توقيت محسوب: كيف أحرج “داعش” حكومة أردوغان؟
خلال الساعات الماضية، شهدت تركيا تفجيرا مفاجئا في منطقة تقسيم، احد أشهر المناطق في مدينة اسطنبول، مما أدى إلى وقوع عشرات الضحايا من جرحى ومصابين، وبالتالي أصبح هناك تخوف من أن يسهم هذا الحادث في تأزيم الموقف السياسي بالنسبة لحزب لعدالة والتنمية، أو هز صورة أردوغان أمام الرأي العام في هذا الوقت الحرج.
وبناءا على ما تقدم، يناقش هذا التحليل مدى تأثير الحادث في هذا التوقيت على الداخل التركي، وعلى تحركات أردوغان القادمة، وأيضا الخيارات المتاحة لدى الأخير للتعامل مع الموقف، للحفاظ على ماء وجهه وحزبه أمام الشارع التركي.
توقيت حرج:
خلف الانفجار الأخير في مدينة إسطنبول، ما يقارب ستة قتلى، وإصابة ما يتخطى ٨٠ مواطنا، وفقا للبيانات الرسمية الصادرة من الجهات المختصة حتى الآن، الأمر الذي تبعه استنفار الأجهزة الأمنية في المنطقة ككل، كما أعلن المدعي العام في اسطنبول عن فتح تحقيق فوري في الانفجار، وتحديد المسئولين عنه.
وفقا للمراقبين تسبب الانفجار، في التوقيت في حرج كبير لأردوغان وحكومته، التي تسعي إلى تحسين صورتها أمام الرأي العام التركي قبيل الانتخابات الرئاسية المقبلة في ٢٠٢٣، التي انصب تركيزها منذ فترة ليست بالقصيرة على توظيف أداة السياسة الخارجية، مستغلة ما يحدث في العالم من تطورات على إثر الحرب الأوكرانية.
لقد سعت الحومة التركية منذ الحرب الروسية الأوكرانية إلى تحقيق أكبر قدر من المكاسب السياسية والاستراتيجية، والأهم الاقتصادية، لتحسين الأوضاع المعيشية داخليا، بعدما تعرض الاقتصاد التركي خلال الأشهر الأخيرة لهزة كبيرة، انعكست بالسلب على جميع المؤشرات الاقتصادية، التي بسببها انصب تركيز الساسة الأتراك مؤخرا على العودة لسياسة تصفير المشكلات، من خلال استعادة العلاقات مع السعودية والإمارات، وتحسين العلاقات مع أوروبا، والولايات المتحدة، حتى على مستوى دائرة الشرق الأوسط.
ما سبق وفقا للمتابعين، يعنى بالطبع أن أردوغان، اعتبر الأداة الخارجية، بمثابة الوسيلة الأسرع لتحسين صورته وحزبه داخليا، على الأقل على المستوى الاقتصادي، ولكن بالتوازي مع ذلك، استمرت حكومة العدالة والتنمية في سياسة تجديد الدماء في تحالفات العدالة والتنمية قبيل الانتخابات، وهز ثقة الشارع في الأحزاب المعارضة، واستغلال السقطات الشخصية لأبرز الأسماء في تلك الأحزاب، والعمل على تضخيمها إعلاميا، بالاستناد إلى تأييد العقليات والأبواق المحافظة في تركيا.
شماعة الأكراد:
رجح البعض احتمالية أن يكون لداعش إصبع في هذا الحادث، نظرا لأن الأكراد لم يعتادوا تنفيذ هجمات انتحارية، كما وصفتها أنقرة بعد ساعات من الحادث، ويبدو أن أسلوبهم المفضل وفقا للرصد الزمني، هو استهداف منشآت أو دوريات لأفراد الجيش أو الشرطة التركية، كما يشير البعض إلى وجود خلافات حاليا بين أنقرة وداعش، مما دعا إلى عدم استبعاد داعش من المشهد تماما، خاصة أن الحكومة التركية سبق وأن وجهت اتهامات لداعش بتنفيذ هجمات انتحارية مشابهة، بعضها في منطقة تقسيم ذاتها في ٢٠١٦. وهو ما قد يتسق مع نفى حزب العمال الكردستاني ضلوعه في هجوم في إسطنبول، قائلا ” ليس واردا بالنسبة لنا استهداف المدنيين بأي شكل من الأشكال “. وذلك في بيان نُشر على موقعه على الإنترنت في اليوم التالي من الحادث مباشرة.
ووفقا لهذا الطرح، يبدو أن أنقرة تدفع حاليا ضريبة سياستها الخارجية الخاطئة التي تحتضن من خلالها التنظيمات الإرهابية، مثل داعش وغيرها لخدمة أهدافها، الأمر الذي عرضها لضغوطات دولية كبيرة، قد تكون اضطرت من خلالها إلى التراجع عن دعم تلك التنظيمات، أو تقليص حجم الدعم على أقل تقدير. لذا في ظل الأزمة التي تشهدها التنظيمات الإرهابية في هذه الآونة، قد تكون الأخيرة لجأت لمثل تلك الهجمات الغادرة ضد المدنيين كإجراءات انتقامية ضد أنقرة، وفي هذه الحالة على أنقرة أن تتأهب لهجمات أخرى مماثلة، وبهذا يكون السحر قد انقلب على الساحر.
وما يزيد الأمر تعقيدا؛ أن أنقرة لن تجرؤ في ظل الأوضاع الاقتصادية الراهنة، سواء في تركيا أو العالم أجمع، على مجرد الإشارة إلى تنظيم داعش، أو أنها تتعرض لهجمات إرهابية من قبله، خوفا من التداعيات السلبية على الاقتصاد التركي، خاصة في قطاعي السياحة والاستثمار، في ظل زيادة نسبة الإشغال السياحي في تركيا، وظهور تقارير إيجابية من قبل المنظمة الأوروبية لسلامة الملاحة الجوية، التي صنفت مطار إسطنبول كونه الأكثر ازدحاما في مطلع الشهر الجاري. أضف إلى ذلك، أن أردوغان نفسه مقبل على انتخابات وضعه حرج جدا فيها حتى الآن، ولهذا أغلقت الحكومة التركية أبواب الجدل والبلبلة حول الحادث عبر حظر الحديث أو النشر عنه في وسائل الإعلام.
وبناءا على ذلك، لجأت أنقرة إلى خيارها المفضل، ألا وهو الأكراد، واضطرت تعلن عن أن الحادثة عمل إرهابي، ونسبته كالعادة إلى حزب العمال الكردستاني، مثلما وجه وزير الداخلية التركي سليمان صويلو الاتهامات واللوم للمسلحين الأكراد، كما أكد على اعتقال ٢٢ فردا منهم، وأعلن أن أمر الهجوم قد ” جاء من مدينة كوباني ” بشمال سوريا، حيث قامت القوات التركية بعمليات ضد وحدات حماية الشعب الكردية السورية في تلك المنطقة في السنوات الأخيرة، كما أشار إلى أنه كانت هناك خطة لهروب جميع من شاركوا في الهجوم إلى اليونان، وهي رواية أكدها أردوغان وغيره من الساسة والتنفيذيين المريدين له، باعتباره الحل الأنسب في الوقت الراهن.
فإعلان تركيا عن أن الحادث جاء نتيجة عمليات تخريبية معتادة من حزب العمال الكردستاني المصنف إرهابيا لدى أنقرة، قد يكون امتصاصا لغضب داعش في حال صحت وجهة النظر الأولى، وفي الوقت ذاته حفاظا على نسبة الإشغال السياحي الكبيرة التي تشهدها أنقرة في الفترة الحالية في ظل الحرب الأوكرانية، وسفر العديد من المواطنين الأوروبيين إلى أنقرة. خاصة وأنه داخل وخارج تركيا قد اعتاد على المناوشات بين الحكومة التركية وحزب العمال الكردستاني، وبالتالي قد لا يترك الأمر تداعيات خطيرة على الاقتصاد التركي أو مستقبل أردوغان السياسي وحزبه، لأن تلك الرواية قد تكسب أردوغان مزيدا من التعاطف الشعبي، باعتباره المتصدي للعمليات الإرهابية على بلاده.
الرد التركي:
وجه الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، إدانات فورية لمنفذي التفجير عقبه مباشرة، وتوعد بمحاسبة المسئولين عن الهجوم قائلا، ” سيتم الكشف عن هوية مرتكبي هذا الهجوم الدنيء، ليتأكد شعبنا إننا سنعاقب المنفذين “. وأعلنت وزارة الداخلية التركية في اليوم التالي أنه في تحقيق أولي مع المرأة المشتبه بها قالت إنها ” تلقت تدريبا على يد مسلحين أكراد في سوريا ودخلت تركيا عبر منطقة عفرين بشمال غرب سوريا “. ووفقا للتقارير فإن المشتبه بها على صلة بحزب العمال الكردستاني الذي تصنفه تركيا إرهابيا.
ورغم أن الانفجار قد يثير غضب الشارع التركي تجاه العدالة والتنمية من ناحية، إلا أن أردوغان سيحاول قلب الطاولة واستغلاله لصالحه، لكسب تعاطف الشعب التركي وضمان اصطافه إلى جانبه، خاصة وأن العالم بأسره يشهد أزمة سياسية واقتصادية كبيرة بسبب الحرب المستمرة في أوكرانيا، وأنقرة هي من خطفت الأضواء في ظل هذه الراهنة، باعتبارها وسيط في الحرب، حتى أنها جمعت في الساعات الماضية رئيسي جهازي الاستخبارات الأمريكي والروسي لديها للتفاوض حول إنهاء الحرب، وفقا لوكالة الأناضول.
وفي الوقت نفسه، قد تتخذ أنقرة من الحادث ذريعة لها لسن هجمات أخرى ضد حزب العمال الكردستاني في الشمال السوري، وحتى العراق. كما لا نستبعد أن يطالب أردوغان بشن عملية عسكرية جديدة في الشمال السوري بعد أن رفضت الدول الكبرى هذه الأمر في وقت سابق من هذا العام.
كما وقد يستخدمه أردوغان كورقة ضد عمدة بلدية إسطنبول أكرم إمام أوغلو وحزب الشعب الجمهوري بوجه عام، على اعتبار أن مدينة إسطنبول تحت مسؤوليته، لهز الثقة فيه بعدما بدأ يلفت أنظار الشارع التركي، لدرجة أنه أحد أبرز المرشحين لمنافسة أردوغان في الانتخابات.
غطاء خارجي:
كما وقد تلجأ الحكومة التركية إلى توجيه أنظار الشارع نحو العدو الخارجي، وبتأكيد وزارة الداخلية التركية على أن الضالعين في الهجوم كانوا عازمين على الهروب إلى اليونان، قد تنتهزها أنقرة فرصة ثمينة لتصعيد جديد ضد أثينا، في وقت تعارض فيه انتشار الأسلحة على الجزيرة القبرصية. وكذلك الحصول على دعم غربي أكثر خلال الفترة المقبلة، خاصة من الولايات المتحدة الأمريكية بعدما صدرت لها أنقرة الضغط عبر رفض تعزية السفارة الأمريكية في أنقرة في ضحايا الحادث، واعتبرتها الداعم الأكبر لحزب العمال الكردستاني.
كما وقد تستخدم الحادث للضغط على السويد، التي تعرقل أنقرة دخولها حلف الناتو زاعمة أنها تقدم الدعم للتنظيمات الإرهابية التي تهدد أنقرة ( حزب العمال الكردستاني )، خاصة بعد زيارة رئيس الوزراء السويدي إلى أنقرة الأسبوع المنصرم، وفي وقت يستعد فيها البرلمان السويدي للتصويت على مشروع قانون جديد، يقضي بوضع إجراءات مغلظة في مجال مكافحة الإرهاب.
وفي الختام، قد تشهد الفترة المقبلة رد فعل تركي على الحادث على الأرض، ولكن لا يرجح أن تندفع أنقرة لرد فعل عسكري قوي، ولا فوري، تجاه تنظيم بي كا كا في شمال سوريا، حتى لا تثير الشكوك في تركيا كمناخ استثماري وسياحي آمن في الفترة الحالية، لأن الرد التركي قد يتبعه رد آخر من تلك التنظيمات، وبذلك ستكون أنقرة قد زعزعت الاستقرار الاقتصادي الذي وصلت إليه بصعوبة بعد الأزمات الاقتصادية التي تعرضت لها خلال الأشهر الماضية، ناهيك عن التأثير السلبي على المستوى السياسي بالنسبة لأردوغان داخليا.