مخرجات هامة: كيف انتهت الجولة الثالثة من الحوار الاستراتيجي بين بغداد وواشنطن؟
انطلقت الجولة الثالثة من الحوار الاستراتيجي بين العراق والولايات المتحدة يوم الأربعاء 7 أبريل الجاري، عبر تقنية الفيديو كونفرنس، برئاسة وزير الخارجية العراقي الدكتور فؤاد حسين، ووزير خارجية الولايات المتحدة، أنتوني بلينكن، وبمشاركة ممثلون عن حكومة إقليم كوردستان، ويعتبر توقيت انعقاد هذا الحوار حاسماً بالنظر إلى دوافع كلا الجانبين، حيث ترى الإدارة الأمريكية الجديدة أن مصالحها في العراق والمنطقة مهددة، وبالتالي لابد من تقويض التمدد الإيراني في المنطقة والتصدي لتنظيم “داعش”، بينما على الجانب العراقي تتعرض حكومة الكاظمي للضغط الشعبي، خاصة أن تظاهرات ثورة تشرين لا تزال مستمرة ولم تحقق الحكومة العراقية أياً من المطالب الشعبية.
كما يحاول الكاظمي الحفاظ على علاقات إيجابية مع واشنطن من أجل دعم تحركاته الأخيرة للانفتاح على المحيط العربي، بالإضافة إلى تحييد العراق عن الصراع الأمريكي الإيراني، وقبيل انعقاد الحوار قام قائد فيلق القدس اللواء إسماعيل قاآني بزيارة سرية إلى بغداد لم يلتقي خلالها برئيس الوزراء بل كانت لقاءاته مع زعماء الفصائل المسلحة من أجل دفع حكومة الكاظمي للطلب رسمياً من واشنطن الانسحاب من العراق.
وتأتي هذه الجولة وفقاً لاتفاقية الإطار الاستراتيجي لعام 2008 لعلاقة الصداقة والتعاون بين الولايات المتحدة الأمريكية وجمهورية العراق، حيث جدد الجانبان التأكيد على علاقتهما الثنائية الوطيدة والتي تعود بالنفع على الشعبين الأمريكي والعراقي. وانطلاقاً مما سبق، يمكن التأكيد على أن الحوار بجولته الثالثة تطرق للعديد من الملفات تتعلق بالسياسة والأمن والاقتصاد والطاقة والتعليم والثقافة والبيئة وحقوق الإنسان. وعليه، يمكن تسليط الضوء على آلية حسم الجدل حول ملف انسحاب القوات الأمريكية من العراق، ما هي الشراكات الثنائية التي استهدف كلا الجانبين تعزيزها خلال المرحلة القادمة، وكيف تباينت ردود الأفعال في العراق حول مخرجات الحوار الاستراتيجي الأمريكي، وذلك على النحو التالي:-
الأمن ومكافحة الإرهاب:
تم التأكيد في البيان الختامي الصادر عن حكومتي الولايات المتحدة الأمريكية وجمهورية العراق، على رغبة الطرفين بمواصلة التنسيق العسكري والتعاون الثنائي، وأن وجود القوات الأمريكية في العراق جاء بناءاً على دعوة الحكومة العراقية لغرض دعم القوات الأمنية العراقية في حربها ضد تنظيم داعش، على النحو التالي:-
(*) إعادة ضبط الوجود العسكري الأمريكي: أكد الطرفان أن مهمة القوات الأمريكية التي تتمثل في الـ 2500 جندي الموجودين على الأراضي العراقية وقوات التحالف قد انتقلت الآن إلى التركيز على المهام التدريبية والاستشارية مع الإبقاء على هذه القوات في قواعد عسكرية عراقية، مما يسمح بإعادة انتشار أي قوات قتالية متبقية خارج العراق، لكن يبقى تحديد توقيت ذلك خلال المحادثات الفنية القادمة.
(*) القوات العراقية تتولى القيادة: في ظل القدرة المتزايدة لقوات الأمن العراقية، أكدت حكومة العراق من جديد التزامها بحماية أفراد التحالف الدولي وقوافله ومنشآته الدبلوماسية، فيما شدد البلدان على أن القواعد التي يتواجد فيها أفراد القوات الأمريكية والتحالف هي قواعد عراقية ووجودهم هو فقط لدعم جهود العراق في محاربة داعش، حيث يبدو أن العراق حريصة على تولي عملية القيادة والسيطرة على قواتها وعملياتها الأمنية ومجال تحركاتها في الداخل.
شراكات متعددة:
ساهم هذا الحوار في تدشين شراكة ثنائية في العديد من المجالات مثل الاقتصاد والطاقة والبيئة، والعلاقات الثقافية، على النحو التالي: –
(&) تنويع الاقتصاد العراقي: أثنت الولايات المتحدة على الخطوات الأخيرة التي قامت بها العراق، بما في ذلك الانضمام إلى اتفاقية نيويورك للاعتراف بقرارات التحكيم الأجنبية وإدخال نظام التأشيرات عند الوصول من أجل تعزيز التجارة الدولية والاستثمار الأجنبي، ومن المقرر التزام العراق بتنفيذ إصلاحات اقتصادية من أجل تنويع اقتصاده وتحسين مناخ بيئة الأعمال والمساعدة في إنشاء قطاع خاص أكثر حيوية، وفي سياق ذلك أكد الوفد الأمريكي مجددا أنه يمكن للشركات الأمريكية المساعدة في هذا التنويع من خلال الاستثمار في المشاريع التي من شأنها خلق فرص العمل وتحسين الخدمات العامة والمساعدة في تطوير موارد الطاقة في البلاد.
(&) زيادة التعاون لمكافحة جائحة كوفيد-19: وفرت الحكومة الأمريكية التمويل اللازم لتجديد مختبرات الصحة العامة العراقية وتجهيزها، وتبرّعت بمعدات اختبار كوفيد ومعدات الحماية الشخصية من كمّامات وواقيات، كما قامت بتدريب علماء الأوبئة العراقيين على تحديد حالات تفشي المرض الحالية والمستقبلية والاستجابة لها.
(&) معالجة حالة الطوارئ المناخية: أشار العراق والولايات المتحدة إلى نيتهما المشتركة نحو تعزيز الطاقة النظيفة ومكافحة تغير المناخ، من خلال العمل مع القطاع الخاص في الولايات المتحدة، ومن خلال تنفيذ المشاريع التي تعزز تنمية الطاقة النظيفة وتحسن توليد الكهرباء بواسطة الطاقة الشمسية وتوفير الطاقة، والاستفادة من الغاز العراقي المشتعل، كما ناقشت الولايات المتحدة والعراق التعاون مع الوكالات العلمية الأمريكية في إدارة وحماية بيئة العراق وموارده الطبيعية، بما في ذلك المياه.
(&) دعم العملية الديمقراطية في العراق: أعادت الولايات المتحدة التأكيد على احترام سيادة العراق وسلامة أراضيه وعلى احترام حرية التعبير التي يكفلها الدستور العراقي، وفي سياق ذلك ناقش الوفدان السبل المثلى التي يمكن للولايات المتحدة من خلالها تقديم الدعم للحكومة العراقية من أجل توفير الحماية للمتظاهرين السلميين ونشطاء المجتمع المدني ومتابعة المساءلة القضائية، كما رحب العراق بدعم الولايات المتحدة للانتخابات البرلمانية عبر تمويل بعثة الأمم المتحدة لمساعدة العراق.
(&) تعزيز مبادرات إصلاح التعليم العالي: ناقشت الحكومتان دعم الولايات المتحدة لجهود العراق في تعزيز قطاع التعليم العالي بالتعاون مع الجامعات الأمريكية من خلال برنامج فولبرايت (Fulbright)ومبادرة الشراكة للتعليم العالي للسفارة الأمريكية (Higher Education Partnership Initiative) والدعم الأمريكي الموسع لمبادرة الجامعات المحررة (Liberated Universities Initiative).
(&) حماية التراث العراقي: استعرض الوفدان التقدم المحرز في جهودهما المشتركة للحفاظ على التراث الثقافي الغني للعراق والتنوع الديني وأكدا عزمهما على التعاون لإعادة الممتلكات الثقافية العراقية التي نقلت بشكل غير قانوني إلى الولايات المتحدة إلى مكانها الصحيح في العراق، على سبيل المثال استعادت الحكومة العراقية، في أغسطس الماضي، أرشيف حزب البعث من الحجز الوقائي المؤقت في مؤسسة هوفر، وقد ساعدت وزارة الخارجية الأمريكية في ترتيب هذا النقل، وقامت وزارة الدفاع بنقل 6.5 مليون وثيقة إلى بغداد، كما تم مناقشة التقدم المحرز في منحة أمريكية لمؤسسة سميثسونيان (Smithsonian Institute)لمواصلة توسيع مشروع إنقاذ آثار نمرود، الذي يدعم أهداف العراق في الحفاظ على التراث الثقافي، وتم تطرق أيضاً إلى آليات مشاركة الإنجازات الثقافية والتاريخية للشعب العراقي مع بقية العالم من خلال المعارض عبر الإنترنت.
ردود أفعال داخلية متضاربة:
تباينت ردود الأفعال داخل العراق حول مخرجات الحوار الاستراتيجي العراق الأمريكي، على النحو التالي: –
- الموقف الرسمي: أعلن رئيس الحكومة مصطفى الكاظمي ان “نتائج الجولة الثالثة من الحوار الاستراتيجي بوابة لاستعادة الوضع الطبيعي في العراق، وبما يستحق العراق، وهو إنجاز جدير أن نهنئ به شعبنا المحب للسلام”، ومن جانبه أكد وزير الخارجية العراقي، فؤاد حسين في كلمته، على أن اجتماع اليوم يأتي تأكيداً على علاقة الشراكة بين العراق والولايات المتحدة، ومساعي الحكومتين الجادة لتعزيزها واستكمال الجهود المشتركة التي بذلت في الجولتين السابقتين من الحوار الاستراتيجي، بينما وصف مستشار الامن القومي قاسم الاعرجي، الجولة الثالثة من الحوار الاستراتيجي بـ “الناجحة”، مشيراً إلى أن المناقشات أسفرت عن “تقدم مهم” حول استعداد انسحاب القوات القتالية الأمريكية من العراق، كما أكد على التقدم الذي أحرزته القوات العراقية في مكافحة الإرهاب، وتم الاتفاق على تولي قوات الأمن العراقية مهمة محاربة داعش.
- موقف حكومة كردستان: رحب رئيس حكومة اقليم كوردستان مسرور بارزاني بنتائج الحوار الاستراتيجي بين العراق والولايات المتحدة، وأن حكومة إقليم كردستان تؤكد دعمها للمحادثات لأنها الطريق نحو مزيد من المشاركة والتعاون في الإصلاح والأمن والتجارة والاستثمار والبيئة والطاقة النظيفة.
- الائتلافات السياسة العراقية: رحب “ائتلاف النصر” برئاسة رئيس الوزراء الأسبق حيدر العبادي بمخرجات الحوار الاستراتيجي، داعيا إلى جدولة خروج القوات القتالية، ففي بيان صحفي أشار إلى الترحيب بمخرجات الحوار الاستراتيجي العراقي الأمريكي، بما يتصل بتوصيف وتنظيم وجود القوات الأمريكية، واقتصارها على المهام التدريبية والاستشارية، مطالباً بـإنجاز الاتفاق الفني لجدولة خروج القوات القتالية وفق الرؤية والحاجة التي تقدرها المؤسسات العراقية المختصة، في المقابل أصدر رئيس تحالف الفتح هادي العامري، بيانا أكد فيه على ضرورة وضع جدول زمني محدد بفترات زمنية قصيرة لانسحاب القوات القتالية الاجنبية من العراق، وعودة السيطرة العراقية على القواعد الجوية في عين الاسد وحرير.
- فصائل المقاومة العراقية: أصدرت “الهيئة التنسيقية لفصائل المقاومة العراقية”، قبيل انعقاد الجولة الثالثة من الحوار، بياناً أكدت فيه إنها ستوجه ضربات كبيرة في حال لم يتضمن الحوار الاستراتيجي بين العراق وأميركا إعلاناً واضحاً عن موعد الانسحاب النهائي للقوات الأمريكية من العراق، كما طالبت الهيئة بإعادة تأليف لجنة الحوار مع الولايات المتحدة لتكون مهمتها وضع خريطة لتنفيذ قرار الشعب ومجلس النواب بإخراج القوات الأميركية، والقوات الأجنبيّة جميعها من الأرض العراقيّة، ودعت إلى تحديد، كما لوحت بقدرتها لفتح جبهات واسعة ضد الوجود الأميركي.
خلاصة القول، تحمل الجولة الجديدة من الحوار الاستراتيجي بين العراق والولايات المتحدة الأمريكية التي عقدت مؤخراً برئاسة وزير الخارجية فؤاد حسين ووزير الخارجية أنتوني بلينكن دلالة هامة، فهي اول حوار بين الجانبين في عهد الرئيس جو بايدن، وبالتالي تقدم رؤية حول نهج الإدارة الأمريكية الجديدة إزاء ملف العراق خاصة انسحاب القوات الأمريكية من العراق، على الرغم من تأكيد بايدن التزامه بإنهاء حروب أمريكا الأبدية في المنطقة وتركيزه على التحديات الداخلية وبناء التحالفات في أوروبا والمحيط الهادئ والهندي، إلا انه لم يحسم موعد خروج القوات الأمريكية من العراق ومن غير المتوقع أن تسعى واشنطن خلال المستقبل القريب إلى انسحاب شامل من العراق، الذي يعد قاعدة مهمة لها في مواجهة نفوذ ايران اهم حليف للعراق بما يخدم مصالحها الخاصة في المنطقة بالإضافة إلى التصدي لتنظيم داعش، بل قد تستخدم واشنطن الجولة الثالثة من الحوار لإعادة ضبط وجود قواتها من أجل دعم التوسع المخطط لمهمة تدريب الناتو في العراق، فقد أعلن الأمين العام لحلف الناتو “ينس ستولتنبرج” الشهر الماضي ، أن الحلف سيوسع نطاق وجوده بشكل كبير إلى 4000 مستشار وموظف تدريب بعد تقلص وجود التحالف بعد الهزيمة الإقليمية لتنظيم الدولة الإسلامية في عام 2019، كذلك ما تضمنه البيان الختامي والترحيب من الجانبين العراقي والأمريكي يعكس تطوراً في ملف الوجود العسكري الأمريكي في العراق، لاسيما ما يتعلق بطبيعة المهام ونمط الانتشار، كما يعكس أيضاً التركيز على تنويع الشراكات بين بغداد و واشنطن لتتعدى القضايا الأمنية ومكافحة الإرهاب وتشمل مجالات أخرى منها الاقتصاد والطاقة والبيئة والتعليم و الثقافة.