انتخابات بلا قوائم.. حين يعود الصوت إلى صاحبه

قراءة موسعة في الشفافية والتمثيل الشعبي بين الواقع القانوني ومتطلبات الأمن السياسي

حين يصبح الصوت مسؤولية وطنية

لا تُعدّ الانتخابات مجرّد ممارسة دورية، بل هي لحظة تعكس علاقة المواطن بالدولة، وتُبرز مستوى الثقة بين المجتمع ومؤسساته، وتُجسّد قدرة النظام السياسي على منح الشعب مساحة حقيقية للتأثير. ومع تجدد النقاش حول طبيعة النظام الانتخابي في مصر، يبرز طرح مهم يتعلّق بإجراء الانتخابات البرلمانية وانتخابات مجلس الشيوخ بدون قوائم مطلقة أو نسبية، والاعتماد بدلاً من ذلك على الترشح الفردي المباشر. هذا الطرح لا يرتبط فقط ببنية انتخابية، بل يرتبط كذلك بتطلعات نحو مزيد من الشفافية. وقد عكست مؤسسات الدولة، وعلى رأسها رئاسة الجمهورية، رغبة معلنة في تحسين قواعد النزاهة والشفافية والرقابة، وضمان انتخابات تعكس الإرادة الفعلية للمجتمع، الأمر الذي يؤسس لمرحلة أكثر استقراراً وثقة بين المواطنين والدولة.

الفردي.. حين يختار المواطن شخصاً يعرفه لا قائمة لا يراها

تعتمد فكرة الانتخابات بلا قوائم على مبدأ واضح: أن يكون الناخب قادراً على اختيار ممثل واحد يعرف تاريخه ويثق في حضوره داخل المجتمع المحلي، ويحاسبه مباشرة عند تقصيره.

القوائم، سواء نسبية أو مطلقة، قد تُفضي إلى صعود شخصيات لا تمتلك حضوراً فعلياً في الدائرة، وإنما تظهر نتيجة ترتيبات حزبية أو توافقات سياسية داخل القائمة. أما في النظام الفردي، فإن عامل الوجود الحقيقي والسمعة المباشرة يصبح هو المُحدد.

من منظور سياسي يعزّز ذلك فكرة “المسؤولية الفردية للممثلين”، ويعطي البرلمان طابعاً أكثر محلية وارتباطاً بالمجتمع.

ومن المنظور الأمني يقلّل النظام الفردي من الاستقطاب الحزبي الحاد داخل الدوائر، ويحدّ من الصدامات بين القوائم، ويجعل المنافسة أكثر وضوحاً وهدوءاً.

ومن المنظور القانوني يسهل الرقابة على النتائج وتقليل الطعون القائمة على حسابات نسبية معقدة.

تمثيل شعبي لا يتأثر بترتيبات سياسية

أبرز ما يدفع نحو الدعوة لهذا النظام هو الرغبة في أن يكون البرلمان مرآة حقيقية للناس، فالمرشح الفردي غالباً ما يكون:

• صانعاً لوجود اجتماعي قبل ترشحه

• معروف السيرة والإنجاز

• قائماً بدور فعلي داخل دائرته

• صاحب ولاء حقيقي للمجتمع الذي ينتمي إليه

وفي إطار مراجعة سياسية، فإن هذا النوع من التمثيل يُقلّل من فجوة الثقة بين المواطن ومؤسسات الدولة، ويساعد على جعل الخطاب السياسي أكثر واقعية، حيث يعتمد على احتياجات الناس وليس على التوازنات الحزبية.

أما من ناحية أمنية، فوجود ممثلين لهم قبول شعبي فعلي يحدّ من الاحتقان داخل الدوائر، ويساعد الأجهزة المختصة على إدارة العملية الانتخابية بسلاسة أكبر.

قانونياً، يُعد هذا النوع من التمثيل أكثر توافقاً مع المبادئ الدولية للانتخابات العادلة التي تؤكد حق الناخب في معرفة المرشح بشكل مباشر وواضح.

الشفافية حين تكون نهج دولة

شهدت السنوات الأخيرة تصريحات رسمية تؤكد حرص الدولة على ضمان نزاهة العملية الانتخابية. ومع تأكيد الرئيس عبد الفتاح السيسي في مناسبات متعددة على دعم الشفافية والمشاركة السياسية، يبرز هذا الطرح كأحد المسارات التي قد تزيد من وضوح العملية الانتخابية. هذه الإشارات الرسمية تحمل مدلولاً سياسياً مهماً:

أن الدولة تدرك أهمية تعزيز الثقة بين المواطن وصندوق الانتخابات، وهو توجه يتسق مع استراتيجية الاستقرار السياسي؛ فالشفافية تقلل الشائعات والاحتقان، وتُظهر أن مؤسسات الدولة لا تخشى المنافسة بل ترحب بإرادة المواطنين.

من الجانب القانوني، فإن تعزيز الشفافية يتطلب:

• وضوحاً في قواعد الترشح

• إجراءات رقابية فعّالة

• مراقبة قضائية مستقلة

• نشر نتائج تفصيلية

• آليات طعن حقيقية وواضحة

وكلها شروط تتوافق مع النظام الفردي أكثر من نظام القوائم المركّب.

قراءة أمنية.. لماذا الفردي أكثر استقراراً؟

في أي دولة تتداخل السياسة مع الأمن، والانتخابات التي تتسم بالهدوء وقلة النزاعات هي انتخابات يسهل إدارتها وتحقيق أهدافها دون ضغوط.

النظام الفردي يحقق:

١- وضوح المنافسة: مرشح مقابل مرشح، مما يقلل الصراع بين المجموعات الحزبية.

٢- تقليل الإنفاق السياسي الكبير المرتبط بالقوائم: وهو أمر يفتح الباب أمام مرشحين مستقلين غير مرتبطين بمصالح مالية واسعة.

٣- تخفيف التوتر بين القوى المحلية: إذ يصبح التنافس شخصياً لا صراعاً بين جبهات متعددة.

٤- تقليل الاحتقان بين أنصار القوائم المتصارعة.

هذه العوامل تمنح الأجهزة المشرفة على العملية الانتخابية قدرة أفضل على إدارة المشهد والحفاظ على الانضباط داخل الدوائر.

مراجعة قانونية.. أين يقف الدستور من هذا الطرح؟

من الناحية الدستورية، النظام الانتخابي في مصر ليس ثابتاً، ويجوز تعديله عبر:

• تعديل تشريعي يصدر عن البرلمان

• مراجعة من المحكمة الدستورية لضمان عدم التمييز وعدم الإخلال بمبدأ المساواة

• تنظيم إداري واضح من الهيئة الوطنية للانتخابات

النظام الفردي يمتاز قانونياً بأنه:

• يسهّل صياغة الدوائر بصورة عادلة

• يجعل الرقابة القضائية أكثر فاعلية

• يبسط عمليات الطعن والفرز

• يقلّل من التفسيرات القانونية المتشابكة الخاصة بنسب القوائم

ومع إعلان الدولة رغبتها في احترام معايير الشفافية، فإن النظام الفردي قد يكون خطوة منسجمة مع هذا التوجه، ما دام مرتبطاً بضمانات واضحة.

من يمثّل الشعب؟ مقعد لا يليق إلا بمن له حضور على الأرض

إن الأرضية الشعبية ليست شعاراً، بل هي أساس الممارسة الديمقراطية.

ولا يمكن أن يمثل الشعب من لا يعرف الناس ولا يعرفونه، ولا يمكن أن يحمل هموم المواطنين من لم يتفاعل معهم من قبل. ولهذا الجوهر السياسي:

• يقدم النظام الفردي ممثلين أكثر قرباً للناس

• يزيد من مساءلة النواب داخل دوائرهم

• يحفّز المنافسة على الأداء والخدمة وليس الشعارات

ومن الناحية الأمنية والاجتماعية، يُقلل هذا من فجوة النائب الغائب، ويعالج أزمات عدم الثقة التي تتولد حين يشعر المواطن أن ممثله صعد بترتيب قائمة لا بعلاقته مع الناس.

الفردي لا يُقصي الأحزاب.. بل يدفعها إلى العمل الحقيقي على الأرض

على الرغم من الاعتقاد السائد بأن النظام الفردي قد يُضعف دور الأحزاب السياسية، فإن التجارب المقارنة تؤكد العكس تماماً. فالانتخابات الفردية لا تلغي وجود الأحزاب ولا تُهمّش دورها، بل تُحفّزها على العمل الميداني العميق داخل الدوائر، وتعزز قدرتها على التواصل الحقيقي مع المواطنين بعيداً عن الاعتماد على قوة القوائم وحدها.

في هذا النظام يصبح الحزب مطالباً بأن يدفع بمرشحين يمتلكون حضوراً اجتماعياً وسيرة نزيهة ورصيداً فعلياً بين الناس، مما يرفع من مستوى جودة المرشحين، ويجعل الأحزاب أكثر قرباً من قواعدها. كما يدفع النظام الفردي الأحزاب إلى بناء برامج حقيقية وتدريب كوادرها على الخدمة العامة، بدلاً من الاكتفاء بالوجود الإعلامي أو السياسي داخل تحالفات مغلقة.

وبذلك فإن النظام الفردي لا ينتقص من قيمة العمل الحزبي، بل يمنحه مساراً أكثر واقعية ونضجاً، ويعيد ربط الحزب بالمجتمع، ويقوي دوره الوطني في المشاركة السياسية دون أن يتمركز حول تحالفات انتخابية قد تُضعف جودة التمثيل.

في النهاية، إن الانتخابات بلا قوائم نزاهة تُبنى لا تُعلن وإن الدعوة لإجراء الانتخابات البرلمانية والشيوخ بلا قوائم ليست مجرد تعديل تقني، بل هي رؤية لإعادة ترتيب العلاقة بين المواطن وصندوق الانتخابات، وتقديم نموذج يقوم على:

• الوضوح

• الشفافية

• المسؤولية

• التمثيل الحقيقي

ومع ما تؤكده الدولة المصرية ورئيسها من رغبة في إرساء قواعد النزاهة، فإن تطوير النظام الانتخابي يصبح جزءاً من حراك واسع نحو تعزيز الثقة والاستقرار وإشراك المواطنين في صنع القرار. فالانتخابات ليست مجرد مقاعد؛ إنها صورة وطن، وصورة الوطن تُصنع حين تُمنح الكلمة لصاحبها الحقيقي: الشعب.

لواء أحمد زغلول

اللواء دكتور أحمد زغلول مهران: المشرف العام على مركز رع للدراسات الاستراتيجية، سيادته كان مساعدًا لمدير المخابرات الحربية، حاصل على درجة الدكتوراه في العلوم الإدارية، كما أنه خبير متخصص في الشؤون العسكرية والأمنية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى