن أحد قادة الخلية أجرى اتصالات بـ «ممثلي روسيا الاتحادية في ألمانيا»، لكن السفارة الروسية في برلين نفت أية علاقات لها بـ «مجموعات إرهابية من اليمين المتطرف».
  5. بالإضافة إلى كل ذلك، فإن روسيا كانت هي المتحكمة في ألمانيا الشرقية، مما دفع بعض المواطنين في هذه الحركة إلى الاقتناع بأن روسيا يمكنها أن تساعدهم على الانقلاب على الحكومة الحالية، وهذا نفسه ما يبرر تساؤل البعض عن السبب الذي يجعل حركة الرايخ تفضل التعامل مع روسيا رغم ما جمع روسيا وألمانيا في السابق، باعتبارهم معادين للشيوعية.

إلا أن السفارة الروسية في برلين نفت أي علاقة لموسكو مع ما وصفته بـ «الجماعات الإرهابية»، كما شددت السفارة على أن المكاتب الدبلوماسية والقنصلية الروسية في برلين لا تربطها أية اتصالات مع ممثلي تلك الجماعات أو أية كيانات غير شرعية أخرى.

ومن جهة أخرى، فإن اتجاه أصابع الاتهام إلى موسكو لا يمكن أن تنفي احتمال أن يكون لواشنطن هي الأخرى يد في تلك الحادثة، وذلك للضغط على الحكومة الألمانية، التي أصدرت وابلًا من التصريحات في الفترة الأخيرة تنتقد فيها السياسات الأمريكية، خاصة فيما يتعلق بأسعار الفائدة وأسعار الطاقة، وأيضا قرارها – واشنطن – الأخير بتزويد بريطانيا بالطاقة، مما أثار اعتراض دول الاتحاد الأوروبي بوجه عام. والأخطر، أنه بدأت تخرج مظاهرات في الشارع الألماني احتجاجًا على ما وصفوه بـ «الاحتلال الأمريكي» لألمانيا، مثلما حدث في مدينة لايبزج الألمانية مؤخرًا.

تداعيات محاولة الانقلاب الفاشلة في ألمانيا

عدوى الاضطرابات:

بعد ما حدث في ألمانيا سينتاب الأوساط الأوروبية عمومًا مخاوف جمة من احتمالية تكرار هذه الحادثة في دول أوروبية أخرى، هذا إن لم تكن محاولة الانقلاب في ألمانيا كانت الأولى في سلسلة من التحركات المشابهة لتهديد استقرار الدول الأوروبية من الأساس بشكل ممنهج، بغض النظر عمن كان المخطط أو الداعم لمثل هذه التحركات غير المشروعة في الداخل أم الخارج.

وقد يدعم هذا الطرح أن غالبية الدول الأوروبية كانت قد شهدت احتجاجات شعبية على قواعد الإغلاق العام خلال العامين الماضيين، وبالتالي فإن هناك احتمالية لأن تتكرر مثل تلك التحركات في دول أوروبية أخرى عاصرت نفس الظروف. وإن كانت مدبرة؛ فقد لا تكون ألمانيا وحدها التي خطط لمثل هذه التحركات فيها.

أضف إلى ذلك أن العديد من الدول الأوروبية شهدت تصاعدًا لافتًا في نفوذ اليمين المتطرف، وصل إلى درجة مشاركة بعض التيارات اليمينية في الائتلاف الحاكم، بل والوصول إلى رأس السلطة التنفيذية في بعض الدول، كما حدث بعد فوز جورجيا ميلوني في إيطاليا وفيكتور أوربان في المجر وغيرهم.

ناهيك عن أن الدول الأوروبية شهدت خلال الأعوام الثلاثة الأخيرة أزمات اقتصادية قاسية نتجت عن تداعيات أزمة كورونا التي ما فتئت أن تتنفس بعدها الدول الأوروبية الصعداء حتى اندلعت الحرب الأوكرانية، ليدخل العالم من بعدها في دوامة أزمات اقتصادية وسياسية غير مسبوقة. ولهذا ولد سوء الأوضاع الاقتصادية مشاعر السخط وعدم رضا المواطن الأوروبي عن أداء الحكومات الأوروبية، خرجت في شكل احتجاجات شعبية متكررة في كبري الدول الأوروبية، مثل فرنسا وألمانيا وبريطانيا وغيرها، واجهتها بعض الحكومات الأوروبية بالعنف لتحجيم الاحتجاجات. وكل هذا من شأنه أن يؤدي إلى أن إصغاء المواطن الأوروبي لأفكار هذه الجماعات المشبوهة، ولهذا ليس ببعيد أن نرى تكرار مثل هذه المحاولة في دول أوروبية أخرى.

ويبدو أن الحكومة الألمانية استشعرت الخطر بعد تلك الحادثة، وخاصة الخطر الروسي واختراقه للداخل الألماني في ظل الأوضاع الراهنة، مما دفع المستشار الألماني أولاف شولتز إلى توجيه رسالة في اليوم التالي للحادثة إلى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، اعتبرها البعض استرضاءً لبوتين، قال فيها: «إن خطر استخدام بوتين للسلاح النووي في أوكرانيا تضاءل بسبب الضغط الدولي»، كما أضاف: «إنه من المهم أن يستمر الحوار مع الكرملين رغم الانقسام الكبير بشأن ذلك»، والأخطر إنه أعرب عن «استعداده للحوار مع روسيا بشأن الحد من التسلح في أوروبا إذا أوقفت روسيا الحرب في أوكرانيا». ولهذا يتوقع أن تحذو بقية الدول الأوروبية حذو ألمانيا بخصوص التهدئة مع روسيا، هذا إن لم يكن الموقف الألماني معبرًا ونيابة عن الموقف الأوروبي ككل وفقًا لتصريحات المستشار الألماني.

ختامًا، يمكن القول إنه إذا صحت الرؤية القائلة بأن لروسيا بالتحديد باع كبير في التخطيط لمثل هذه التحركات من أجل زعزعة الاستقرار الأوروبي، فلماذا ستكتفي بألمانيا فقط ؟، أم إنها مناوشة فقط للأوروبيين حتى يتراجعوا عن مواقفهم ضد روسيا ؟، خاصة وأن البداية كانت من ألمانيا باعتبارها صاحبة الموقف الأشد من روسيا منذ بداية الحرب على عكس ما كان متوقعًا.

وردة عبد الرازق

رئيس برنامج الدراسات الأوروبية و الأمريكية ، حاصلة على بكالوريوس علوم سياسية، جامعة بنى سويف، الباحثة مهتمة بدارسة الشأن التركي ومتابعة لتفاعلاته الداخلية والخارجية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى