بعد سيطرة طالبان.. كيف تفكر “إيران” في شيعة أفغانستان؟

تراقب إيران بقلق الوضع المضطرب في أفغانستان، جارتها الشرقية التي تتشارك معها حدوداً بطول أكثر من 900 كلم، حيث تتبنى نهجية برجماتية، لا سيما حيال حركة طالبان، فقد جمعت علاقات متضاربة بين إيران، القوة الإقليمية النافذة ذات الغالبية الشيعية، وحركة طالبان السنية خلال فترة حكم طالبان وإقامتها “الإمارة الإسلامية” بين العام1996 و2001، ولم تعترف طهران بتلك “الإمارة”، وهي تصنف طالبان “منظمة إرهابية”، وسبق أن اتهمتها باضطهاد الشيعة الأفغانستانية، ومع اقتراب إتمام انسحاب القوات الأجنبية بشكل كامل من أفغانستان، وسعت حركة طالبان من نفوذها بشكل كبير، مع انهيارات متتالية للقوات الحكومية؛ فالحركة كثفت هجماتها في مايو الماضي، وباتت الحركة قاب قوسين أو أدنى للسيطرة على قلب أفغانستان، بعد أن طوقت الجهات الأربع، وباتت تحكم قبضتها على حوالي أكثر من 20 ولاية من أصل 34 لمحافظات أفغانستان.

وعلينا أن ندرك جيداُ أنه ليس من الدواعي الدافعة للقوى الإقليمية إنشاء مساحة نفوذ داخل أفغانستان، ولا يتعلق الأمر بثروات أو بموقع أفغانستان أو مساحته الشاسعة، فهذه فواعل ثانوية لا تغري القوى الإقليمية، بل إن التحكم بواحدة من أكثر بلدان العالم حساسية وإنتاجاً للحركات المتطرفة، يسمح لهذه الدول ذات النفوذ أن تملك أوراق ضخمة لمساومة القوى العالمية الكبرى، وهذه أكبر أدوات صناعة النفوذ في العالم، وهو ما أدى إلى وجود أطماع إقليمية خاصةً من الجارتين باكستان وإيران، ومما شدد من أذر ذلك إعلان مسبق من جانب الحكومة الأفغانية وموافقتها على الاجتماع الإقليمي الثلاثي بشأن ما أسمته “الدعم الإقليمي لعملية السلام الأفغانية”، الذي يجمعها مع كُل من باكستان وإيران، لكنه يعني فعلياً بأن حكومة أفغانستان قدمت تنازلاً سياسياً وعسكرياً للدولتين، واعتبرتهما دولتان ذات نفوذ داخل أفغانستان.

  إيران وقومية الهزارة الشيعية في أفغانستان؟:

يبدو أن الوضع الأمني ​​المتدهور للحكومة الأفغانية والخسارة المتتالية للأراضي لصالح حركة “طالبان” أثار القلق في إيران، وهو ما أدى إلى قيام إيران بنشر المزيد من القوات العسكرية على طول الحدود مع أفغانستان، لا شك أن طهران تدرس خيارات مختلفة لتأمين مصالحها في البلد المجاور، سواء من خلال شن حرب بالوكالة، أو التدخل المباشر، أو العمل مع حركة “طالبان”، أو محاولة الحفاظ على الوضع الراهن، وقد تزايدت المخاوف بشأن تحركات إيران نحو تنظيم مجموعات مُسلحة “شيعية” أفغانية، خاصة في العاصمة كابل وبقية المناطق التي يقطنها الشيعة الأفغان، وقد نقلت صحيفة “جمهوري إسلامي” الإيرانية، المُقربة من مرشد النظام الإيراني، علي خامنئي، تقريراً عن استعدادات الوحدات الصغيرة من التنظيمات المُشكلة داخل الأحياء الشعبية في العاصمة كابل ومناطق ريفية، حيث تستغل هذه التنظيمات انشغال الحكومة في مواجهة حركة طالبان.

فثمة إشارات متزايدة على صعيد التدخل العسكري الإيراني عبر تشكيلا لميليشيات، تبدو أعداد أبناء قومية الهزارة صغيرة مقارنة بباقي القوميات في البلاد، لكن ذلك لن يكون ذا أهمية في حال اندلاع حرب، فإذا اندلعت الحرب الأهلية، فإن الأعداد لن تكون مهمة، لأن الجهد العسكري الرئيسي للطرفين المتصارعين، أي الحكومة وحركة طالبان، سيذهب في المواجهات بينهما، مما سيخفف أي عبء متوقع على التنظيمات العسكرية الموالية لإيران.

 الخيارات الإيرانية تجاه أفغانستان:

تعمل الاستراتيجية الإيرانية في أفغانستان على مستويين، الأول، هو دعم ومساندة الأقلية الشيعية “أقلية الهزارة”هناك؛ ففي بداية الأزمة تم تحويل “حي دشت برشي” في العاصمة الأفغانية كابل، الذي يقطنه أبناء أقلية الهزارة الشيعية، تحول إلى ما يشبه المعسكر المغلق بالإضافة إلى أنه تم تشكيل العديد من الفصائل المسلحة مثل ميليشيات “فدائي بابا مزاري”، الذين تقدر أعدادهم بالآلاف، وتتولى الشبكات الدينية نقل المال لهم لشراء الأسلحة، هذا إلى جانب الدور الذي يقوم به الحرس الثوري الإيراني في نشاط “فيلق القدس” لتشكيل فصائل مسلحة في أفغانستان من أقلية الهزارة، حيث يتبع هؤلاء المذهب الشيعي ويتحدثون الفارسية، وسبق أن سلحتهم طهران في الماضي إبان الحروب الطويلة التي اندلعت في أفغانستان، ولا تخفي إيران ذلك التعاون فقد اعترفت إيران رسمياً بعلاقتها بتلك الميليشيات، إذ بعد سلسلة من المواقف الرسمية التي صدرت عن الحكومة الأفغانية بشأنها واعتبارها تدخلاً إيرانياً في الشؤون الداخلية، صرح وزير الخارجية الإيراني السابق محمد جواد ظريف قائلاً إن “عددهم لا يتجاوز 5 آلاف مقاتل، وهم جزء من مجهود مكافحة الإرهاب، ومستعدون للتعاون مع الحكومة الأفغانية.

أما الخيار الثاني، تم تشكيل ميليشيات “فرقة فاطميون” من جانب طهران خلال عام 2012 لدعم حكومة الرئيس بشار الأسد خلال الحرب، وهي مكونة من المهاجرين الأفغان الهزارة الذين استقروا في إيران اعتباراً من عام 1989، حينما اندلعت الحرب الأهلية الأفغانية، ويتم دعمها عبر سلسلة الزيارات المتكررة التي يقوم بها القائد العسكري لفيلق القدس من الحرس الثوري الإيراني، إسماعيل قا آني، إلى بلدة البوكمال في أقصى شرقي سوريا، حيث تتمركز أعداد كبيرة من “فرقة فاطميون” المدعومة من إيران وبمثابة أذرع لإيران، هذا إلى جانب أن ما يحدث من التطورات الأخيرة قد تراه طهران فرصة لزيادة نفوذها المحلي وتسجيل نقاط ضد الولايات المتحدة، ففي الفترة 7-8 يوليو الماضي، استضافت وزارة الخارجية الإيرانية وفدين من الحكومة الأفغانية وحركة “طالبان” في محاولة سريعة لسد الفجوة الدبلوماسية التي أحدثها رحيل القوات الأمريكية مع التعبير أيضاً عن مخاوفها الأمنية، إلى جانب المباحثات الرسمية التي تجريها مع حكومة أفغانستان وحركة طالبان على السواء.

كيف تفكر إيران في أفغانستان؟:

في البداية دعت وزارة الخارجية الإيرانية إلى ضمان سلامة بعثتها في مدينة هرات الأفغانية التي سيطرت عليها حركة طالبان، مؤكدة أنها على تواصل مع الدبلوماسيين والموظفين الذين لا يزالون في القنصلية، وكتب المتحدث باسم الوزارة “سعيد خطيب زاده” عبر تويتر إن “الجمهورية الإسلامية، ومع إبداء قلقها إزاء تصاعد أعمال العنف في أفغانستان ونظراً لسيطرة طالبان على مدينة هرات، تدعو لضمان السلامة الكاملة للمقرات الدبلوماسية وحياة الدبلوماسيين”، ولكن مع تزايد الأحداث داخل أفغانستان يبدو أن طهران تدرس ثلاثة خيارات رئيسية لتجنب زعزعة الاستقرار الخطيرة في أفغانستان وتعزيز مصالحها هناك.

ومن المحتمل تشمل تلك البدائل الآتي: دعم سيطرة طالبان سراً أو علناً مع التوصل إلى اتفاقيات تكتيكية واستراتيجية مع الحركة من أجل احتواء أنشطتها، واعتبارها القوى الغالبة في هذه المعركة أو شن حرب بالوكالة ضد الجماعة أو التدخل مباشرةً.

البديل  الأول: وهو دعم سيطرة “طالبان”، حيث أن سيطرة “طالبان” هي الخيار السياسي العملي الوحيد في أفغانستان – أو على الأقل الخيار الوحيد لكسب ود هذه القوى، وعلى الرغم من اختلافاتهما الإيديولوجية، إلّا أن لديهما الكثير من القواسم المشتركة، التي تشمل وجهات نظرهما المتطرفة وعدائهما تجاه الولايات المتحدة، ويمكن أن يمهد هذا التقارب الطريق نحو تعاون استراتيجي مستقبلي، شرط أن تكون “طالبان” مستعدة لتقديم ضمانات موثوقة لحماية مصالح الشيعة الأفغان، ولكن على الجانب الآخر تخشى طهران من سيطرة “طالبان” الكاملة التي قد تمنح حرية أكبر للمزيد من العناصر السنية المتطرفة في أفغانستان – وعلى الأخص، يمكن للفصائل السلفية مهاجمة المجتمعات الشيعية علناً، مما يؤدي إلى تدفق كبير للاجئين إلى إيران، ومع ذلك، قد يقرر المسئولون الإيرانيون ومسئولي “طالبان” الحد من هذه المخاوف من خلال الحفاظ على عدم التضارب بحكم الأمر الواقع والتعاون على المستوى التكتيكي.

البديل الثاني: شن حرب بالوكالة، وذلك عبر الاستفادة من تجربتها في العراق وسوريا، قد تستخدم طهران بدلاً من ذلك الميليشيات لمنع السيطرة الكاملة لحركة “طالبان”، فإيران تملك أصلاً سلاحاً واحداً فعالاً لهذا السيناريو هو: لواء “الفاطميون” المخضرم، وهي ميليشيا تتكون من مقاتلين أفغان تم تجنيدهم وتدريبهم وتجهيزهم من قبل «فيلق القدس» للقتال في سوريا ابتداءً من عام 2012، ويمكن تصور تشكيل ميليشيات أخرى داخل أفغانستان من خلال تنظيم آلاف السكان المحليين الذين يبحثون بشدة عن عمل من أي نوع كان وتدريبهم،وأن يتم وضع مثل هذه الجماعات تحت قيادة جماعات “الفاطميون” وضباط “فيلق القدس”.

البديل الثالث: التدخل المباشر، خاصة إذا كان هدف إيران هو دعم الحكومة المركزية في أفغانستان، أو وضع مظلة واقية للسكان الشيعة،أو الحفاظ على الوضع الراهن من خلال منع الانتصار الكامل لحركة “طالبان”، فقد تختار المزيد من العمل العسكري المباشر، على سبيل المثال، يمكن أن تطلق عملية تُركز على الاستيلاء بسرعة على عاصمة المحافظة هرات، وهي معقل تقليدي لإيران، ومع ذلك، فإن أي إجراء مشابه قد يكون مكلفاً للغاية في النهاية، لأنه سيتطلب من إيران إقامة وجود عسكري كبير والاعتماد على خطوط إمداد طويلة، وعلى الأرجح، سيحاول النظام الإيراني إنشاء منطقة عازلة على الجانب الأفغاني من الحدود وبناء جسور برية إلى المناطق الشيعية، ويُفترض أن يتم ذلك باستخدام وحدات لواء “الفاطميون” المدعومة من”الحرس الثوري الإيراني.

وترتيباً على ما سبق، من المرجح أن يستمر نهج إيران في التعامل مع حركة طالبان تحت إشراف الرئيس المتشدد الجديد إبراهيم رئيسي، على المدى القريب على الأقل، فطهران ستفعل كل شيء لتبقى في أفغانستان، فقد أعلنت إيران أنها مستعدة لإيواء اللاجئين الأفغان في المحافظات الإيرانية الثلاث، خراسان الرضوية، خراسان الجنوبية وسيستان وبلوشستان، التي تقع على حدود أفغانستان، حيث أن وزارة الداخلية الإيرانية مهدت منذ شهرين لإقامة مخيمات مؤقتة لإيواء اللاجئين الأفغان في حال دخولهم إلى إيران. وعليه، يمكن التأكيد على ما يلي:

(*) ستتضمن استراتيجية إيران السياسية، استغلال الورقة الطائفية، من أبناء مجتمع الشيعة في أفغانستان، في استعادة ما تفعله إيران في أكثر من دولة إقليمية، الأمر الآخر يتعلق بمحصلة ما تطمح إليه إيران من خلال هذه الفصائل المسلحة، فهي لا تبتغي في أي حال الانتصار أو الوصول للسلطة، لكن فقط شغل مساحات من أفغانستان وتحويلها إلى مناطق نفوذ إيرانية مغلقة، حيث إن مناطق الهزارة الشيعية تقدر بحوالي” 200 ألف كيلومتر مربع”.

(*) هناك إمكانية تصور تطبيق طهران النموذج السوري أو العراقي في أفغانستان، وذلك باستخدام الميليشيات الوكيلة لإنشاء ملاذ آمن للشيعة في محافظة هرات وأماكن أخرى من أفغانستان،وبمرور الوقت، يمكن أن تنتج مثل هذه الاستراتيجية قوة عسكرية قوية تدعمها إيران بالتوازي مع قوات الأمن الأفغانية، ويشبه ذلك إلى حد كبير ما حدث مع “الحشد الشعبي” العراقي عن طريق عملية نقل لقوات لواء “الفاطميون” من سوريا إلى أفغانستان.

(*) من المؤكد أن محاولة توسيع النفوذ الإيراني في أفغانستان قد تسحب الأموال والموارد من العمليات الإقليمية الأخرى للنظام الإيراني، ومع ذلك، فمن شأنها أيضاً أن تخدم هدف طهران الاستراتيجي المتمثل في أن تصبح قوة مهيمنة إقليمية.

(*) قد تصبح طالبان الحليف الذي يتمناه الإيرانيون، وسعوا لدعمه لسنين ضد الأميركيين في أفغانستان، على الرغم من الفروقات المذهبية، وهذا ظهر جلياً من خلال دعم لإيران لحركة طالبان بعد هجمات الحادي عشر من سبتمبر 2001 ضد الولايات المتحدة والتي خططت في أفغانستان،وقدمت إيران الدعم العسكري للحركة، وفتحت حدودها للفارين من قيادات “القاعدة”‘فإيران وطالبان كانتا حليفتين لسنوات وقد يستمر هذا التعاون، حيث تعددت زيارات وفود طالبان إلى طهران بشكل مكثف منذ ديسمبر الماضي وسبق أن امتدح المرشد الأعلى علانية طالبان.

د.سهرة القاسم

خبير مشارك في شئون الأمن الإقليمي. حاصلة على الدكتوراه في تخصص أثر التنافس التركي الإيراني على الأمن الإقليمي في الشرق الأوسط من كلية الاقتصاد والعلوم السياسية بجامعة القاهرة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى