مقاربات التوزيع العادل: حظوظ الدول النامية في اتفاق إسطنبول للحبوب

في الثاني والعشرين من يوليو الماضي، تم توقيع ” وثيقة مبادرة الشحن الآمن للحبوب والمواد الغذائية من الموانئ الأوكرانية في مدينة إسطنبول التركية، بين روسيا وأوكرانيا وتركيا والأمم المتحدة، سارية لمدة ١٢٠ يوما قابلة للتجديد إذا ما اقتضى الأمر، وتهدف الاتفاقية إلى تأمين صادرات الحبوب العالقة في الموانئ الأوكرانية على البحر الأسود إلى بقية دول العالم المستوردة، تفاديا لأزمة غذاء طاحنة،حيث يوجد نحو ٢٠ مليون طنا من الحبوب العالقة في الموانئ الأوكرانية، كما ستتضمن تسليم خرائط الألغام في البحر الأسود، وعمليات التفتيش الإجباري للسفن المارة.
ولكن، عقب توقيع الاتفاقية طرحت عدة التساؤلات حول أسباب توقيع الاتفاقية، خاصة من جانب روسيا وهي متقدمة على الأرض، والمكاسب التي ستعود على أنقرة جراء وساطتها في مثل تلك الاتفاقية، والأهم هو مدى فاعلية واستمرارية تلك الاتفاقية، كما أثيرت الشكوك حول ما إذا كانت الاتفاقية ستكفل العدالة في التوزيع بين الدول، وخاصة الدول الأكثر تضررا من أزمة الغذاء عقب اندلاع الحرب الأوكرانية.
مكاسب تركية:
تعتبر الاتفاقية ذات أهمية معنوية كبيرة، باعتبارها جمعت للمرة الأولى المسئولين الروس والأوكرانيين للتوقيع على اتفاقية موحدة منذ اندلاع الحرب، وعلى هذا اعتبرها البعض تمهيدا لاتفاقيات أخرى بشأن مستقبل الحرب، خاصة من جانب المسئولين الأتراك، ممن توقعوا أن تكون الاتفاقية بمثابة مقدمة للتوقيع على هدنة مؤقتة أو وقف لإطلاق النار، وهو ما جاء على لسان أردوغان نفسه، وإن كان حقيقة الحديث عن هدنة أو وقف لإطلاق النار في هذا التوقيت سابقا لأوانه.
كما يعد الاتفاق مؤشرا جيدا على نجاح الدبلوماسية التركية، باعتباره اتفاق وقع بقيادة تركية من أجل تفادى حصول مجاعة محققة وأزمة غذاء عالمية، أو استمرار تحليق أسعار الغذاء، كما أنها فرصة لتحقيق إنجاز أكبر في الوساطة بين موسكو وكييف في الفترة القادمة، وهو ما دفع الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش إلى توجيه الشكر للدبلوماسية التركية، الأمر الذي سيعطيها زخما واسعا فيما هو قادم، وعليه أعرب أردوغان عن تمنيه أن يكون الاتفاق بمثابة خطوة أولى لتفعيل الوساطة السياسية التركية التي تهدف إلى الوصول إلى وقف إطلاق النار في أوكرانيا.
هذا دون إنكار المكاسب الاقتصادية التي ستجنيها تركيا من خلال هذا الدور، فقد أشارت بعض التقارير إلى حصول تركيا على أسعار تفضيلية للحبوب، فضلا عن الاستفادة الاقتصادية أيضا من مرور السفن عبر المياه التي تسيطر عليها تركيا، ومن قربها الجغرافي. أضف إلى ذلك المكاسب السياسية؛ على اعتبار أن الدور التركي سيوازن موقفها تجاه روسيا من ناحية، خاصة بعدما وافقت تركيا على انضمام فنلندا والسويد إلى حلف الناتو، وبالتالي قد يجعل روسيا توافق على العملية العسكرية التركية المحتملة في الشمال السوري، التي تهدف إلى إنشاء منطقة آمنة، وبالتالي ستفتح الاتفاقية مجالا جديدا للمحادثات التركية مع روسيا، وهو ما قد يشير إليه زيارة أردوغان إلى مدينة سوتشي في الخامس من الشهر الجاري، خاصة وأن مدينة سوتشي قد شهدت من قبل اتفاقات خاصة بالشأن السوري في٢٠١٩. ولدى الغرب من ناحية أخرى، فأنقرة بذلك ستضغط على الغرب لمتابعة التزامات فنلندا والسويد بشأن تخليهما عن دعم التنظيمات التي تصنفها أنقرة كإرهابية، والموافقة على إعطائها مقاتلات إف ١٦ الأمريكية، والتي لا تزال محل نقاش كبير بين الإدارة الأمريكية والكونجرس.
فاعلية الاتفاقية:
رغم أهمية الاتفاقية بالنسبة إلى الدول المستوردة للغذاء من روسيا وأوكرانيا، وأهميتها بالنسبة للأطراف الموقعة، إلا أنه لا يوجد ثمة ما يضمن استمرارية الاتفاقية أو فعاليتها، خاصة وأن الحرب بين روسيا وأوكرانيا لا تزال على أشدها، وبالتالي فإن أي تطورات على الأرض تخالف مصلحة أي من الطرفين قد تؤدي إلى إحجام المتضرر عن استكمال تنفيذ الاتفاقية. هذا بالإضافة إلى أنه توجد أزمة ثقة من الأساس بين موسكو وكييف، بدليل أن كلا الطرفين وقع على الاتفاقية على حدى، حيث وقعت روسيا الاتفاقية مع أنقرة، في حين وقعتها أوكرانيا مع ممثل الأمم المتحدة، كما رفضت أوكرانيا تفتيش روسيا للسفن العائدة إلى موانيها، وإصرار روسيا على التفتيش خوفا من أن تحمل السفن العائدة أسلحة لأوكرانيا، وقد تكون ازدادت أزمة الثقة أكثر بعد القصف الروسي لميناء أوديسا بعد ساعات من توقيع الاتفاقية.
ناهيك عن أن لا تركيا ولا الأمم المتحدة لها سلطة ملزمة قانونيا ودوليا لإلزام كلا الطرفين بتنفيذ بنود الاتفاقية، خاصة وأن الاتفاق لم يودع لدى الأمم المتحدة، وبالتالي فإن الاتفاقية لا تملك صفة الإلزام، مما سيتيح لأي من الطرفين سهولة خرقها في أي وقت، وفي هذه الحالة لن يكون أمام تركيا أو الأمم المتحدة سوى إصدار بيان بخصوص الطرف الذي تسبب في انتهاك الاتفاقية.
ولكن قد يضمن الاستمرار في تنفيذ الاتفاقية المكاسب التي ستعود على روسيا وأوكرانيا من الناحية الاقتصادية، حيث ستتم الاستعانة من الإيرادات الناتجة عن استعادة عملية تصدير الحبوب في تمويل الحرب التي بالتأكيد أرهقت ميزانية الطرفين، كما ستكون أمام روسيا فرصة لإعطاء صورة إيجابية عنها أمام الرأي العام والمجتمع الدولي، مخالفة لما نسبته الدول الغربية إليها بتحميلها مسئولية أزمة الغذاء التي عانت منها معظم الدول.
كما قد تضمن موافقة الأطراف الدولية ودعمهم للاتفاقية إلزام موسكو وكييف بتنفيذ بنود الاتفاقية كاملة، مما سيضاعف من أهمية الاتفاقية أيضا، خاصة بعدما رحبت الدول الأوروبية بالاتفاقية، ودعت إلى الحرص على تنفيذها، كما أبدت الولايات المتحدة بالخصوص أيضا دعمها للاتفاقية، وتعهدت بمحاسبة روسيا حال أخلت ببنودها.
تحدي عدالة التوزيع:
من الأهمية بمكان لفت الانتباه إلى أن مسألة نزاهة الاتفاقية وعدالتها في توزيع الحبوب في غاية الأهمية، من خلال تحديد أولوية المستفيدين من هذه الاتفاقية، وما إذا كانت الحبوب التي سيعاود تصديرها ستصل إلى الدول الأحق بها، والتي هي في أمس الحاجة إليها باعتبارها الأكثر تضررا من أزمة الغذاء الحالية، وما إذا كانت ستصل بالكميات المناسبة وفي التوقيت المناسب والمتفق عليه أم لا. أم سيتم توزيعها وفقا لاعتبارات سياسية- أي على الدول التي دعمت روسيا في حربها على أوكرانيا، أو بناءا على توصية أو محاباة أوكرانية للدول التي أدانت الهجوم الروسي عليها، ودعمتها سواء سياسيا أو ماديا أو عسكريا، أو بناءا على توصية تركية باعتبارها دولة المرور الرئيسية، وكتقديرا لدورها في التوقيع على الاتفاقية، وبغض النظر إن كان سيتم ذلك علنا أم خفية.
وترجمة هذا كله أن هناك احتمالية ألا يتم النظر إلى اعتبارات الأولوية وفقا للدول الأكثر احتياجا، أو التوزيع العادل لهذه المنتجات، الأمر الذي سيعتبر من أهم التحديات التي ستواجه الاتفاقية، ليس على مستوى أطرافها فقط، بل للمجتمع الدولي بأكمله ومؤسساته، مما قد يفقده المصداقية كعادته.
لأنه قد يتكرر سيناريو سابق، كما حدث في خضم أزمة فيروس كورونا، عندما احتكرت الدول الكبرى والغنية لقاحات فيروس كورونا، خاصة الدول التي تنتمي إليها الشركات المنتجة للقاحات، والتي احتكرت كميات أساسية منها، إلى جانب مشكلة الأسعار الباهظة لشراء اللقاحات، وبالتالي لم تتمكن الدول النامية من شرائه. كما كانت هناك مشكلات أخرى في هذا الشأن، تمثلت في نزاعات الدول حول حجز كميات مناسبة من اللقاحات لمواطنيها، وتأخر الشركات في تسليم الجرعات لدول أخرى، وعدم التزامها بالمواعيد المتفق عليها للتسليم، إلى الدرجة التي دفعت الدول النامية لمطالبة الدول الكبرى والشركات المنتجة بالتخلي عن حقوق الملكية الفكرية الخاصة بإنتاج اللقاحات، حتى يتاح لها إنتاجها داخليا، بعدما تعثرت محاولات استيراده بأسعار معقولة.
وبالتالي، أصبحت المسألة تتمثل إما في احتكار لجرعات اللقاح، أو بيعه بأسعار عالية، أو توزيعه وفقا لاعتبارات سياسية لدول بعينها، مما أدى إلى امتلاك الدول الكبرى لفائض في اللقاحات، انتهى إلى إتلافه في وقت لاحق بعد انتهاء صلاحيته، رغم حاجة بعض الدول إليها بشكل كبير، كما حدث في بريطانيا على سبيل المثال، وفقا للمجلة الطبية البريطانية.
كما أظهرت دراسة أجراها الاتحاد الدولي لجمعيات الصليب الأحمر والهلال الأحمر، أن ما يقارب من 70 ٪ من جرعات اللقاح المستخدمة حتى الآن كانت من نصيب أغنى 50 دولة في العالم، بينما تم حقن 0.1 ٪ في أفقر 50 دولة، مما دفع الأمين العام للاتحاد، جاغان شابا غان إلى التحذير بأنه” أمر ينذر بالخطر لأنه غير عادل ولأنه سيطيل أمد هذا الوباء الرهيب وقد يزيده سوءاً “.
حتى دعم دولة مثل الولايات المتحدة لمثل هذه الاتفاقية بالرغم من أنه قد يكون دافعا نحو الالتزام بالاتفاقية- إلا أنه من ناحية أخرى قد يكون مثيرا للشكوك حول ما إذا كان سيتم إرسال بعض الشحنات إلى الدول الحلفاء للولايات المتحدة والدول الأوروبية مقابل دعمهم للاتفاقية.
ختاما، رغم الاعتراف بأهمية الاتفاقية لأطرافها، وأهميتها لدي الدول المتلقية لهذه المنتجات، إلا أنها بالفعل لا يوجد ثمة ما يضمن استمرارية الاتفاقية من الأساس، ولا ما يضمن عدالتها في إرسال المنتجات للدول الأكثر تضررا أمام الرأي العام العالمي، لذا سيظل الأمر مرهونا فقط بحسن نوايا موسكو وكييف في الحفاظ على سير الاتفاقية بشكل جيد، والرؤية السياسية لكل منهما فيما بعد.