سيناريوهات تعامل “ماكرون” مع مأزق نتائج الانتخابات التشريعية

يواجه الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون موقفا سياسيا في غاية الصعوبة، بعدما فشل في الانتخابات التشريعية التي أجريت مؤخرا في تحقيق الأغلبية المطلقة، والتي كانت ستمكنه من تشكيل حكومة، بالإضافة إلى دعم برلماني مريح. وكان قد حصل تحالف الرئيس الفرنسي ” معا ” على نسبة ٣٨,٦٪ التي مكنته من السيطرة على ٢٤٥ مقعدا فقط في الجمعية الوطنية، مقابل حصول تحالف ” نوبيس ” اليساري بقيادة جون لوك ميلونشون على ٣١,٦٪ حصل بمقتضاها على١٣١ مقعدا، ثم حلت لوبان في المركز الثالث بعد حصولها على ١٧,٣٪ و٨٩ مقعدا، ومن بعدهم الحزب الجمهوري بنسبة ٧٪ وحصوله على ٦١مقعدا.
أمام هذا الوضع سيكون أمام ماكرون مجموعة من الخيارات التي سيحاول عبرها التوصل إلى توليفة حكومية جديدة من ناحية، كما ستمكنه من تنفيذ أجندته الحديدة بأريحية كبيرة من ناحية أخرى. وعليه، يتطرق هذا التحليل إلى أهم السيناريوهات أو الخيارات المتاحة أمام الرئيس الفرنسي ماكرون في التعامل مع الفترة المقبلة في الموضوعات التي تحتاج موافقة الأغلبية البرلمانية، ومن ثم تجنب انجرار فرنسا إلى حالة من الشلل السياسي.
الاحتمالات مطروحة:
هناك مجموعة من الإجراءات التي قد يلجأ لها الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في سبيل الحصول على الأغلبية المطلقة في البرلمان، أو على أقل تقدير تمكينه من تمرير مشروعات القوانين والسياسات التي تحتاج موافقة البرلمان، ويتمثل أهمها في:
(*) التحالف مع الجمهوريين: وهو احتمال رجحته معظم التحليلات والساسة في فرنسا بشكل كبير، باعتباره الخيار الأكثر منطقية وطمأنة لماكرون خلال ولايته الجديدة، والذي يضمن له موافقة برلمانية على أي سياسة أو قرار أو مشروع قانون يتطلب موافقة أغلبية البرلمان، وبالتالي ستكون ولايته الثانية هادئة بعض الشئ من المعارضات الداخلية، كما كانت الولاية الأولى. فبعد حصول تحالف ماكرون على ٢٤٥ مقعدا من أصل ٥٧٧ من مقاعد الجمعية الوطنية، يمكن أن يبرم اتفاقا برلمانيا مع حزب الجمهوريين اليميني الذي فاز ب ٦١ مقعدا، الأمر الذي سيمكنه من تجاوز ٢٨٩ مقعدا، وهي العتبة المطلوبة للتمتع بالأغلبية المطلقة لتمرير ما تراه السلطة التنفيذية.
وعلى غرار ألمانيا، سيكون المقابل لذلك بالنسبة للجمهوريين، الانضمام إلى الحكومة. وعلى الرغم من تأكيد زعيم الجمهوريين كريستيان جاكوب أن حزبه ” سيبقى ضمن صفوف المعارضة “، إلا أنه قد لا يكون قرارا نهائيا بعد، فالجمهوريون قد يكونوا أرادوا عدم الانضواء في تحالف مع لوبان منذ البداية لعلمهم بأن المنافسة على الحكومة ستكون بين ” معا ” و ” نوبيس “، لأن لوبان خارج اللعبة إلى حد ما، وبذلك سيمثل الجمهوريون رقما صعبا في إطار سياسة التحالفات داخل البرلمان الفرنسي حال تعقدت الأمور ولم يتمكن أي تحالف من تحقيق الأغلبية المطلوبة، وعندها سيتهافت على الجمهوريين كلا التحالفين _ رغم اختلاف التوجهات السياسية _ وبذلك سيضمنون أماكنهم في الحكومة الجديدة.
وبالتالي إذا ما بادر ماكرون وحاول كسب تأييد الجمهوريين له، قد تتم الموافقة على ذلك من جانب الجمهوريين مقابل المشاركة في الحكومة الجديدة وفرض كلمتهم، لأن ما دون ذلك قد لا يعنى الكثير بالنسبة للجمهوريين، بالنظر إلى عدد المقاعد المحدود.
(*) تحالفات وقتية: أي سعي ماكرون إلى حشد الأغلبية البرلمانية لقراراته من دون غالبية ثابتة ومستقرة، بل سيحاول توفير هذه الأغلبية فقط كلما تطلب الأمر، حال عرض مشروع قانون للنقاش والتصديق البرلماني. وعلى سبيل المثال، الجمهوريون يؤيدون رغبة ماكرون في إصلاح نظام التقاعد، وبالتالي إذا ما أراد موافقة البرلمان على مثل هذا القرار سيضمن بذلك دعم الجمهوريين. وإذا ما تطرق إلى مشروعات قوانين خاصة بالدفاع عن البيئة فسيجد دعم من اليساريين، وبالأخص الخضر، الأمر الذي قد ينجم عنه انشقاق داخل التحالف اليساري بين الأحزاب المكونة له، وهي نقطة في غاية الأهمية سيأخذها ماكرون في عين الاعتبار للتأثير في التحالف الأكبر المعارض له.
(*) حل الجمعية الوطنية: كبديل إضافي، قد يلجأ ماكرون إلى حل الجمعية الوطنية بالكامل، والدستور يعطيه الحق في ذلك، ولكن قد لا يتعجل ماكرون في الإقدام على مثل هذه الخطوة بالذات في الوقت الراهن بعد خسارته الأغلبية المطلقة بفارق بسيط عن أقرب منافسيه ( تحالف ميلونشون )، وخاصة إذا نجح في إتمام تحالفه مع الجمهوريين. وبناءا على ذلك، فإن ماكرون لا يضمن حال اتخذ قرارا بحل الجمعية الوطنية تحقيقه للأغلبية المطلقة المرادة، لأن السحر قد ينقلب على الساحر في هذه الحالة، في ظل وجود موجة مناهضة لماكرون، كما حدث مع الرئيس الفرنسي السابق جاك شيراك ( اليميني ) في ١٩٩٧، فعندما لجأ إلى حل الجمعية الوطنية خسر حتى مجرد الأغلبية البسيطة التي حققها في الانتخابات الأولي لصالح معارضيه، واضطر إلى تشكيل حكومة تعايش مع اليسار.
وبالتالي فإن ماكرون قد لا يغامر بأغلبيته الحالية من أجل هدف غير مضمون، على الأقل في الوقت الحالي، حتى لا تنقلب الطاولة عليه وتحالفه، وسيكون الاحتمالان الأول والثاني هما الأقرب للاختيار من بينهما. ولكن، قد يلجأ ماكرون إلى حل الجمعية الوطنية في وقت لاحق إذا نجحت حكومته في تحقيق بعض الانجازات التي تشفع له أمام الفرنسيين. إلا أن ماكرون أيضا عليه الانتظار حتى يجد مبررا موضوعيا لحل الجمعية الوطنية، مثل تعطيل الجمعية لمشروعات القوانين أو أي من الملفات التي تحال إليها، وقد يشير إلى احتمالية تفكير ماكرون في مثل هذا الحل دعواته الأخيرة إلى أحزاب المعارضة في البرلمان لتسوية الأزمة السياسية والتوصل إلى حلول وسط، وذلك من أجل تفادي وجود برلمان فرنسي مغلق.
تشرذم محتمل لليسار:
إلا أن هناك سيناريو مرجح قد يعفي ماكرون من الكثير خلال الفترة المقبلة إلى حد ما بعدما اندثرت أحلام اليسار في تشكيل الحكومة،الأمر الذي أثيرت من بعده الشكوك حول قدرة التحالف اليساري على المواصلة بشكله الحالي داخل الجمعية الوطنية؛ لأنه في حينيري البعض أن تحالف اليسار هو تحالف استراتيجي على برنامج انتخابي مشترك، وأيديولوجية حزبية متشابهة، وبعدما تمت مناقشة الملفات الخلافية بين الأحزاب المشاركة في التحالف، مثل ملف الطاقة النووية والمعاهدات الأوروبية. يري البعض الآخر أن تحالف اليسار ما هو إلا تحالفا مرحليا مبنيا على أسس انتخابية، ولم يكن تحالفا استراتيجيا البتة، وكان هدفه الأساسي هو ضمان عدم سيطرة ماكرون مرة أخرى على الجمعية الوطنية، بسبب الخلافات التي تجمعهم بماكرون، الأمر الذي أيده محللون كثر، خاصة بعد تأكيد قادة الأحزاب المشاركة في الائتلاف اليساري على أن كل حزب سيحصل على كتلة موحدة داخل البرلمان قبل انطلاق الانتخابات التشريعية.
كما يري الشيوعيون والخضر أن تشكيل مجموعة نيابية موحدة ” أمر مستبعد “، وبالأخص الحزب الشيوعي الذي حرص زعيمه فابيان روسيل على إظهار عدم الاتفاق التام مع ميلونشون خلال الحملة الانتخابية، كما أوضح أيضا خلال الحملة أن المحادثات بين اليساريين عموما شهدت خلافات عدة مثلما شهدت نقاط متفق عليها أيضا. الأمر نفسه أكده جوليان بايو ممثلا عن الخضر، كما أن أحزاب اليسار الأخرى التي تنضوي تحت لواء التحالف اليساري تنتابها بعض التخوفات حول ” التبعية وفقدان الاستقلالية أمام ميلونشون وحزبه “.
وتعد أبرز القضايا الخلافية التي قد تساعد على تشرذم تحالف اليسار هي قضايا الطاقة النووية، فهناك جناح من اليسار يؤيد إيقاف التقدمات النووية في فرنسا، وإغلاق كافة المفاعلات النووية، كخطوة ضرورية للتحول إلى الاعتماد على الطاقة النظيفة، وهذه هي رؤية حزب ميلونشون بالإضافة إلى الخضر، ولكن تقابله معارضة قوية من الاشتراكيين والشيوعيين. وهناك قضية العلاقة مع المؤسسات الدولية كحلف الناتو، والإقليمية كالاتحاد الاوروبي، فبقية القوى اليسارية التي تحالفت مع ميلونشون تؤيد عضوية فرنسا في تلك المؤسسات، في حين تتسم سياسة ميلونشون وحزبه فرنسا الأبية بالتشكيك دوما في أهمية التكتل الأوروبي، رغم ابتعاده بعض الشئ عن سياسة المعارضة الواضحة والعلنية للاتحاد الأوروبي، إلا أنها مواقف معروفة من قبل ميلونشون، وابتعاده عنها كان خلال فترة الحملات الانتخابية، كونه جزءا من سياسة الدعاية الانتخابية، حفاظا على أصوات المواطنين من مؤيدي الاتحاد الأوروبي.
وبالتالي، فإنه حال انقسم التحالف اليساري، خاصة بعد عدم تمكنه من الحصول على الأغلبية البرلمانية، وإجبار ماكرون على التعامل مع حكومة تعايش جديدة، فهو بذلك سيوفر على ماكرون وحزبه مزيدا من الجهد والتنازلات السياسية التي سيقدمها للراغبين في التحالف مع حزبه.
وفي الختام، وفقا للواقع السياسي الفرنسي،دخلت فرنسا مرحلة عدم اليقين بعدما خسر تحالف الرئيس إيمانويل ماكرون أغلبيته البرلمانية، ومن ثم بات مضطرا للتعامل مع القوى الحزبية المعارضة جميعها في البرلمان، رغم ما سيفرضه عليه ذلك من تكاليف، أو المضي قدما في حكومة أقلية قد تنتهي إلى حل البرلمان وفقا لما أكدته لوبان، ورجح البعض أن هناك نية لدى ماكرون لتشكيل حكومة أقلية بعد استقباله قادة الأحزاب الفائزة للتشاور معهم بخصوص المرحلة المقبلة، خاصة بعدما استبعد تشكيل حكومة وحدة وطنية، وأيضا تجديد الثقة في حكومة إليزابيث بورن ورفض استقالتها.
ولكن، رغم تعقيد المشهد السياسي الحالي في فرنسا بالنسبة إلى الرئيس إيمانويل ماكرون، إلا أن الانتخابات الفرنسية الأخيرة قد نجحت في تحريك الركود السياسي الذي استمر قائما لعقود على سيطرة حزبين أو تيارين رئيسيين فقط، وبالتالي فإن تلك الانتخابات أنتجت برلمانا معقد التركيب، وإذا لم تتم أي تحالفات برلمانية، ولم يجر حل المجلس كما في السابق،فستكون بمثابة تجربة أولى جديدة لم يعهدها الناخب الفرنسي من قبل.