صفحات في حياتي.. الصفحة الرابعة عشرة

منّة الله.. الهدية التي غمرت العمر بالضوء
نبضٌ على شاشةٍ بيضاء:
ما زلت أذكر تلك اللحظة التي اهتزّ فيها قلبي قبل أن يهتزّ جسدي، حين ظهر على شاشة السونار ذاك القلب الصغير ينبض كأنه رسالة سماوية تخبرني بأن الله قد كتب لي رزقاً لا يُقدَّر بثمن. من تلك اللحظة قررت أن يكون اسمها مميزاً، يحمل معنى العطاء الإلهي والرحمة الربّانية: منّة الله.
استندتُ في الاسم إلى قوله تعالى في سورة آل عمران (164): لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ إِذْ بَعَثَ فِيكُمْ رَسُولًا مِّنْ أَنْفُسِكُمْ… فالـ“مَنّة” ليست مجرد عطية، بل فضلٌ وإحسانٌ يضعه الله حيث يشاء.
وهكذا كانت منّة الله نوراً دخل حياتنا، ونعمةً حملت معها فرحاً لا يُوصف.
الأب الثاني •• ذاكرة محفورة في الروح:
كان للمرحوم بإذن الله اللواء أ.ح/ محمد فريد تَهامي – رحمه الله رحمة واسعة – مدير المخابرات الحربية، ورئيس هيئة الرقابة الإدارية، ورئيس جهاز المخابرات العامة السابق، أثرٌ بالغ في حياتي ومسيرتي العملية. في مؤتمر ضباط المخابرات الحربية وزوجاتهم أعلن أمام الجميع أنه يعتبرني “ابنه البِكري”، وكانت كلماته تلك وقوداً دفعني للعمل بإخلاص لأكون على قدر ثقته. كان دعمه حاضراً في أشد لحظات ضعفي حين مرّت بي ظروف بدت كأنها أزمة صحية خطيرة بسبب نتائج تحاليل خاطئة. وقف بجانبي كأب وقائد وسند، إلى أن ظهرت النتائج الصحيحة التي كانت لا شيء.
•• هنا ظهر معدن القائد الأصيل الذي لا يُنسى (سأروي القصة كاملة في محطة قادمة من محطات حياتي).
وأذكر أنه سألني يوماً: “ما معنى منّة الله في اللغة العربية؟”
قلت: إنها “هدية من الله”.
فابتسم وصحّح قائلاً: “هي عطية من الله وفضلٌ وإحسانٌ يضعه الله حيث يشاء”. ومنذ ذلك اليوم أدركتُ أن قدومها لم يكن مجرد ميلاد، بل كان فضلاً شاملاً يرافق حياتنا كلها.
الفرحة الأولى.. طفلة البيت وحبيبته:
كبرت منّة الله أمام أعيننا، وكانت أول فرحة للأسرة قبل قدوم شقيقتيها مريم وروان. كانت قائدة صغيرة بحنان كبير، تستيقظ مبكراً، ترتّب غرفتها، وتساعد شقيقاتها، وترسم ضحكة الصباح على وجوه الجميع. كانت مزيجاً رائعاً من المسؤولية والمرح، ومن الرقة والاتزان.
جدّتها.. صديقة قلبها وروحها اللطيفة:
كانت علاقة منّة الله بجدتها أم والدها علاقة من نوعٍ خاص؛ علاقة دفءٍ ومرحٍ لا تُنسى. كانت تقلدها في مشيتها وكلامها وتصرفاتها بشكل كوميدي مهذّب يملأ البيت ضحكاً وحباً.
كانت تجلس معها بالساعات، تسأل عن صحتها وأحوالها بعقل يفوق سنها الطفولي، وتتعامل معها بروح ابنة محبة وصديقة مقربة في الوقت نفسه.
كانت محوراً جذاباً في العائلة؛ حضورها خفيف، وشخصيتها آسرة، وروحها تبث الفرح أينما وجدت.
رحم الله والدتي ووالدة زوجتي وجدّيها، جميعهم تركوا فيها أثراً لا يمحوه الزمن.
محطات الحب.. عند جدّيها من جهة الأم:
ولأن سفري لظروف عملي كان كثيراً ما يبعدني عن المنزل، كانت منّة الله تمكث مع والدتها وشقيقتيها عند جدّيها – رحمهم الله جميعاً – حيث نشأت بين أحضان محبة خالصة.
كان جدّها لأمها مرتبطاً بها بشكل خاص؛ كان يراجع دروسها معها، وخصوصاً اللغة العربية التي كانت تحتاج دعماً لأنها كانت تدرس بمدرسة لغات. وعلى يديه تحولت العربية من نقطة ضعف إلى نقطة تفوق، ومن رهبة إلى محبة.
كان يفتح لها أبواب اللغة بصدق، فغرست الأيام في ذاكرتها حروفاً من حنانه قبل أن تكون من الدروس.
مدرسة العائلة المقدّسة.. حب لا ينقطع:
رغم التحاقها بكلية طب الأسنان، ظلّ قلب منّة الله متعلقاً بمدرستها (مدرسة العائلة المقدسة للبنات بحلوان).
وعندما تعرّضت المدرسة لعاصفة ترابية كبيرة – “سبق أن تعرضت لها البلاد” – لم تكن موجودة هناك، لكنها تابعت الموقف عبر صفحة المدرسة وشقيقاتها اللاتي ما زلن بها.
تأثرت كثيراً بمشهد مديرة المدرسة سير/ سونيا وهي تنظف بنفسها مع العاملات مرافق ومباني المدرسة؛ لتغرس درساً عظيماً في التواضع والعمل الجماعي.
كان ذلك الموقف يوافق ما تربّت عليه منّة الله: أن المدرسة ليست مكاناً للتعلم فقط، بل فضاء للتربية والمسؤولية وتنمية الإنسان.
مواقف صغيرة.. دروس لا تُنسى:
كانت منّة الله وما زالت نبعاً من اللطف والحنان اليومي فيما تقدمه:
• تساعد شقيقاتها في الدراسة وترتيب الحياة.
• تقدّم العون للمحتاجين مع شقيقاتها دون انتظار جزاء.
• تقف بجانب أصدقائها وتبادر قبل أن تُطلب منها المساعدة.
• تشارك في خدمة مجتمعها بروح خالصة.
كل تصرف صغير منها كان درساً في الرحمة والوفاء.
في مرضي.. كانت ملاذ القلب:
حين أصبت بفيروس كورونا، تحولت منّة الله إلى ملاك رقيق يرعاني، رغم أنها كانت مريضة بالفيروس نفسه.
كانت لا تفارقني إلا قليلاً، تراقب حالتي، تقدّم دوائي، تعقّم غرفتي، وتُشعرني أنني لست وحدي.
كان حضورها شفاءً قبل أن تكون الأدوية علاجاً.
ولم يقتصر عطفها على الأسرة، بل امتد إلى أصدقائها وزميلاتها؛ فقد غرست فيها المدرسة روح الخدمة والعطاء، فكانت مثالاً حيّاً للمسؤولية.
إليكِ يا منّة الله.. ابنتي وابنة قلبي:
إلى منّة الله…
إلى الابنة الكبرى، والنعمة الكبرى، والهدية التي لا تنتهي…
إلى الحنونة على شقيقاتها، المخلصة لأصدقائها، النموذج الهادئ للعطاء والخير…
إلى الوجه الذي أضاء حياتنا، والروح التي جعلت الأسرة أكثر دفئاً، والمدرسة أكثر جمالاً، والمجتمع أكثر رحمة…
ستبقين دائماً ابنة عمري.. ومنّة الله على قلبي.. ونموذج الحب والرحمة لكل من يعرفك.
ولابنتَيَّ الحبيبتين مريم وروان مكانة لا تقلّ بهاءً في القلب؛ فأنتما الامتداد الجميل لروح الأسرة، والوجه الآخر للحب الذي يكتمل بوجودكما.
كنتما دائماً السند لأختكما منّة الله، والرفيقين اللذين يحيطانها ويحوطانني بالمحبة والبهجة.
لقد تعلمتُ منكنّ جميعاً أن العائلة ليست مجرد رابطة دم، بل عطاءٌ مشترك، وقلوب تتناغم في الفرح والتعب، وفي الدعم والابتسامة، وفي مشاركة الأيام على اختلافها.
أفخر بكنّ كما أفخر بأختكما الكبرى،
وأدعوه سبحانه أن يحفظكنّ جميعاً، ويجعل منكنّ دائماً مصابيح نور ورفق ورحمة في هذا العالم.