تداعيات قرار الاتحاد الأوروبي بحظر الطاقة الروسية
مع دخول الحرب الأوكرانية شهرها الرابع، قرر الاتحاد الأوروبي في ٣١ مايو الماضي تنفيذ الحزمة السادسة من العقوبات الأوروبية المفروضة على روسيا، التي تم مناقشتها في فترة سابقة، ولم تحظ حينها بقبول كافة أعضاء التكتل بعد اعتراض كل من المجر وسلوفاكيا.
وفي ظل التأثيرات الواسعة المحتملة من قطع روسيا إمدادات الطاقة عن هولندا والدنمارك، بعدما رفضتا سداد قيمة الواردات الروسية بالروبل- يناقش هذا التحليل تداعيات القرار الروسي بحظر وارداتها من الطاقة إلى بعض الدول الأوروبية بعد أن أعقبه رد أوروبا على مستوى أوسع على كلا الطرفين، مع توضيح أهم البدائل المتاحة التي قد تلجأ إليها بروكسل لتعويض نقص الإمدادات الروسية.
قرار روسي:
بعدما أعلنت روسيا قطع إمدادات الطاقة عن بلغاريا وبولندا في أبريل الماضي، ثم فنلندا بعد تقديمها طلب للانضمام إلى حلف الناتو، وبالتزامن مع محاولات الاتحاد الأوروبي على مدار الأسابيع الماضية للاتفاق حول الحزمة السادسة والأهم في العقوبات الأوروبية الموقعة على روسيا، والتي عمدت إلى تطبيق حظر جزئي على إمدادات الطاقة الروسية.
لقد اتسعت العقوبات الروسية المتعلقة بحظر الغاز الروسي حتى طالت الدنمارك، حيث أعلنت شركة “غازبروم” الروسية وقف تصدير الغاز إلى شركة الطاقة الدنماركية أورستيد، بسبب عدم التزامها بدفع قيمة الغاز الروسي بالروبل. مرورا بهولندا، بعد أن تم حظر تصدير الغاز الروسي إلى شركة غاستيرا الهولندية بعد امتناعها كذلك عن الدفع بالروبل. وانتهاءا بألمانيا، حيث أعلنت روسيا أيضا عزمها تعليق توريد الغاز إلى شركة شل إنرجي الألمانية اعتبارا من ١ يونيو الجاري للسبب نفسه. واعتبر البعض الموقف الروسي ابتزازا لبقية الأوروبيين لدفعهم نحو شراء النفط والغاز الروسيين بالروبل، لأن روسيا تعي تماما أهمية وارداتها بالنسبة للأسواق الأوروبية، بل وحركة الصناعة في حد ذاتها بالقارة العجوز.
يذكر أنه في أواخر مارس الماضي، وقع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين مرسوما جديدا، قرر من خلاله دفع ثمن إمدادات الغاز الروسي من قبل مشتري الدول غير الصديقة بالروبل الروسي.
رد أوروبي:
على إثر القرار الروسي بحظر الطاقة الروسية على الدول سالفة الذكر، قرر الاتحاد الأوروبي وبالإجماع حظر ٩٠ ٪ من واردات الطاقة الروسية بحلول نهاية العام الجاري، ضمن حزمة جديدة من العقوبات الأوروبية على روسيا بعد حربها في أوكرانيا، ووافقوا على منح استثناء مؤقت (نسبة الـ ١٠ ٪ المتبقية) للنفط المنقول، مراعاة للمجر التي لا تملك سواحل لتعويض الإمدادات، لأنها تعتمد على خطوط الأنابيب البرية، وبالأخص خط دروجبا الذي يزود المجر والتشيك وسلوفاكيا، وهو بالفعل ما تم استثنائه من العقوبات، وبذلك سيضمن الاتحاد عدم معارضتهم للقرار كالسابق. غير أن العقوبات الأوروبية لم تقتصر على ذلك، فقد أقرت دول الاتحاد الـ ٢٧ إجراءات صارمة جديدة ضد بنوك روسية، تشمل إقصاء بنك سبير بنك (وهو أكبر البنوك الروسية، ويهيمن على حوالي ثلث القطاع المصرفي الروسي) من نظام سويفت للمعاملات المالية الدولية، وبالتالي فإن إدراج هذه المؤسسة المالية على قائمة العقوبات المفروضة على روسيا سيزيد من عزلة النظام المالي الروسي. كما تم إدراج ٦٠ شخصية إضافية على القائمة الأوروبية السوداء.
وفي مطلع شهر مايو الماضي، اقترحت المفوضة الأوروبية فرض الحظر على قطاع الطاقة الروسي، إلا أن اعتراض المجر وسلوفاكيا والتشيك وبلغاريا على القرار أدى إلى عدم تنفيذه في وقتها، بعدما طالبت تلك الدول بإعطائها مهلة أكبر من أجل تنفيذ القرار، بسبب اعتمادها الشديد على الطاقة الروسية، ومحدودية البنية التحتية للاستيراد من مصادر أخرى، فضلا عن كونها دولا حبيسة لا تملك منفذ بحري لاستيراد الطاقة من خلاله، لذا تعتمد على خطوط الأنابيب البرية.
وجاء القرار الأوروبي إحياءا لماء الوجه، بعدما فشل الاتحاد في تمريره في وقت سابق، وبعدما كان لروسيا الأسبقية في حظر غازها عن دول أعضاء بالاتحاد، ولهذا رجح البعض صعوبة تمرير مثل هذا القرار على الأقل في الوقت الراهن بدون تلك المحفزات، بدليل أن الاتحاد فشل في تحقيق الاجماع المطلوب لتنفيذ هذا القرار الشهر الماضي، وعليه أعلن جوزيف بوريل مسؤول الشئون الخارجية بالاتحاد الأوروبي صعوبة توافر الإجماع لمثل هذا القرار، بعدما اعترضت عدة دول داخل التكتل.
ناهيك عن أن أوروبا رغم خسائرها المتوقعة جراء هذا القرار، إلا أنها كانت مجبرة على ذلك، في سبيل الحفاظ على الوحدة الأوروبية، والتي قد تتهدد حال لم يتم اتخاذ مثل هذا القرار، خاصة بعد قطع روسيا لإمدادات الطاقة عن دول بعينها في الاتحاد، وبالتالي فإن مصداقية التكتل قد تتهدد حال تركه لتلك الدول تواجه بمفردها تبعات قرارها بعدم شراء الطاقة الروسية بالروبل وحظرها بعد ذلك، مقارنة بدول أخرى لم تطلها هذه الإجراءات حتى الآن، وبالتالي لم تتأثر بنفس القدر، لذا باتت هناك ضرورة للمغامرة بمثل هذا القرار من قبل بروكسل للحفاظ على وحدة التكتل بأن تكون المعاناة جماعية.
تداعيات القرار:
اختلفت الأوساط السياسية حول تحديد الطرف الأكثر تضررا من هذا القرار، وما إذا كان التصعيد الأخير بين روسيا والاتحاد الأوروبي سيمثل ضربة مبرحة للاقتصاد الروسي، أم أن المواطن الأوروبي مقبل على أزمة طاقة طاحنة خلال الفترة القادمة، ولكن في تقديرنا أن الطرفين متضرران بشكل كبير، بل العالم والاقتصاد العالمي بأسره زيادة عن تأثره بالحرب الأوكرانية نفسها.
لكن الاقتصاد الروسي يبدو وأنه سيتأثر بشكل أكبر نوعا ما، باعتبار أن صادرات الطاقة الروسية أصبحت مصدرا أساسيا للإيرادات بسبب العقوبات الغربية على القطاعات الأخرى، وتكاد تجمع العديد من الوكالات الاقتصادية في العالم على أن القرار سيكلف الاقتصاد الروسي خسائر بمليارات الدولارات سنويا. ووفقا لبلومبرغ، تقدر خسائر روسيا الناجمة عن الحظر النفطي الأوروبي بنحو ٢٢ مليار دولار، كما صرح رئيس مركز تطوير الطاقة الروسي كيريل ميلنيكوف بأن شركات النفط الروسية قد تخسر من ٥ إلى ١٠ مليارات دولار، كما أعلن وزير الطاقة الأوكراني هيرمان هالوشينكو أن خسائر موسكو من الحظر النفطي الذي اتفق عليه الاتحاد الأوروبي يعادل ثلث الميزانية العسكرية في روسيا عام ٢٠٢١.
وبالإضافة إلى الآثار السلبية التي سيخلفها القرار الأوروبي على الاقتصاد الروسي، فإنه سيمثل انقطاع لمصدر هو الأهم للتمويل، مما سيؤدي إلي تزايد الضغوط على الحكومة الروسية، سواء على المستوى الداخلي، أو في الحرب الدائرة في أوكرانيا، لأن روسيا تصدر حوالي ٤٠ ٪ من إنتاجها من الغاز إلى أوروبا.
أوروبا أيضا، متضررة من القرار الذي ظلت تدرسه لشهور، حتى جاء الوقت الذي أصبحت فيه مجبرة على اتخاذه حفاظا على وحدة التكتل، وردا على القرار الروسي بحظر الطاقة عن بعض الدول الأعضاء، إلا أنها من المؤكد ستعاني من أزمة طاقة كبيرة في الفترة القادمة، وقد تطول لفترة طويلة، وهو ما أكده رئيس وكالة الطاقة الدولية فاتح بيرول، الذي أكد أيضا أن أوروبا ستواجه نقصا في الوقود هذا الصيف بسبب الشح في أسواق النفط، كما وصف أزمة الطاقة الحالية بأنها “أكبر بكثير” من صدمات النفط في فترة السبعينيات، خاصة عندما يبدأ موسم العطلات في أوروبا والولايات المتحدة، عندها سيزداد الطلب على الوقود، كما شدد على أن الأزمة لن تقتصر على النفط فقط، بل الغاز والكهرباء في آن واحد، هذا بالإضافة إلى تأثر القطاع الصناعي في أوروبا بشكل كبير.
أضف إلى ذلك، التأثيرات الفردية التي ستترتب على قراري موسكو وبروكسل في بعض الدول، لأن كل دولة تعتمد على مصادر تمويل مختلفة، وكذلك نسبةاعتماد مختلفة على الطاقة الروسية، مثل بولندا والمجر وألمانيا وفنلندا وغيرها.
بدائل حالية:
روسيا تصدر حوالي ٤٠ ٪ من إنتاجها من الغاز إلى أوروبا، وبلغت صادراتها حوالي ١٥٥ مليار متر مكعب في عام ٢٠٢١، وتستورد ألمانيا تقريبا نصف احتياجاتها من الغاز من روسيا، كما أن إيطاليا أيضا متضررة بشكل كبير، حيث تعتمد على الغاز الروسي بنسبة٤٦ ٪ تقريبا، بينما تحصل فرنسا على ما يقارب من ربع إمداداتها من روسيا.وعليه أصبحالاتحاد الأوروبي مضطرا حاليا لإيجاد بديل لنحو ٣,٥ مليون برميل يوميا من النفط الروسي.
المصدر: يورو نيوز عن الوكالة الأوروبية للطاقة
وبالتالي قد يكمن الحل لاستقرار أسعار الطاقة في دول الشرق الأوسط التي تملك حوالي نصف احتياطيات العالم من النفط، وعلى رأسها دول الخليج، وقد يصبح هذا الأمر ممكنا حاليا بعد أن تتم استعادة حيوية العلاقات الأمريكية بالسعودية والإمارات. أما عن احتياجات أوروبا من الغاز، فقد توفي قطر بجزء من الاحتياجات الأوروبية من الغاز، لكنها ستظل بديلا غير كافي للغاز الروسي، فوفقا لوكالة إس آند بي للتصنيف الائتماني، يمكن لقطر أن تغطي ما يقارب ١٣ ٪ من صادرات الغاز الروسي إلى أوروبا، وقد تسير عدة دول أوروبية تجاه إسرائيل أو قطر في الفترة القادمة على غرار ألمانيا، وبذلك تكون الإدارة الأمريكية عاقبت روسيا على حربها في أوكرانيا، وكافأت قطر بعد المصالحة الخليجية ودورها في أفغانستان وحرب غزة.
هذا بالإضافة إلى النرويج، حيث تمثل ٢٥ ٪ من واردات الاتحاد الأوروبي، وتعتمد عليها بريطانيا على سبيل المثال في نصف احتياجاتها من واردات الطاقة الخارجية، الأمر نفسه بالنسبة لفرنسا، التي تعتمد على الطاقة النرويجية بنسبة لا يستهان بها، إلا أن رئيس الوزراء النرويجي كان قد أعلن في وقت سابق عدم قدرة بلاده تعويض أي إمدادات تفقد من روسيا. وأيضا الولايات المتحدة، والتي تخطت صادراتها المنتجين الرئيسيين كقطر وأستراليا العام الماضي، ووفقا لوكالة الطاقة الأمريكية، يتوقع أن تكون الولايات المتحدة المصدر الأول خلال العام الجاري، بعدما تعهد بايدن بإرسال ١٥ مليار متر مكعب إضافي من الغاز الطبيعي إلى الاتحاد الأوروبي خلال العام الجاري.هذا بالإضافة إلى كندا وهولندا وفنزويلا كأقرب وأسرع البدائل.
وتعتبر هذه البدائل الأكثر واقعية للطاقة الروسية في الشرق الأوسط، مقارنة بنيجيريا البعيدة جغرافيا إلى حد ما، وبالتالي سيتطلب الاستيراد منها الانفاق على مشروعات البنية التحية بشكل كبير بينما الدول الأوروبية لا تملك رفاهية الوقت كثيرا في هذا الشأن، أو الجزائر التي تجمعها خلافات جوهرية مع الغرب على إثر علاقتها بروسيا وقضية الصحراء الغربية، وإن كانت قد أبدت استعدادها لمساعدة شركائها الأوروبيين في وقت سابق.
المصدر: يورو نيوز عن الوكالة الأوروبية للطاقة
وأخيرا، يمكن القول إنه بعد القرار الروسي بحظر الطاقة الروسية إلى عدة دول أوروبية، والقرار الأوروبي في المقابل بحظر استيراد الطاقة الروسية، فإن الحديث حتى عن زيادة انتاج النفط من قبل منظمة أوبك، لن يتمكن على المدى القريب من تخفيف حدة أسعار الطاقة في العالم، أو ضمان استقرارها طالما استمرت الحرب، وستظل الاقتصادات العالمية، والأوروبية بوجه خاص، تعاني من تبعات هذه التطورات لفترة ليست بالقصيرة. إلا أن كل ذلك لا ينفي أهمية الخطوة الأوروبية _ رغم كونها مكلفة _باعتبارها ضرورية في طريق الاستقلالية الاقتصادية في مجال الطاقة خاصة.