كيف تفكر السياسة الخارجية الأمريكية في لبنان؟

على الرغم من صعوبة انخراط إدارة بايدن في الشأن اللبناني، إلا أن لبنان ترتبط بشكل كبير بالأمن القومي الأمريكي، وذلك بالنظر إلى أنها-أي لبنان جزء من بيئة إقليمية معقدة تشهد منافسات حادة بين إيران ودول الخليج العربية وإسرائيل وروسيا والصين والولايات المتحدة، رغبة في توسيع النفوذ في منطقة شرق البحر المتوسط.

 وبالتالي يجب على إدارة بايدن خلال المرحلة المقبلة تطوير تفاعل أكثر دقة وإظهار استجابة قوية للازمات المتسارعة التي تعاني منها تلك الدولة، لأن إذا أرادت الولايات المتحدة الحفاظ على وضعها الاستراتيجي على طول شرق البحر الأبيض المتوسط لن يمكنها تحمل عدم الانخراط في مساعدة بيروت، وسيكون لدى الولايات المتحدة الكثير لتخسره إذا انهار لبنان.

تأسيساً على ما سبق، يحاول هذا التقرير تسليط الضوء على أبرز العوامل التي تقف وراء وضع لبنان على قائمة أولويات السياسة الخارجية الأمريكية، وما هي التحركات الأمريكية التي شهدتها الفترة الأخيرة وتدل على احتمال عودة لبنان إلى دائرة اهتمام إدارة بايدن، وكيف يمكن لإدارة بايدن العمل على عدد من المسارات المختلفة من أجل انخراط أكثر قوة في المشهد اللبناني.

لماذا لبنان على أولويات السياسة الخارجية الأمريكية؟:

توجب المشاركة الأمريكية المحدودة للغاية في دعم لبنان، تفعل المزيد ووضع تلك الدولة رأس أجندة السياسة الخارجية، وذلك بالنظر إلى عدة عوامل يمكن التطرق لها كالتالي:

(*) التأكيد على القيادة الأمريكية: يقدم لبنان حالة واضحة للعواقب الوخيمة للابتعاد عن المنطقة، بالنظر إلى حقيقة التنافس بين القوى العظمى، وبالتالي إذا لم تظهر الولايات المتحدة القيادة الفعالة، فإنها تفتح الباب أمام قوى أخرى، ولا سيما روسيا، التي تمتلك منشأة بحرية تقع على الحافة الشمالية للميناء البحري في مدينة طرطوس بسوريا، على بعد أقل من 40 ميلاً بالسيارة من ميناء طرابلس اللبناني، وبالنظر إلى ذلك يمكن أن يصبح لبنان نقطة انطلاق أخرى لتقدم روسي في الشرق الأوسط، ما لم تعيد الولايات المتحدة تأكيد دورها هناك.

(*) التصدي لإيران: تعتبر إيران والقوى السياسة الموالية لها داخل لبنان، المستفيد الأول من انهيار الدولة اللبنانية، على سبيل المثال قد يرى حزب الله وكيل إيران في لبنان، فرصة للاستيلاء على السلطة بشكل مباشر وأكثر استراتيجية عن طريق تعزيز سيطرته في معاقله والسماح لبقية البلاد بالانغماس في العنف من أجل إظهار ضعف الديمقراطية الغربية، وبالتالي في كلتا الحالتين، ستفوز طهران، ما لم تنخرط الولايات المتحدة في مسار استراتيجي لمعالجة معضلات لبنان.

(*) تنامي الظاهرة الإرهابية: من المحتمل أن يؤدي التناقض بين تدهور الأحوال المعيشية في لبنان وعدم تحرك الطبقة السياسية إلى اضطرابات اجتماعية وانتشار العنف داخل لبنان التي تعتبر أرض خصبة لتيارات التطرف الإسلامي في المنطقة، وبالتالي لا يمكن استبعاد احتمال عودة ظهور تنظيم “داعش” بالتزامن مع الآثار غير المباشرة من الحرب الأهلية السورية، والتي أدت إلى تفجيرات في بيروت وطرابلس قبل ثماني سنوات فقط، وبالتالي انتشار هذا العنف داخل لبنان يعد فرصة لانتشار الإرهاب المحتضن ليس في المنطقة فحسب بل إلى الولايات المتحدة أيضاً.

(*) تدفق موجات جديدة من اللاجئين: ما لم تتم معالجة الأزمات اللبنانية، من المرجح أن يؤدي الاضطراب الاجتماعي الناتج إلى إحداث موجة جديدة من اللاجئين، الفارين من ويلات الاقتصاد المنهار، كما أن نظام الأسد في سوريا يسعى إلى إثارة العنف في لبنان من أجل تحقيق نوع من إعادة الهندسة الديموغرافية التي قام بها في الداخل، حيث أجبر السكان المستهدفين على الفرار. وعليه، يجب أن تشعر الولايات المتحدة بالقلق إزاء الآثار المزعزعة للاستقرار نتيجة تدفقات اللاجئين المتجددة إلى حلفاء مثل الأردن وتركيا، اللتين تستضيفان بالفعل أعدادًا كبيرة من اللاجئين، أو دول الاتحاد الأوروبي، حيث تستمر موجة اللاجئين عام 2015 في إحداث تداعيات سياسية مدمرة.

مؤشرات الاهتمام الأمريكي بلبنان:

شهدت الفترة الأخيرة تحركات أمريكية تدل على احتمال عودة لبنان إلى دائرة اهتمام إدارة بايدن، والتي يمكن إيجازها في النقاط التالية: –

(&) الولايات المتحدة هي أكبر مانح منفرد للمساعدات الإنسانية في لبنان: أعلن الرئيس جو بايدن في الرابع من أغسطس، تقديم حوالى 100 مليون دولار من المساعدات الإنسانية الجديدة للبنان، حيث ستقوم هذه المساعدات التي تقدمها الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية ووزارة الخارجية الأمريكية بمساعدة المتضررين من وباء كوفيد-19 وآثاره الاجتماعية والاقتصادية المتراكمة على الشعب اللبناني، كما يدعم التمويل أيضا اللاجئين السوريين في لبنان، كما تقوم الولايات المتحدة من خلال التمويل البالغ 41 مليون دولار من الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية بتوفير المساعدات الغذائية المطلوبة بشكل عاجل والرعاية الصحية والحماية والدعم لناحية المياه والصرف الصحي للمجتمعات، بما في ذلك تلك المتضررة من وباء كوفيد-19، والأهم من ذلك هو أن هذا التمويل يشمل أيضا المساعدات الغذائية لحوالي 400 ألف مستفيد لبناني، ويضاف هذا التمويل إلى ذلك الذي تقدمه وزارة الخارجية الأمريكية، ليصل إجمالي المساعدات الإنسانية الأمريكية للبنان إلى أكثر من 372 مليون دولار في السنة المالية 2021، وذلك استجابة لوباء كوفيد-19 والآثار الإنسانية لانفجار مرفأ بيروت في أغسطس 2020 وأزمة اللاجئين السوريين المستمرة.

(&) دعم حزبي أمريكي واسع للبنان: أظهر الكونجرس خلال الشهور الماضية دعم واسع للبنان، وتجلي ذلك في توجيه عدد من المشرعين الديمقراطيين في الكونجرس رسالة إلى وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن يوم 18 مايو الماضي يحثونه فيها على معالجة أزمة لبنان المتفاقمة، بقيادة النائب جريجوري ميكس (ديمقراطي من نيويورك)، رئيس لجنة الشؤون الخارجية في مجلس النواب، ودعا المشرعون الولايات المتحدة إلى قيادة مجموعة “أصدقاء لبنان” لتنسيق المساعدات للبلاد، والمطالبة بمزيد من الدعم للجيش اللبناني، كما قالوا إن على الإدارة أن تدعو إلى إجراء تحقيق مستقل في الانفجار المدمر في ميناء بيروت في أغسطس 2020.

 بينما في الـ27 من يوليو الماضي، قدم النائبان الأمريكيان دارين لحود وداريل عيسى، مع اقتراب الذكرى السنوية الأولى للانفجار المأساوي في مرفأ بيروت مشروع قرار من الحزبين للتعبير عن دعم الكونجرس للعلاقات الأمريكية اللبنانية الجارية والشعب اللبناني، ودعم القرار الجهود المستمرة والحاجة إلى المساعدة الإنسانية لشعب لبنان، ومكافحة الفساد الحكومي وتنفيذ الإصلاحات الهيكلية اللازمة، بالإضافة إلى دعم الدور المهم للجيش اللبناني. كما أنه في مطلع الشهر الجاري ترأس السناتور الأمريكي كريس مورفي ورئيس اللجنة الفرعية للعلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ الأمريكي للشرق الأدنى وجنوب آسيا وآسيا الوسطى ومكافحة الإرهاب، وفدًا من أعضاء مجلس الشيوخ الأمريكي هم السناتور ريتشارد بلومنتال، والسناتور جون  أوسوف، والسناتور كريس فان هولين، في زيارة للبنان، حيث التقى الوفد رئيس الجمهورية اللبنانية ميشال عون ورئيس الحكومة المكلّف نجيب ميقاتي ورئيس مجلس النواب نبيه بري وقائد الجيش اللبناني العماد جوزيف وممثلين عن المجتمع المدني والسياسي، حيث ركزت اجتماعات الوفد على مناقشة الأزمة الاقتصادية والسياسية في لبنان، والتعاون الأمني بين الولايات المتحدة ولبنان والمساعدات الأمريكية الإنسانية.

(&) مواصلة دعم الجيش اللبناني: تواصل إدارة بايدن دعمها للجيش اللبناني، الذي تعتبره مؤسسة ذات أهمية متزايدة في لبنان وسط تدهور الأمن العام، وفي مايو الماضي، أعلنت الإدارة أنها ستزيد من منحة التمويل العسكري الأجنبي السنوية بمقدار 15 مليون دولار، ليصبح المجموع 120 مليون دولار في السنة المالية 2021.

(&) استمرار الضغط على حزب الله: أعلنت إدارة بايدن مؤخرًا عن عقوبات تستهدف قادة حزب الله ومؤسسة القرض الحسن التابعة له، ففي مايو 2021 فرضت وزارة الخزانة الأمريكية عقوبات على سبعة لبنانيين على صلة بحزب الله ومؤسسته المالية، حيث أدرجت على القائمة السوداء إبراهيم علي ضاهر، مسئول الوحدة المالية المركزية لحزب الله، وصنفته إرهابيا عالميا، والستة الآخرين هم المدير المالي أحمد محمد يزبك، وعباس حسن غريب ووحيد محمود سبيتي ومصطفى حبيب حرب وعزت يوسف عكر وحسن شحادة عثمان. كما أعلن جو بايدن في الـ20 من يوليو 2021، استمرار حالة الطوارئ الوطنية المعلنة في الأمر التنفيذي رقم 13441 فيما يتعلق بلبنان والذي تم إصداره لأول مرة خلال إدارة بوش عام 2007، والتي بموجبها تفرض الولايات المتحدة عقوبات أمريكية منها تجميد الأموال للأشخاص التي ترى واشنطن انهم يقومون بأنشطة تهدد سيادة لبنان.

تحركات أمريكية مستقبلية:

على الرغم من نهج إدارة بايدن الحذر والمتردد تجاه لبنان، إلا أن خلال المرحلة المقبلة يجب على إدارة بايدن أن تفعل المزيد لمساعدة الشعب اللبناني، من خلال العمل على عدة مسارات مختلفة، على النحو التالي:

  • الحفاظ على الدعم العسكري للجيش اللبناني: الولايات المتحدة لديها مصلحة راسخة في إبقاء القوات الأمنية والعسكرية اللبنانية على أهبة الاستعداد لمواجهة تحديات الاضطرابات الداخلية، لاسيما وأن في مارس الماضي، دق وزير الداخلية وقائد الجيش اللبناني ناقوس الخطر بشأن سوء أوضاع قوات الأمن وعدم جاهزيتها لمواجهة تلك التحديات، كذلك ما يثير القلق أيضاً احتمال انقسام الجيش على أسس طائفية – كما حدث خلال الحرب الأهلية 1975-1990 – بسبب الأوضاع السياسية في البلاد، ولذلك يجب على إدارة بايدن الحفاظ على المساعدات العسكرية لأن الجيش اللبناني يظل مؤسسة الدولة الأكثر شرعية وتماسكًا وموثوقية وانضباطًا، ومنذ عام 2006 إلى عام 2020 ، قدمت الولايات المتحدة حوالي ملياري دولار من المساعدات العسكرية للبنان.
  • الضغط من أجل تشكيل حكومة تكنوقراط: يجب على واشنطن والعواصم الأوروبية مواصلة الضغط على السياسيين اللبنانيين لتسهيل تشكيل حكومة تكنوقراط قوية، لأن مثل هذه الحكومة يمكن أن تساعد الدولة على إصلاح مؤسساتها والتصدي للفساد السياسي والاقتصادي، حتى يتم استعادة الثقة في المؤسسات اللبنانية والتي تعتبر الشرط الأساسي للحصول على المساعدة الدولية والاستثمار الأجنبي المباشر.
  • إقناع الحلفاء بأهمية استمرار دعم لبنان: يجب على الولايات المتحدة إقناع الدول العربية، وخاصة دول الخليج، بعدم التخلي عن لبنان بسبب موقع حزب الله في الحكم، على سبيل المثال جعلت المملكة العربية السعودية والإمارات مساعدتهما للبنان مشروطة بنجاح البلد في السيطرة على الحزب، ومن شأن تلك السياسة أن تمنح حزب الله مساحة أكبر للمناورة والسيطرة على مؤسسات الدولة.
  • السيطرة على أنشطة إيران في لبنان: يجب على واشنطن الضغط على إيران في ملف المفاوضات، وإجبارها على ضرورة فصل السلام السياسي والاقتصادي والمدني في لبنان عن أي نتيجة ترغب في الحصول عليها فيما يتعلق ببرنامجها النووي.

خلاصة القول، بشكل عام تمثل سياسة إدارة بايدن تجاه لبنان استمرارية مع سابقتها، ففي حين أن إدارة بايدن تسعى بلا شك إلى الاستقرار في لبنان، إلا أنها حتى الآن غير مستعدة لدفع ثمن ذلك دون قيد أو شرط، وبالتالي ستستمر واشنطن في تقديم المساعدة الإنسانية للشعب اللبناني وستساعد في نهاية المطاف الحكومة اللبنانية، لكن فقط إذا اتخذت بيروت الخطوات الأولى لمساعدة نفسها من خلال النظر في تنفيذ الإصلاحات التي هي شرط لا غنى عنه لدعم الولايات المتحدة لبرنامج صندوق النقد الدولي، ومن أجل ضمان تحقيق ذلك يجب على الولايات المتحدة بالتنسيق مع حلفائها، مواصلة الضغط على حزب الله وحلفائه الفاسدين في لبنان من خلال توسيع استخدام آلية العقوبات في استهداف مزيد من الأفراد الفاسدين، فقد حان الوقت الآن للتحرك من قبل الولايات المتحدة والغرب لإنقاذ لبنان من أيدي حزب الله لان ذلك يزيد فقط من فرص الاضطرابات الطائفية أو حتى الحرب الأهلية التي قد لا تظل محصورة داخل حدود لبنان، وتحول لبنان إلى دولة فاشلة أخرى تهيمن عليها إيران.

سلمى العليمي

باحثة متخصصة بالشؤون الأمريكية، الرئيس السابق لبرنامج الدراسات الأمريكية، باحث ماجستير في العلوم السياسية، حاصلة على بكالوريوس العلوم السياسية من كلية الاقتصاد والعلوم السياسية جامعة القاهرة، ودبلومة في الدراسات العربية، دبلومة من الجامعة الأمريكية في إدارة الموارد البشرية، نشرت العديد من الدراسات والأبحاث الخاصة في الشأن الأمريكي والعلاقات الدولية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى