لواء دكتور أحمد زغلول يكتب: محطّات في حياتي.. المحطّة الثالثة عشرة

حين يكون للمعلّم بصمةٌ لا تُمحى
هناك محطّات تتخطّى كونها ذكريات عابرة لتصبح علامات فارقة في العمر تضيف إليه معنى جديداً وتمنحه قدرة على تأمّل ما كان وما سيكون. وفي فترة المرحلة الثانوية حيث تتكوّن الملامح الأولى للنضج وتتشكل بدايات الوعي، ظهر في حياتي رجل لم يكن مجرد مُدرّس لغة عربية بل كان مدرسة قائمة بذاتها، نموذجاً للهيئة والصوت والفكر والقدرة على تشكيل العقول. كان ذلك الرجل هو الأستاذ عبدالمنعم عكاشة (معلّم اللغة العربية بمدرسة العائلة المقدسة للبنين بحلوان)، رجلٌ يختصر في حضوره معنى الوقار، وفي أسلوبه معنى الرسالة، وفي تعليمه معنى القدوة.
هذه المقالة ليست مجرد تسجيل لحادثة أو استحضار لذكرى، بل هي شهادة حقّ على نموذج للمعلم الذي يستحق أن يُكتب عنه وأن يُحتفى به، وكلمات مخلصة لأجيال تحتاج إعادة اكتشاف قيمة المعلّم، وقيمة الكلمة، وقيمة التاريخ عندما يُروى دون هوى.
أولاً- هيئة المعلّم.. حين تقودك الهيبة قبل الحرف:
كان الأستاذ عبدالمنعم عكاشة يجسّد صورة المعلّم كما ينبغي أن تكون وكما عرفتها مصر في عصورها الزاهرة.
كان أنيقاً إلى حدّ أن الأناقة بدت جزءاً من رسالته، يرتدي بدلاً فاخرة لا يخطئها النظر، يصحبها حذاء من ماركة ساكسون الإنجليزية، نسمع صوته من على مسافة طرقات المدرسة في دلالة على ذوق رفيع وانضباط شخصي قلّما يجتمعان في رجل تجاوز السبعين من العمر.
لم تكن أناقته للزينة أو التفاخر، بل كانت رسالة أن المعلّم صاحب مقام، وأن التعليم مكانة لها هيبتها واحترامها. كنّا كطلاب نشعر قبل دخول الحصة أنّ رجلاً من طراز خاص على وشك أن يهبط إلى ساحتنا يحمل معه حكمة السنين وخبرة العمر وعشق اللغة.
ولم تكن هيئته وحدها ما يستوقفنا؛ فقد كان صوته مميزاً، منضبطاً، واثقاً، يخرج الحرف من مخارجه وكأنه يرسم صورة، لا ينطق لفظاً قد يقلل من هيبته. كان يمشي بوقار ويشرح بحب، وينظر إلينا باعتبارنا مشروع جيلٍ يجب أن يُصنع على الوعي لا على التلقين.
ثانياً- المعلّم الذي سبق زمانه.. مثقف خُلق لكي يبني الإنسان:
كان الأستاذ عبدالمنعم عكاشة مبتكراً، وهذه كلمة ربما لم تكن متداولة في سياق التعليم حينها، لكنه كان كذلك فعلاً. أدخل إلى تعليم اللغة العربية بُعداً إنسانياً ممتداً إلى ثقافات أخرى؛ فكان يترجم النصوص الأدبية والشعرية إلى اللغة الإنجليزية ليجعلنا ننظر إلى النص من زاوية جديدة، ونكتسب المهارة، ونفهم الجمال، ونكتشف العلاقات الخفية بين اللغات.
لم يكن يخاف من الصعب، بل يحوّله إلى سهل، وكان يؤمن أن الطالب ليس إناء يُملأ بل عقل يُضاء. عرّفنا على الأدباء والروّاد والشعراء ليس من الكتب فقط، بل من التجربة والتحليل والفهم، فتح أمامنا أبواباً إلى الأدب العربي والأدب العالمي، وجعل كل نص مدخلاً إلى عالم من المعنى والتفكير.
وبالرغم من تجاوزه السبعين، كان يمتلك روح شاب في العشرين، يمتلك خفّة الظل والمرح والرزانة، ودقة في التعبير، وقدرة على تبسيط الفكرة حتى تصبح جزءاً من الشخصية.
ثالثاً- لحظة لا تُنسى.. درسٌ في التاريخ وفي قيمة الكلمة:
بين الدروس التي حفرت آثارها في ذاكرتي يبقى ذلك اليوم الذي قرر فيه الأستاذ عكاشة أن يقدم لنا درساً يتجاوز حدود الأدب ليصل إلى صميم الوعي والتاريخ. كان الدرس يتناول نصاً أدبياً، لكنه استوقفنا عند اسم كبير في الثقافة المصرية الأديب محمد حسين باشا هيكل، ثم قدّم مقارنة سريعة بينه وبين الكاتب الصحفي المعروف محمد حسنين هيكل.
كانت مقارنة دقيقة عميقة، هدفها لن نكتشفه إلا فيما بعد: توضيح كيف يلتبس الاسم على الناس، فيختلط عليهم الفهم، وكيف قد يُنسب قولٌ لغير صاحبه مما يغيّر مسار الوعي العام. ثم سرد لنا واقعة ظلّت محفورة في ذاكرتي: ذكر أنّ الصحفي محمد حسنين هيكل تحدث في أحد لقاءاته عن ثروة الملك فاروق الأول، مدّعياً أنه امتلك ٣٦ مليون جنيه إسترليني أرسلها إلى بنوك سويسرا.
ثم أوضح أستاذنا كيف أثبتت الحقائق التاريخية لاحقاً عدم دقة هذه الرواية، وأن ظروف معيشة الملك فاروق وأسرته في أوروبا، وخاصة في إيطاليا، لم تكن تعكس ثروة ضخمة كما تم تصويرها، وذكر لنا نقلاً عن روايات أبناء وبنات الأسرة الملكية أنّ بعضهم عملوا في وظائف بسيطة لضمان معيشتهم: اللى عملت مدرسة ومترجمة ومضيفة في فندق. وأضاف معلومة مهمة عن الدور الكبير للمملكة العربية السعودية في الوقوف إلى جانب الملك فاروق خلال منفاه، وهو الدور الذي ثبت بمصادر موثوقة وشهادات مباشرة.
رابعاً- الدرس العميق.. حين فهمت معنى المسؤولية الأخلاقية للكلمة:
في تلك اللحظة شعرتُ أنني لا أتعلم تاريخاً بل أتعلم مبادئ. أدركتُ أن الكلمة ليست مجرد جملة بل مسؤولية، وأن نقل المعلومة دون تدقيق قد يبني وعياً زائفاً ويقود المجتمع إلى أحكام غير سليمة وربما إلى ظلم تاريخي. هكذا فهمتُ من خلال هذا الرجل أن التاريخ يجب أن يُروى عن واقع لا عن هوى، وأن الكاتب أو المعلّم أو المؤرخ يوقّع أمام ضميره كل مرة يكتب فيها حرفاً، وأن المسؤولية الأخلاقية للكلمة قد تكون أثقل من السلاح وأعمق أثراً من القرارات السياسية.
خامساً- المقارنة التي كانت درساً في الوعي قبل أن تكون درساً في الأدب:
لم تكن المشكلة في التشابه بين الأسماء، بل في التشابه بين الأدوار.
كان الأستاذ عكاشة يريد أن يقول لنا إن الخلط بين الأشخاص يؤدي إلى خلط في المواقف، وإن الخلط بين الرواية والحقيقة يؤدي إلى خلط في التاريخ. وبهذه المقارنة فتح لنا نافذة نرى منها كيف تتكون الروايات العامة، وكيف تتسلل الأخطاء إلى الوعي الجمعي، وكيف قد تصبح المعلومة الخاطئة “حقيقة” لمجرد أنها تكررت. لقد علّمني أن أبحث قبل أن أصدق، وأن أقرأ قبل أن أحكم، وأن أميّز بين الكاتب والباحث، بين الرأي والحقيقة، بين التحليل والوثيقة.
سادساً- المعلّم.. بين الأمس واليوم:
علّمني الأستاذ عكاشة كيف يكون المعلّم “قدوة”، وكيف يكون صاحب حضور ورسالة وخلق، وصرامة في الحق، ومرونة في الأسلوب. واليوم حين أرى ما وصل إليه حال التعليم في كثير من المواقع، وكيف أصبح المعلم مثقلاً بأعباء لا تنتمي إلى رسالته، وكيف فقدت الهيبة المدرسية شيئاً من بريقها، أزداد يقيناً بأن جيلي كان محظوظاً. لسنا هنا لنقسو على معلم اليوم، بل لنذكّر بأن المعلم هو حجر الأساس في بناء الوعي الوطني، وأنه الحصن الأول ضد الشائعات وضد تزييف التاريخ وضد كل ما يبعد المجتمع عن الحقيقة، وأن الارتقاء بالمعلم والاعتناء بمكانته ليس رفاهية، بل ضرورة أمن قومي وثقافي وفكري.
سابعاً- الشائعات.. حين تهدم الإدراك وتشوّه التاريخ:
الشائعة تبقى أخطر من السلاح؛ فالسلاح يقتل جسداً، أمّا الشائعة فتهدم وعياً. ولذلك كان درس الأستاذ عكاشة مثالاً على ضرورة تحرّي الدقة. إن مصر بتاريخها الممتد عبر آلاف السنين تستحق أن يكتب تاريخها المحفور على جدرانها؛ فالتاريخ ملك الشعب، لا ملك من يكتبه.
ثامناً- كلمة شكر.. ودلالة وطنية مهمة:
حين أعلن الرئيس عبدالفتاح السيسي منح الملك فؤاد الثاني، آخر ملوك مصر، جواز سفر مصري دبلوماسي، كان القرار يحمل رسالة وطنية عميقة تعني أن مصر دولة تعرف قدر رموزها وتاريخها، وتميز بين العهد السياسي وبين القيمة التاريخية للأشخاص،
وأن الإنصاف قيمة من قيم الدولة المصرية الممتدة في جذور الزمن.
كان هذا القرار بالنسبة لي امتداداً لدرس الأستاذ عكاشة
(التاريخ يُكتب بالحقائق لا بالأهواء).
في النهاية، محطّتي يجب أن نسلط الضوء على المعلم الذي أضاء الطريق. لم يكن الأستاذ عبدالمنعم عكاشة مجرد رجلٍ مرّ في حياتي، بل كان محطة فارقة شكّلت وعيي وجعلتني أفهم قيمة الكلمة والعلم والوعي.
علّمني أن أبحث، وأن أدقق، وأن أراجع. علّمني أن أرفض الشائعة وأن أقدّس الحقيقة، وعلّمني أن التاريخ ليس مجرد قصص، بل مسؤولية.
إن هذه المحطة الرابعة عشرة في حياتي ليست ذكرى فحسب، بل هي وصية ممتدة:
أن نحفظ مكانة المعلم، وأن نطلب المعرفة من مصادرها الموثوقة، وأن نعطي التاريخ حقه، وأن نحافظ على مصر كما أرادها عظماؤها دولة تحترم نفسها وتاريخها ورجالها.
رحم الله رجالاً كانوا مدارس، ومنهم أبي رحمه الله عليه، ودامت مصر بلداً يعرف قدر ماضيه ويصنع مستقبله بوعيٍ صادق.