البعد السياسي المفقود في التمارين العسكرية
عرض مقال

نادرًا ما يتم الكشف عن النوايا أو النتائج في التمارين العسكرية على نحو واضح وصريح، خاصة وأن السياسة الرسمية والحوكمة لا تتماشى مع التعقيدات الموجودة في السياقات الوطنية والدولية الراهنة. فالإضافة إلى التدريب الجماعي الذي تسعى إليه التدريبات العسكرية، نجد أنها تسعى إلى تحقيق مجموعة متنوعة من الأهداف، مثل تعزيز تماسك التحالف، ودبلوماسية الدفاع. وفي المقال التالي يحاول كل من “بياتريس هيوسر” و”هارولد سيمبسون”، توضيح أن الآثار والنتائج المتنوعة للتمارين والتدريبات العسكرية التي تستحق مزيدًا من الدراسة والتحليل.
ملخص تنفيذي:
يهدف الموضوع بشكل رئيس إلى الفحص والتدقيق في الهدف من وراء إجراء التدريبات والتمارين العسكرية بين الدول، خاصة وأنه للوهلة الأولى قد تعد تلك التدريبات غير ذي جدوى، ليس فقط على الصعيد الاقتصادي، بل أيضًا على الصعيدين الدفاعي والعسكري.
كما يهدف إلى تسليط الضوء على الأبعاد السياسية والدبلوماسية للتدريبات العسكرية وهو ما يرى معدي التقرير بأنه أمر ليس واضحًا بما فيه الكفاية خاصة عن استعانته بأمثلة من الواقع الامريكي والواقع البريطاني.
التوصل إلى أن عملية التقييم لأي تريب أو تمرين عسكري تعد على درجة عالية من الأهمية.
الاستنتاجات:
إن البعد الاقتصادي البحت من خلال التكاليف الاقتصادية والفرص البديلة، لتقييم التدريبات والتمارين العسكرية، يعد أمرًا غير كافٍ للحكم على فاعليتها أو اتخاذ قرار بشأنها رغم أهمية هذا الأمر في تحديد وقت وحجم ومكان هذه التدريبات، إلا أن هذا يجب أن يكون بجانب الأبعاد السياسية والأمنية والدفاعية الأخرى.
إن إخضاع التدريبات العسكرية للحوكمة (على الأقل ضمن المنظومة الأمنية)، يعد أمرًا هامًا لرفع كفاءة وأداء تلك التدريبات ومعرفة العائد منها على كافة الأصعدة.
إن التدريبات العسكرية تحافظ على التوازن الإقليمي والدولي من خلال زيادة التعاون بين الدول (الصديقة)، والحفاظ على التوازن مع الدول (الأعداء والخصوم) من خلال الردع، وأن الردع يختلف من دولة لأخرى.
إن الأبعاد السياسية للتدريبات العسكرية تعد هامة لمعرفة تداعياتها على الدول الأخرى والتوجهات الاستراتيجية والأمن الوطني وتوجهات السياسة الخارجية وإعادة تشكيل التحالفات السياسية.
إن درجة الاستفادة من التمارين والتدريبات العسكرية المشتركة ليست واحدة وليست متساوية للدول المشاركة فيها، ولذلك فإن إخضاعها للحوكمة ودراسات التكلفة والعائد، ودراسات الفرص البديلة تعد عملية هامة وأيضًا في إطار يحفظ سريتها اللازمة.
إن تحليل “سوات” على نحو علمي ومهني لكل تدريب عسكري (على نحو سابق وآخر لاحقًا)، يعد هامًا على أن يشمل كافة الجوانب السياسية والاقتصادية والاجتماعية وداخليًا وخارجيًا.
العمل على توضيح أهمية التدريبات العسكرية في إطار العقيدة أو السياسة العسكرية للدولة ودورها في تعزيز العمل البيني مع الشركاء ودورها في الحفاظ على الأمن الوطني بمفهومه الشامل.
تكوين لجان مشتركة من الجهات المعنية للوقوف على الابعاد السياسية والدبلوماسية للتدريبات العسكرية في ضوء مايلي:
- التكلفة والعائد على كافة الأصعدة.
- تحديد دور التدريبات العسكرية في توطيد العلاقات.
- دورها وأثرها على التوازن الإقليمي.
- دورها كسلاح ردع.
- دورها في الترويج للسلاح والصفقات الدفاعية.
- دورها في تعزيز دبلوماسية التحالفات.
- دورها في تعزيز الدبلوماسية الدفاعية لحل النزاعات وتعزيز العلاقات مع الدول.
- الهيمنة والتبعية العسكرية.
التفاصيل
تقدم مجلة، سولدجر (الجندي)، التي يصدرها الجيش البريطاني ملخّصًا شهريا حول الأنشطة العسكرية التي يقوم بها الجيش، بما في ذلك، التمارين العسكرية ــ خاصة تمارين التدريب الميدانية في الداخل والخارج. وقد تضمن ملخّص شهر مايو عام 2016 أربعة تمارين، تمرين “عاصفة الجبل” (عُمان)، وتمرين “عاصفة الشمال” (الأردن)، والتمارين والتدريبات التي تم التعهد بها كجزء من عملية “نيوكومب” (مالي)، وتمرين “غريفين سترايك” (في سهل سالزبوري، المملكة المتحدة). بالنسبة إلى المواقع الثلاثة الأولى فإنها جميعًا تقع في دول تربطها بالمملكة المتحدة القليل-هذا إن كان هناك ما يربطها-من التحالفات العسكرية الرسمية، التي تنطوي على التزامات بالدفاع المشترك. وبالتالي، فقد يفكر الشعب البريطاني مليًا في سبب قيام حكومته بإرسال جنود بريطانيين إلى مواقع بعيدة، من أجل إجراء تمارين تدريبية، بتكلفة باهظة على دافعي الضرائب، في وقت تتوافر فيه مرافق تدريبية كافية تمامًا في الوطن. وإذا كانت هناك حاجة إلى بيئات قاحلة وأكثر حرارة للتدريب، فهناك القاعدة الموجودة في الأقاليم السيادية البريطانية على الأراضي القبرصية. وتثير أمثلة الأردن وعُمان ومالي الأسئلة التالية: من هم المشاركون؟ ومن هو الجمهور الأوسع للتدريبات التي يُجرى الاضطلاع بها؟ ومن يقوم بتدريب من، وما هي الأهداف المعلنة والنتائج الأوسع للأنشطة التي يجري الاضطلاع بها؟ هل تمثل هذه التمارين قيمة مقابل المال، بالنسبة إلى الحكومة البريطانية ودافعي الضرائب؟ من هو المستفيد الأكبر من التدريبات (الدولة المضيفة أم الوحدات الزائرة من الجيش البريطاني)؟، ولماذا تدعو الدول ذات السيادة، في غرب إفريقيا والشرق الأوسط، أفراد الجيش البريطاني إلى أراضيها، في السياق السياسي الحساس حاليًا.
لا توجد تساؤلات حول تمرين “غريفين سترايك”، فقد كان الجيش البريطاني يُجري التمارين، في منطقة التدريب في سهل سالزبوري، منذ القرن التاسع عشر. ومن الأمثلة على ذلك، سلسلة المناورات التي تمّ إجراؤها بين بلاند فورد وبيوسي، خلال شهريّ أغسطس وسبتمبر من عام 1872، واشتركت فيها أربع عشرة بطارية مدفعية، واثنا عشر فوج فرسان، وأربعة وعشرين كتيبة مشاة. وقد تم تسجيل هذا التمرين، على وجه الخصوص، على الكاميرا، وشمل سردًا معاصرًا من قِبَل مراقب محليّ، هو السيدة أنتروبس، التي ما يزال تسجيلها موجودًا حتى يومنا هذا. ومع ذلك، فإن تمرين “غريفين سترايك” الحالي قد شمل أيضًا (2,000) من الجنود الفرنسيين الذين خضعوا للتدريب نفسه، وكانوا على الجانب نفسه، مثل نظرائهم البريطانيين الذين بلغ عددهم (3,500) جندي، وهو احتمال لم يكن واردًا في القرن التاسع عشر أو العشرين.
وقد يسأل الشعب الفرنسي اليوم بالمثل: لماذا يتوجب عليه أن يتحمّل نفقات سفر العسكريين الفرنسيين إلى منطقة التدريب في سهل سالزبوري، من أجل إجراء تمرين عسكري، في الوقت الذي تتوافر فيه بالفعل مناطق تدريبية مشابهة مع مرافقها على الأرض الفرنسية.
تكمن الإجابات عن كل هذه الأسئلة في الطبيعة متعددة الأبعاد للتمارين والمجموعة المتنوعة من النتائج والغايات التي يخدمها التدريب الذي تمهد له. وهناك العديد من الأبعاد الإضافية الأخرى للتمارين غير التدريب. فحتى التدريب-في حدّ ذاته- له أغراض متعددة، ولا يتعلق الأمر بمجرد التَمَرُّن على المهارات العسكرية الأساسية الذاتية لكل قوة مشاركة في التمرين.
توجيه حول الأبعاد السياسية
تقوم القوات المسلحة في حلف “الناتو”، وبشكل منتظم، بإجراء تمارين تدريبية ميدانية، وتمارين قيادات، وفقًا للتوجيهات والتعليمات الصادرة عن وزارة الدفاع الخاصة بكل بلد. وفي الحالات التي تعنى بالتمارين متعددة الجنسيات، والتحالفات، وبناء الدول (المشاركة الدفاعية)، والأنشطة التدريبية، من المرجح أن تكون هناك نية سياسية، فضلًا عن الاستخدام العسكري الواضح.
ومع ذلك، يبدو أنَّ التوجيهات المتعلقة بكيفية إدراج الأبعاد السياسية الحقيقية لهذه التمارين، غير موجودة عمومًا في تصميمها وتنفيذها، وهذا لا يعني فقط إعطاء سيناريو التمرين بعدًا سياسيًا معقولًا (على سبيل المثال، حكومة “براون لاند” الوهمية تقاتل تمردًا تدعمه حكومة “غراي لاند”)، إنَّما أيضًا التفكير في آثار التمرين نفسه على الدول المشاركة، والدول المجاورة (على سبيل المثال، التدريبات السنوية التي تجريها اليونان وتركيا، بشكل منفصل، في بحر إيجه، والتي تؤدي دائمًا إلى توترات بين البلدين)، بما في ذلك، الأعداء المحتملون.
بالنسبة إلى الولايات المتحدة، فإن هناك سلسلة من المطبوعات المشتركة الصادرة عن رئاسة الأركان، والتي تتناول موضوع “التدريبات”، وتعتبر التمارين جزءًا منها. كما ينشر الجيش الأمريكي كتيب (TC 7-101)، يتضمن تصميم التمارين. ويوفر هذا الكتيب مرشدًا عمليًا، حول كيفية استخدام المنشورات السياسية رفيعة المستوى، من أجل تحقيق الأهداف، وتنفيذ الخطط على المستويات التعبوية والعملياتية. وكجزء من عملية تصميم التمارين التي يوصي بها، ينص هذا الكتيب على إخضاع سيناريو التمرين (الوهمي) لتحليل يشمل الجوانب السياسية والعسكرية والاقتصادية والاجتماعية والإعلامية والبنية التحتية والمادية والزمنية (PMESII-PT)، من أجل ضمان أن تكون المتغيرات العملياتية، التي تحدّد إعدادات التمارين، واقعية ومتوائمة مع البيئة العملياتية المعاصرة المحتملة. ومن الواضح أن التطبيق الذكي لاعتبارات البيئة العملياتية (PMESII-PT) يتضمن تحديد العوامل والأبعاد السياسية، التي يتوجب أخذها في الاعتبار، عند تخطيط وتصميم التمرين (كما هي الحال في مثال تمرين براون لاند ــ غراي لاند أعلاه).
وعلى الرغم من أن اعتبارات (PMESII-PT) هي أداة تحليلية فعّالة، وتُستخدم على نطاق واسع لتصميم سيناريوهات معقولة للتمارين، إلا أنَّ تطبيقها في تصميم التمارين في الجيش الأمريكي يركز على أقلمة التمارين، لكي تلبي الاحتياجات التدريبية للجيش الأمريكي كأفضل ما يكون، وليس احتياجات الحلفاء الثانويين أو الشركاء الأصغر في التحالف.
وضمن كتيب “تصميم التمارين”، يُوصف جزء التحليل السياسي من اعتبارات (PMESII-PT) من منظور أمريكي بشكل كامل. وعلاوة على ذلك، ولأغراض هذه المقالة بالتحديد، لم يتم تقديم أيّ توجيهات حول كيفية التعامل مع الآثار السياسية المترتبة، على أرض الواقع، على الحلفاء والشركاء والجيران (بما في ذلك الخصوم المحتملون) من التمرين نفسه (كما في مثال اليونان ــ تركيا السابق).
أمّا في حالة المملكة المتحدة، فإن أكثر الوثائق الاستراتيجية أو الأساسية التي تنطلق منها هذه المهمة هي استراتيجية الأمن الوطني، ومراجعة الدفاع والأمن الاستراتيجي للعام 2015: من أجل مملكة متحدة آمنة ومزدهرة (SDSR 2015). وفيما يلي المستوى الحكومي العام لهذه الوثيقة التي تقع ضمن مجموعة متنوعة من السياسات المتعلقة بالتمارين الصادرة عن وزارة الدفاع. وتؤكد مذكرة العقيدة المشتركة لوزارة الدفاع رقم (1/15)، بشأن المشاركة الدفاعية، أهمية التمارين، لأنَّها تعطي في الأساس فرصًا تدريبية تعزز قابلية العمل البيني مع الشركاء. بيد أن مذكرة العقيدة المشتركة لا تأتي بتفاصيل تبين كيفية تحقيق ذلك بالتحديد. ويتوفر المصدر الأكثر شمولية لسياسة وزارة الدفاع، التي تنظم إجراء وغاية الأنشطة التدريبية التي تشمل التمارين العسكرية، وإلى حدّ كبير، من خلال نشرة الخدمات المشتركة رقم 822، وتوجيهات وتعليمات التدريب والتعليم، والجزئيين 1 و2. ومع ذلك، لا تعالج هذه التوجيهات ولا أية توجيهات وتعليمات أخرى صدرت حاليًا، وبشكل صريح، الأبعاد السياسية والدبلوماسية للتمارين. وهذه فجوة مهمة يجب معالجتها لمصلحة مخططي التمارين، والمشاركين فيها، والمقيّمين لها في المستقبل.
وعلى خطى كارل فون كلاوزفيتز، الذي فكر بوصفه مديرًا لأكاديمية الحرب البروسية في الكيفية الفضلى لتقديم المشورة إلى القادة العسكريين. يتوجب الحفاظ على التزام نشرة الخدمات المشتركة رقم 822 بتوفير التوجيه، وليس العقيدة. كان كلاوزفيتز ينظر بنوع من الريبة إلى العقيدة والمبادئ أو الصيغ التي تُدرس للضباط عن طريق الحفظ الأصم. وبدلًا من ذلك، شدَّد على تعليم عقول القادة في المستقبل، كي يتمكنوا من استخدام حكمهم الخاص وتطبيقه بذكاء على المهمة المحددة التي قد يواجهونها. ويقول كلاوزفيتز:
أ. المعادلة هي صيغة مجردة. وإذا كانت الحال كما في الرياضيات، فإنَّنا عندما نقوم بصياغة قيمة مجردة، لا نخسر شيئًا في العملية، ويحقق (التجريد) لنا الغرض المنشود بشكل كامل. إلّا أنه عندما يستلزم التجريد… تجاهل (المظهر الحقيقي للقضية)، من أجل التركيز على الشكل الميت الذي يمكنه أن يتحول بسهولة إلى مجرد، تكون النتيجة هيكلًا جافًا يحوي حقائق مملة وملاحظات تافهة يتم إقحامها في العقيدة. ومن المدهش حقًا أن تجد أناسًا يضيعون أوقاتهم على مثل هذه التصورات. وإذا ما كان المرء يرى أن العوامل الأكثر أهمية في الحرب والاستراتيجية هي “ما هو خاص”، ومتفرد، ومحلي، فإن الأغلبية تتجنب التجريد والمنهجية العلمية.
ب. بدلًا من توفير الوصفات العَقَدِيَّة، تسعى نشرة الخدمات المشتركة رقم 822 إلى تزويد مخططي التمارين بإرشاد كافٍ، من أجل التدبّر في جميع الأبعاد المهمة للتمارين، التي قد يكون بعضها سياسيًا، وأن يتم تكييف كل تمرين، وفقًا لسياقه الخاص.
الأبعاد السياسية
تنطبق معظم الأهداف السياسية الحاسمة، بشكل رئيسي، على تمارين التدريب الميدانية، نظرًا لما تتسم به من رؤية عالية. ويبين دليل الأركان المشتركة لكبار القادة أن الأساس المنطقي من التمارين العسكرية هو “ضمان أمن وثقة حلفائنا وشركائنا. وطوال الحرب الباردة، أدى ردع أعمال العدو، من خلال التمارين وفي وقت واحد، إلى تعزيز ثقة أعضاء حلف شمال الأطلسي بقدرتهم على ردع العدوان، وفي حال فشل ذلك، الدفاع عن أراضي حلف شمال الأطلسي. وقد أدت أعمال روسيا في شبه جزيرة القرم وأوكرانيا، منذ عام 2014، إلى إحياء عقلية الحرب الباردة، وما يرتبط بها من مخاوف، من احتمال أن تتعرض بلدان “الناتو” إلى التهديد. لقد تمّ الإعلان عن سلسلة من الضمانات الفورية مع التركيز على أوروبا تحديدًا، بما في ذلك، التدريبات خلال شهر سبتمبر من عام 2014، وذلك في نهاية قمة “الناتو” التي عقدت في ويلز، كجزء من خطة عمل جاهزية “الناتو”. وقد جاءت هذه التدابير استجابةً مباشرةً لما يمكن اعتباره سلوكًا غير مقبول، ومهدِد من جانب روسيا في أوكرانيا وأماكن أخرى.
وقد عرّف “الناتو” الضمانة بأنها الوجود المستمر جوًا وبرًا وبحرًا، والنشاط العسكري الهادف في الجزء الشرقي من الحلف. والأهم من ذلك، هو أن المفهوم قد تمت صياغته من حيث طمأنة الحكومات والشعوب والقوات المسلحة لأعضائها في أوروبا الشرقية بأن “الناتو” كحلف يقف معهم، ويُظهر بوضوح هذا العزم. ومما له دلالة هو أن الاتصالات الرسمية لـ “الناتو” تمت صياغتها بعناية بحيث لا يتكلم “الناتو” إلا عن توفير الضمانات لأعضائه، وتجنب الإشارة علنًا إلى ردع أي دولة أو قوة خارجة عن القانون الدولي.
تمرين الفلفل المطحون (مثال توضيحي) كان واحدًا من التمارين التي أُجريت برعاية تدابير الضمان الفوري. وقد كان تمرينًا حيًّا، شارك فيه 1300 جندي، ومئات العربات من دول الفيشغراد (سلوفاكيا، وجمهورية التشيك والمجر وبولندا) والولايات المتحدة . وقد أسهمت قيادة القوة المشتركة لـ “الناتو برونسيوم” بفريق متكامل ومنفتح في الأمام لـ“الناتو”، ومكون من عشرة أفراد للمساعدة على تخطيط وتقييم التمرين. وقبل أزمة أكرانيا، في ربيع عام 2014، كان يُنظر إلى تمرين الفلفل المطحون، باعتباره تمرينًا ثنائيًا يشمل فقط تدريب القوات السلوفاكية والتشيكية، وفقًا لترتيباتها الخاصة، بدلاً من رعاية “الناتو”.
بيد أنه وبحلول منتصف عام 2014، توسع هذا الأمر ليصبح، وبشكل أكبر، خطة طموحة من شأنها أن تضم قوات خمس دول في حلف “الناتو” وواحدة من القيادة المشتركة لـ“الناتو”. وبالتالي، فإن تمرين الفلفل المطحون هو دليلٌ واضحٌ على الكيفية التي نستطيع من خلالها ترجمة القصد الاستراتيجي إلى نشاط عسكري ذي مغزى، في ظل وجود مجموعة من الأهداف والمتابعين. وقد نُظّمت إيجازات إعلامية، ومؤتمر صحفي، وتغطية إعلامية وتلفزيونية، من أجل شرح التمرين لدول الفيشغراد، والجمهور الأوروبي الأوسع، بل والصحفيين من منظمات وبلدان أخرى أقلّ ودية في تصرفها.
وحذر مسؤولون في “الناتو” وسلوفاكيا، على حدّ سواء، من عدم ذكر روسيا على وجه التحديد، وعدم الحديث علنًا عن الردع. وبدلًا من ذلك، ذكرت الحكومة السلوفاكية أن الهدف الرسمي من تمرين الفلفل المطحون هو” اختبار” قوة الواجب متعددة الجنسيات في العملية المشتركة لقوات “الناتو”، من أجل المحافظة على الأمن، وحماية السلامة الإقليمية لـ”الناتو” بموجب المادة الخامسة من معاهدة “واشنطن”. وقد كان الخطّ، الذي عبر عنه الفريق ميلان ماكسيم، رئيس الأركان العامة للقوات المسلحة للجمهورية السلوفاكية هو أن “التمرين الدولي للعام 2014 يُعد تتويجًا لتمارين عسكرية عديدة لتمرين الفلفل المطحون، الذي قامت بتنفيذه القوات المسلحة السلوفاكية، بهدف اختبار مدى جاهزية هذه القوات للاستجابة للطيف الكامل من التهديدات العسكرية وغير العسكرية، تماشيًا مع الوضع الأمني الحالي في أوروبا.
وقد كررت وسائل الإعلام الأوروبية والدولية هذه المواضيع، مؤكدة أنّ تمرين الفلفل المطحون قد أثبت التصميم الجماعي لـ”الناتو”، وإعادة التأكيد لأولئك الحلفاء الذين يعتبرون أنفسهم مهدّدين بأن “حلف الناتو يقف إلى جانبهم، من خلال التزامات الدفاع الجماعي”. وإضافة إلى ذلك، تم التأكيد على القدرات، والاستعداد العسكري لكلٍّ من بلدان الفيشغراد و”الناتو” ككل، من أجل تأمين حدود “الناتو” ضد أيّ تهديد خارجي لأمن الحلف في الرسائل الرئيسية للحملة الإعلامية الرسمية. ومع أن هذه الرسائل كانت تهدف، في المقام الأول، إلى طمأنة أعضاء حلف “الناتو” في أوروبا الشرقية، إلّا أن هناك رسائل ضمنية لا لبس فيها لاستهلاك الحكومة الروسية بعدم التدخل في دول “الناتو” (رسائل ردع).
لا تُجرى التمارين في فراغ. وسواء أكان مقصودًا أم لا، فإن لها نتائج وتأثيرات بعيدة المدى على كلٍّ من المشاركين العسكريين، ومجموعة متنوعة من المتابعين لها، وهذا من ناحية فلسفية ليس مستغربًا. وقد حدد كلاوزفيتز” الثالوث الملحوظ” للقوات المسلحة نفسها وحكوماتها وشعبها في علاقة تتسم بالتوتر المتبادل، إنّما بترابط في نهاية المطاف. وخلال الحرب الباردة، كان الجانب الآخر لردع أعمال العدو، من خلال التمارين، يهدف في المقام الأول إلى تعزيز ثقة حلف “الناتو” بقدرته على الردع ــ وفي حال فشل الردع ــ بالدفاع عن أراضي “الناتو”.
ولا يزال هذا الهدفَ الرئيسي الثاني من التمارين، التي تم تنفيذها مع الحلفاء أو الدول الصديقة. وقد أوضح دليل الأركان المشتركة لكبار القادة أيضًا أن الغرض من التمرين هو “ضمان موثوقية حلفائنا وشركائنا”، وهو بعد للتمارين العسكرية يستحق مزيدًا من التطوير، لأنه ينطوي على إمكانيات هائلة لتحقيق الاستقرار في البيئة الدولية بتكلفة منخفضة نسبيًا.
ينعكس الهدف نفسه في استراتيجية المملكة المتحدة، إذ تذكر مراجعة الدفاع والأمن الاستراتيجي للعام 2015 أن القوات المسلحة لديها ثماني مهام، إحداها “تعزيز الأمن الدولي والإمكانات الجماعية لحلفائنا وشركائنا والمؤسسات متعددة الأطراف”. ويشمل ذلك العمل للمساعدة على تشكيل البيئة الأمنية الدولية، وتعزيز النظام الدولي القائم على القواعد، بما في ذلك، عبر منع نشوب النزاعات، وبناء القدرات، ومكافحة انتشار أسلحة الدمار الشامل. ولتحقيق هذه المهمة، يتم توجيه القوات المسلحة بتنفيذ “مشاركة الدفاع”، التي تعرف بأنها “اختبار وبناء للقدرات الدفاعية جنبًا إلى جنب مع حلفائنا وشركائنا”. وفي هذا السياق، تمت الإشارة إلى “الناتو” على أنه الحلف الأكثر أهمية، مع شركاء مثل نيجيريا وكينيا والأمم المتحدة.
وبالنسبة إلى تجربة إرسال ضباط إلى “دول صديقة”، بهدف تدريب وتعليم وإعادة هيكلة قواتها المسلحة، فهذا في كثير من الأحيان ليس بالأمر الجديد. ففي أواخر القرن التاسع عشر، أرسلت ألمانيا ضباطًا إلى الإمبراطورية العثمانية لهذا الغرض. وفي القرن العشرين، أرسلت الولايات المتحدة ضباطًا إلى بلدان أمريكا اللاتينية. وبعد عام 1945، تم إرسالهم إلى حلفائها في الفلبين واليابان وكوريا الجنوبية وجنوب فيتنام، حيث تحول إسناد التدريب إلى إسناد الحرب الدفاعية، خلال ستينات القرن الماضي. وقد وُجه الكثير من النقد إلى جهود الولايات المتحدة، لأنها لم تكن مصحوبة بالضرورة بالتدريب الفني في أمريكا اللاتينية أو جنوب فيتنام، من خلال المطالب المتمثلة في احترام قوانين الحرب، وتعزيز أفضل الممارسات الديمقراطية في معالجة المجندين. وقد تزايد هذا الاهتمام الأخلاقي بالقيم والحقوق، منذ ذلك الحين. لقد أدت الحرب الباردة إلى آمال كبيرة في قدرة “الناتو” والدول الغربية الأخرى على تصدير القيم الديمقراطية، وحقوق الإنسان إلى بقية دول العالم. وأصبحت مساعدة البلدان الأخرى على إصلاح قطاعها الأمني موضوعًا مهمًا، على الرغم من أنه كان، في الوقت نفسه، شيئًا جديدًا بالنسبة إلى العديد من الضباط الذين أنيطت بهم فجأة هذه المهام. كان ضباط العديد من الدول الأعضاء في حلف “الناتو” يرون دورهم في السابق واحدًا من أدوار ردع العدوان، والاستعداد للاحتمالية الرهيبة في أن يفشل الردع، واحتمالية اندلاع حرب عالمية ثالثة. وبعد ذلك، قد يجد أولئك العاملون في مهامَ حفظ السلام أنفسهم فجأة -مع القليل من الاستعداد إن وجد -مدفوعين إلى القيام بدور المعلم أو الدبلوماسي.
كان البعدان الدبلوماسي والسياسي، ضمن إطار علاقات ما بعد الحرب الباردة، يتزايدان حتمًا بقدر ما يتمتع عدد قليل من الناس باحتمالية وصول أجانب فجأة وإبلاغهم بكيفية القيام بالأشياء بشكل مختلف، خاصة عندما يكون هؤلاء الأجانب خصومًا أيديولوجيين وعسكريين سابقين.
لقد أصبح إصلاح قطاع الأمن صناعة متنامية، خاصة عندما بدأ “الناتو” بإقامة علاقات ودية مع عدد كبير من البلدان المجاورة، من خلال برنامج الشراكة من أجل السلام. ويهدف هذا الإصلاح إلى تجنب هذا النوع من الانتقادات، التي تم توجيهها إلى الولايات المتحدة، خاصة خلال الحرب الباردة، لقيامها بتدريب ديكتاتوريين عسكريين مستقبليين. ولتحقيق هذا الأمر، لم يكن هناك نقل للمهارات التقنية والعسكرية الصرفة فقط، إنّما أيضًا للتركيز الشديد على التقيد بقوانين الحرب وغيرها من الاتفاقيات، واعتماد أفضل الممارسات، وفي نهاية المطاف، القيم الديمقراطية والسيطرة السياسية على الجيش.
لقد كان بناء الدولة الذي رعته المملكة المتحدة في سيراليون، خلال الفترة (2002-2013) مثالًا ناجحًا غير أوروبي على هذا النوع من المشاركة الدفاعية الشاملة، الأمر الذي زاد من تعزيز إصلاحات القطاع الأمني. وعندما انتهت الحرب الأهلية، في نوفمبر عام 2001، انتهى دور جيش سيراليون كقوة منظمة ومنضبطة، وأصبح مجرد مجموعة أخرى من الميليشيات، تعمل لمصلحتها، بدلاً من خدمة الدولة. وقد نظرت كل من الحكومة التي تمت استعادتها مجددًا برئاسة أحمد تيجان كبه وشعب سيراليون إلى الجيش بنوع من عدم الثقة والشك. ومع ذلك، قرر كبه عدم حل القوات المسلحة، وبدلًا من ذلك، اختار إصلاح وإعادة بناء الجيش (تحت مسمى القوات المسلحة لجمهورية سيراليون في عام 2000)، ودمج عناصر متواضعة جدًا من القدرات البحرية والجوية، في إطار هيكل جديد تمامًا من رقابة ومساءلة الديمقراطيين. ومن خلال اضطلاعه بمهمة الإصلاح العسكري الصعبة، تحول كبه وحكومته إلى المملكة المتحدة لتولي زمام المبادرة في هذا الموضوع. وقد أدت عملية الإصلاح إلى إنشاء فريق استشاري وتدريب عسكري دولي في عام 2002. وعلى الرغم من أنه ” دولي” في عنوانه، فقد كان ما يقرب من 85-90% من عضوية فريق التدريب البالغ عدده نحو 100 فرد هم من القوات المسلحة البريطانية، وكان هذا الفريق في كل الأوقات يخضع للقيادة السياسية والعسكرية البريطانية. وقد تم تزويد فريق التدريب بعناصر غير بريطانية من بلدان الكومنولث الأخرى، خاصة كندا ونيجيريا وغانا. وقد تركز الجهد الرئيسي الأولي لفريق التدريب على التدريب العسكري الفردي والجماعي للضباط والجنود، وتجنيد جيل جديد من الضباط والجنود الذين لم يلطخهم إرث الحرب الأهلية.
تمّ استكمال الحاجة إلى إعادة بناء القدرات العسكرية الأساسية بالهدف السياسي الأوسع نطاقًا الذي يتمثل في تعزيز المصلحة الوطنية. وقد بُذلت جهودًا كبيرة من قِبَل فريق التدريب، بهدف التأكد من أن التجنيد يعكس الخليط الإقليمي والقبلي. وإضافة إلى ذلك، لقد سُمح لأفراد تم اختيارهم والتدقيق عليهم بعناية من الميليشيات السابقة وجماعات المتمردين بالانضمام إلى القوات المسلحة التي تم تشكيلها حديثًا في سيراليون، شريطة أن يكملوا التدريب الذي ترعاه الدولة. وفي أثناء معالجة هذه القضايا التعبوية، عمل فريق التدريب أيضًا على المستويين العملياتي والاستراتيجي، من خلال مستشارين دائمين. وعلى المستوى الحكومي، تم تعيين قائد فريق التدريب (عميد من الجيش البريطاني) كمستشار لحكومة سيراليون في جميع المسائل التي تتعلق بالأمن، مع إمكانية الاتصال مباشرة بالرئيس. كما تم تعيين ضباط عسكريين آخرين في فريق التدريب، وموظفين حكوميين من كبار موظفي الخدمة المدنية في المملكة المتحدة في أدوار تنفيذية واستشارية داخل وزارة الدفاع في سيراليون، بهدف إدامة زخم الإصلاح، وتعزيز مبدأ السيطرة المدنية على الجيش.
وبالنظر إلى تاريخ البلاد في الحكم العسكري السيئ، وحالات الحرب الأهلية الوحشية التي وقعت في عام 2002، فقد أظهرت الانتخابات الناجحة والسلمية التي تمت في عامي 2007 و2012 التقدم الذي تم إحرازه في قطاع الأمن في سيراليون، خلال فترة قصيرة نسبيًا. في الفترة (2009 – 2013) ساهمت القوات المسلحة بسرية من قوات حفظ السلام في البعثة المشتركة بين الاتحاد الإفريقي والأمم المتحدة في دارفور. وفي يونيو عام 2013، تم إرسال كتيبة مجهزة بالكامل إلى بعثة الاتحاد الإفريقي في الصومال. وفي الحالتين كلتيهما اكتسبت القوات المسلحة في سيراليون سمعة طيبة، نظرًا لكفاءتها المهنية وسلوكها الأخلاقي السليم، بين مختلف الجيوش الإفريقية. ويتوجب الاعتراف أيضًا بأن التدريب قبل عمليات الانفتاح (التدريب الفردي والجماعي) والتمارين التحضيرية ذات الصلة، التي تضطلع بها وحدات حفظ السلام كانت مدعومة من بريطانيا وبرعاية منها، من خلال فريق التدريب. وكان للمشاركة في هذا النوع من بناء المؤسسات والإصلاح الشامل للجهاز الأمني للدول الأخرى آثار أخرى. وعلى وجه الخصوص، ربما أنها خلقت تصورات لجيوش (وشعوب) الدول الأعضاء في “الناتو” بأن الإجراءات يتوجب أن تتفق والقانون الدولي. وكانت النتيجة هي “قانونية” (التي تندرج تحت اختصاص القانون) العمليات العسكرية، وهو بُعد تم إغفاله من قبل العديد من الدول التي ليست جزءًا من الغرب وتُولي اهتمامًا أقل بحقوق الإنسان. وفي نهاية المطاف، تعتبر الأنشطة العسكرية جزءًا من استراتيجية (غربية) عالمية أوسع للدفاع عن مثل هذه القيم ضد التجاوزات على الثقافات التي لا تشترك فيها، حيث تعتبر الفعاليات التدريبية مثل التمارين وسيلة رئيسية للتواصل، ونشر مثل هذه المعايير الجديدة.
الردع.. التفسيرات الخاطئة والضمانات
لاحظت هذه المقالة أهمية التدريبات، من أجل طمأنة الحلفاء والأصدقاء، وردع عدوان العدو. ومع ذلك، فإن كلمة “الردع” لا تظهر في أي مكان في سياسة وزارة الدفاع البريطانية، التي تتعلق بالتدريبات. كما أنها لا تظهر بشكل عام في وثائق تمارين حلف “الناتو”. وعلى النقيض من ذلك، يتضمن دليل رؤساء الأركان المشتركة لكبار القادة، المقطع التالي: ” فعاليات التدريب والتمارين مصممة للحفاظ على السلام والأمن، في ظل ظروف تعزز مصالح الأمن القومي الأمريكي أو تهيئ الظروف للنجاح العسكري في حالة فشل الردع”. وهذا يبين باستمرار أن برامج التدريب المشتركة هي “ضمان قوة واجب قادرة على تزويد الرئيس بمجموعة أوسع من الخيارات العسكرية لردع أو هزيمة العدوان ضد أي شكل من أشكال الإجبار للولايات المتحدة وحلفائها وأصدقائها ومصالحهم”.
والردع سبب قديم ومحوريٌّ لإجراء مناورات عسكرية. ولعل أقرب مثال تاريخي في التركيز على التمارين، هو ذلك الذي قدمه البيروسي فريدريك وليام “الملك الجندي” (الذي حكم في الفترة 1713 -1740). وقد رفع بشكل شهير من مكانة دولته المغرورة، على الرغم من أن أرضها غير خصبة وظروفها مؤسفة (هي منطقة في أوروبا قد اشتبكت فيها طموحات هابسبورغ مع طموحات الطوائف البولندية اللتوانية، والروسية) -من خلال بناء جيش كبير غير متجانس على الرغم من فقر أراضي دولته وتفرق سكانه، وقيامه بإخضاع هذا الجيش لتمارين على نطاق واسع. وفي الوقت نفسه، لقد تجنب -وبشكل متعمد- استخدامه في أية نزاعات فعلية. وكان موقفه فعّالا في ردع العدوان الأجنبي، من خلال الإيحاء بقدرة قواته المسلحة على صد أية غزوات إقليمية. وكان هذا الأساس المنطقي جزءًا أساسيًا من المناورات العسكرية اللاحقة.
قد تكون هناك أسباب دبلوماسية جيدة لتجنب ذكر “الردع”، باعتباره هدفًا من أهداف التمارين، عندما تكون العلاقات مع الدول المجاورة غير المشاركة في هذه التمارين غير عدائية، ولا يتوجب اعتبارها كذلك. ومع ذلك، فإن هذا الأساس المنطقي موجود في معظم التمارين التي يقوم بها الغرب، حيث تشير التمارين إلى القدرة على صد الاحتلال السهل للأراضي الصديقة والمحالفة. على الأقل بين المشاركين في التمرين، عادة ما يكون هذا الهدف أمرًا مفروغ منه، إلّا أنه يُتوجب أن يُعبَّر عنه بوضوح. والواقع أنه من الصعب أن نرى كيف يمكن تفسير ذلك على أنه هدف مضلِّل أو كاذب، إذا تم الاعلان عنه بشكل واضح، على الرغم من أن تغطية الأخبار الروسية والأمريكية لتمارين حلف “الناتو” غالبًا ما تميل إلى تصويره على هذا النحو. ومن المُسلم به أن بعض التمارين تنطوي على خطر إساءة تفسيرها، الأمر الذي قد يؤدي في النهاية إلى سوء التقدير. وفي مراحل مختلفة من العلاقات بين الشرق والغرب، خلال الحرب الباردة، ربما تكون التمارين الميدانية، بل وحتى تمارين القيادات، قد أسهمت في جعل الجانب الآخر عصبيًا بشكل خاص، إلى حدٍّ، ربما يدفع الصقور في معسكر العدو إلى النظر في اتخاذ إجراءات وقائية. وقد كان هذا هو الحال في أوائل الثمانينات. فقد ادعى قادة الحلفاء في وارسو مرارًا وتكرارًا بأن تمارين “الناتو”، خاصة تلك التي يتم تطبيقها على نطاق واسع، مثل خريف فورج، ” قد تكون بمثابة واجهة لإخفاء بناء مجموعات هجومية في أوروبا، وهجوم مفاجئ على بلدان “حلف وارسو”. وقد حذر أحد العلماء من الوصول إلى نقطة الذروة في الردع، من خلال التمارين والتدابير الأخرى، والتي قد تتجاوز هذه التدابير، فتشكل خطرًا كبيرًا، بدلًا من توفيرها قدرًا أكبر من الأمن.
هناك حاجة إلى إدراج تدابير بناء الثقة في العمليات، من خلال إبلاغ الخصوم المحتملين عن حجم التمرين، وكذلك شكله ونطاقه. إن مؤتمر الأمن والتعاون في أوروبا، الذي أدى الى تأسيس منظمة الأمن والتعاون في أوروبا، قد وضع سلسلة من تدابير بناء الثقة والأمن، من أجل تجنب سوء فهم نوايا التمارين. وبموجب قواعد منظمة الأمن والتعاون في أوروبا، فإن التمارين التي تشتمل على أكثر من 9000 شخص (3000 إذا كان يُستخدم الإنزال البرمائي) يتوجب إبلاغ منظمة الأمن والتعاون في أوروبا عنها مسبقًا. وهذا المتطلب ينطبق أيضًا على اختبار إطلاق القذائف الصاروخية. وقد ثبت أن ذلك مفيد للغاية سياسيًا، على الرغم من أن الجانبين قد حاولا، خلال العقد الأخير من الحرب الباردة التحايل على مثل هذا الإبلاغ عن طريق تجزئة التمارين إلى مكونات أصغر حجمًا، ولا تصل إلى هذا العدد الإجمالي. وبالتالي، فإن من المخيب للآمال أن روسيا قد رفضت في عام 2016 تجديد هذا الاتفاق.
هناك احتمال حقيقي جدًا بأن التدريبات يُمكن أن يكون لها تأثير معاكس للإشارة إلى التصميم والاستعداد للدفاع. وعلى حدِّ قول عالميّ الاجتماع تريفور نوبل وبريدجيت بيم، “إن كل ممارسة للسلطة هي كشف محتمل للقيود المفروضة عليها”. وقد تكشف التمارين، وبشكل كبير، عن قصور إعداد المشاركين في تنفيذ المهمة المشتركة. في حين، أن هذا هو بالطبع ما تمّ وضع التمرين من أجله، وقد يكون هناك بطء في إدراك الآثار الإيجابية المترتبة عليه، وقد تكون هناك فترة من الخطر المتزايد، في حال كان هناك جار يتربّص ويراقب كل ما يجري. وكما ذكر أعلاه، فإن دليل تصميم التمارين في الولايات المتحدة يركز على البعد السياسي ضمن سيناريوهات التمارين، وليس على آثارها على بيئة الحياة الحقيقية. ولتجنب التصورات الخاطئة أو التفسيرات الخاطئة المتعمّدَة من قِبَل الخصوم المحتملين، يتوجب على سيناريو المناورات العسكرية أن يعكس وبكل وضوح طابعها الدفاعي العام (الاستراتيجي)، الذي لا يستبعد الهجمات التكتيكية العملياتية المضادة. وفي النهاية، إن أهداف الحرب الدفاعية (وبالتالي ردود الفعل) يتوجب أن تكون واضحة، وأن تتمّ مراعاتها في أي سيناريو استراتيجي يشتمل على عنصر هجوم من قبل العدو، وإعادة تجميع صفوف ثم تحرك نحو هجوم مضاد لتحرير أراضٍ يحتلها العدو.
هناك عوامل أخرى مهمة جدًا بالنسبة إلى السيناريو. وقد تشتمل على، مستوى تكتيكي أو عملياتي، واختبار معدات جديدة أو تقديمها بشكل أفضل (لاجتذاب المشترين المحتملين)، أو إظهار طرق غير تصعيدية (على سبيل المثال، باستخدام أسلحة غير فتاكة) في التعامل مع الاحتجاجات من قِبَل المدنيين العزل أو المقاتلين الذين يختبئون بين السكان. ويُظهر هذا الأخير، مرة أخرى، كيف أن القيم المنصوص عليها في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، وفي الصكوك الدولية يمكن، بل يتوجب أن تنعكس في التمارين العسكرية. وهناك دور آخر للتمارين، ربما لم يسبق له مثيل، وهو دور التمارين المشتركة مع الخصوم المحتملين، التي تهدف إلى بناء الثقة والأمن. خلال الفترة (30 يونيو – 4 أغسطس 2016)، شاركت القوات البحرية الأمريكية والقوات البحرية لجيش التحرير الشعبي الصيني في مناورات حافة المحيط الهادئ، التي تنظمها الولايات المتحدة، كل سنتين، منذ عام 1971، من مقر أسطول المحيط الهادئ في هاواي، في العادة مع الحلفاء وغيرهم من الدول الصديقة. وبشكل مثير للجدل، لقد دُعيت الصين إلى المشاركة في عامي 2014 و2016، على الرغم من وجود التوترات بين بكين وحلفاء الولايات المتحدة في بحر الصين الجنوبي والشرقي. وفي عام 2016، شاركت 27 دولة، بما فيها اليابان، التي كانت في خضمّ نزاعات إقليمية مع بكين-بشكلٍ ما-بدءًا بتوريد أعداد قليلة من هيئات الركن أو القوات البرية الى العديد من السفن.
كان السيناريو، كما وُصف من قِبَل إحدى القوات البحرية المشاركة، تدخلًا عسكريًا من قبل القوات البحرية المشاركة، بهدف تحقيق الاستقرار في نظام تهدده جماعة متمردين، تدعى “دراكو”:
أ. دولة جزيرة صديقة -غريفون -لها علاقات سياسية مع بلدان “ريمباك” … أصبحت غير مستقرة بسبب التهديد الداخلي المتزايد من قبل دراكو، بدعم من “أوريون” -ديكتاتورية عسكرية في جزيرة مجاورة. یخول قرار مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة رقم 9995 -في یونیوعام 2016 -دول ريمباك “استخدام کافة الوسائل الضرورية لاستعادة حریة الملاحة، وتحیید دراكو وردع عدوان أوريون”.
لا يوجد تقييم متاح للجمهور حول النتائج السياسية والاستراتيجية والتكتيكية لهذه المناورات، إلا أننا، ومع كل ذلك، لا نستطيع المبالغة في أهميتها السياسية بجلب الخصوم المحتملين معًا. وعلى الرغم من أنه سيكون من السذاجة الاعتقاد بأن الخلافات السياسية -مثل النزاع الإقليمي الذي يلوح في بلدان “ريمباك” عام 2016-يمكن حلها من خلال هذه المناورات. هناك أمل في أن يتم احتواء النزاع بالمفاوضات السياسية، وأن يتم استكشاف المجالات الأخرى التي تحقق مصالح متبادلة، وأن يتم البناء عليها والتوسع فيها مع مرور الوقت، من أجل تحويل علاقة الخصومة، وبشكل كلي، إلى واحدة من العلاقات الأكثر تعاونًا.
كانت الدعوة الموجهة إلى الصين موضع نقاش كبير. وكان يتوجب أن تحمل مخاطر متعددة. ولكن، مما لا شك فيه أن جميع الأطراف قاموا باستخدامها بمثابة وسيلة للحصول على أقصى قدر من المعلومات عن بعضهم البعض. ومع ذلك، فإن وقف تصعيد أي صراع، واتخاذ التدابير اللازمة للحد من تصورات التهديد المتبادل دائمًا ما ينطويان على مخاطر، يجب مقارنتها على أعلى مستوى سياسي، مقابل المكاسب السياسية التي يمكن تحقيقها. ومن المهم أن يتم اتخاذ هذا القرار على أساس الفهم الكامل للمخاطر والمكاسب، التي ينطوي عليها الأمر، خاصة عندما يتطلب تقديم إيجازات واسعة النطاق من قبل الخبراء العسكريين والتقنيين.
الآثار المترتبة على القوات العسكرية لحلف “الناتو”
مما لا شك فيه، أن قرار عقد أية تمارين بشكل عام، لأي غرض من الأغراض، في سياق وجود التوتر بين الدول، يتوجب أن يقع في أيدي القيادة السياسية للدول المشاركة فيها. وقد أظهر التاريخ أنه حتى التمارين الروتينية -على سبيل المثال يمكن أن يُنظر إلى تمارين “وينتيكس” أو “خريف فورج” التي كانت تُجرى كل سنتين أثناء الحرب الباردة، أو تدريبات “زاباد” الروسية في الوقت الحالي-يمكن أن يتم تفسيرها على أنها تهديد. ويتوجب على الأشخاص المعنيين بتصميم التمارين أن يضعوا ذلك في اعتبارهم، عندما يُكلفون -حتى بشكل روتيني -بتخطيطها وتنفيذها. يتوجب عليهم مناقشة هذا الأمر مع صناع القرار، والسعي إلى تجنب إحداث سوء فهم أثناء الحديث مع وسائل الإعلام.
أصبح مصطلح تشارلز سي كرولاك “العريف الاستراتيجي” شائعًا بعد أن تم الاعتراف بأن مخالفات الجنود أو أخطاءهم في المستويات الدنيا يمكن أن تكون لها آثار تصل إلى المستوى الاستراتيجي. وكان هذا هو الحال بصفة خاصة، بالنسبة إلى عمليات مكافحة التمرد. وبالمثل، فإنه يمكن للأخطاء والمخالفات في المستويات الدنيا، أثناء التمارين الدولية، أن تعرّض الغايات المرجوة من التمارين للخطر. ويمكن استخدام مصطلح “العريف الدبلوماسي” للمساعدة على تصور دور المشاركين في التمارين، مثل أولئك الذين تمّ وصفهم آنفاً. هناك آثار أخرى على التعليم والتعلم في القوات العسكرية لـ”الناتو”. في حين، أن الكثير مما تصفه هذه المقالة يفترض أن الهدف من التمارين، وإلى حد كبير، هو إيصال قيم حلف “الناتو” ومعاييره والإجراءات التي يتبعها الى جيوش الدول الأخرى. وسيكون من الغباء أن نفترض بأن هناك القليل مما يمكن تعلمه من الشركاء من خارج الحلف أو من البلدان المضيفة. على الأقل، سوف تكون لهؤلاء الشركاء والبلدان ميزة كبيرة في معرفتهم بطبيعة الأرض الخاصة بهم والطريقة الفضلى في البقاء على قيد الحياة. ومن المرجح أيضًا أن يعرفوا الكثير عن جيرانهم أكثر من الغرب، وستكون لديهم أفكار حول كيفية المساهمة على جميع المستويات، إذا أعطوا التشجيع ووجدوا بيئة مواتية لمثل هذه المناقشات.
البلدان التي تُظهر للشركاء والدول المضيفة أنهم يحترمون، ويهتمون بثقافتهم، وأنهم على استعداد للتعلم هي، في الواقع، تقدم أفضل المجاملات الممكنة للأمم الأخرى. وهذا بدوره يشجع التعاون مع الجهود التي تُبذل، ليس فقط لرفع معايير الأداء، إنما أيضًا للالتزام بالمعايير الدولية. ولضمان أن يكون لدى المشاركين الفهم نفسه والتوقعات الخاصة بهذه العملية، فإنه ينصح -في بداية مرحلة التخطيط -بالقيام بوضع قائمة مختصرة بالأهداف السياسية والاستراتيجية، بدلًا من الأهداف العسكرية البحتة التي يتوجب تحقيقها. ويتوجب أن تتم المصادقة على القائمة من قِبَل المستشارين الدبلوماسيين والمختصين في الدولة (في حالة بريطانيا، توجد هذه القائمة في مكتب وزارة الخارجية وكذلك في المراكز الفكرية والجامعات). ويتوجب أن تحدد القائمة-إذا أمكن-أولويات واضحة: الأهداف الرئيسية والأهداف التي نرغب في تحقيقها (قد تخضع هذه الأهداف لأهداف أكثر أهمية إذا كانت هناك خيارات صعبة يتوجب أن يتم اتخاذها). ويتوجب إبلاغ النقاط الرئيسية في هذه القائمة إلى جميع موظفي الدول الرئيسية المشاركين في هذه العملية، ويفضَّل أن تكون على شكل كتيب يحتوي على الأهداف الرئيسية والسلوكيات المرغوبة التي يتوجب إظهارها للمشاركين الآخرين في التمرين. إن مثل هذه الوثيقة سهلة الحمل، وهي تُستخدم في العادة داخل القوات المسلحة البريطانية لأغراض مثل بيان قواعد الاشتباك في العمليات، خاصة أثناء التمارين التي تنطوي على تفاعلات مع حلفاء ذوي قدرات عسكرية أقل. يتوجب أن يكون واضحًا، وعلى جميع المستويات في التسلسل القيادي في المملكة المتحدة، أن السعي إلى تحقيق أداء عسكري أفضل قد يكون مرهونًا بالأهداف السياسية التي تهدف إلى تشجيع الحلفاء والأصدقاء، وبناء ثقتهم ووضعهم في إطار فكري يتطلب منهم السعي الجاد إلى “رفع مستوى التمرين” وعدم النظر إلى التوصيات البريطانية من أجل تحسين الأداء كما لو أنها بمثابة الحكم على أدائهم الردئ أو حتى أي نوع من الإذلال الجماعي أو الشخصي.
من الطبيعي إجراء التقييمات بعد الانتهاء من أيّ تمرين. ويطلق على المعايير القياسية الحالية للقوات المسلحة البريطانية لتقييم أهداف التدريب الجماعي “مراجعة ما بعد العمل”. ويتم ذلك من قِبَل المقيم المراقب للتمرين، الذي يقدم التغذية الراجعة للمشاركين. وعادة ما يتم التركيز في التقييم على أداء المهمة (المهام) الفعلية، التي يتوجب على الوحدة العسكرية أو التشكيل تنفيذها، وفقًا لأهداف التمرين الجماعي. وعلى “مراجعة ما بعد العمل” أن تقدم تغذية راجعة حول فعالية العمل الجماعي الذي ظهر أثناء التمرين. ومع ذلك، فإن هذه الوظيفة الأخيرة يمكن أن تصبح مثيرة للجدل، وعلى القوات المسلحة البريطانية أن تطور منهجيةً من أجل التغلب على المشاكل القائمة. وبالفعل، فإن التوجيه الوحيد الذي يقدمه منشور الأسلحة المشتركة رقم 822، في هذا الصدد، هو الملاحظة المقتضبة بأن “هناك وجهة نظر أن “مراجعة ما بعد العمل” تعتمد فقط على الرأي الشخصي، وخبرة وحكم من المدرب الجماعي، بدلًا من سلسلة متطورة من تقييمات دقيقة ومحكمة لأهداف التدريب الجماعي.
المصدر
Beatrice Heuser &Harold Simpson, “The Missing political Dimension of Military Exercises”, RUSI Journal 20 July 2017, Link: http://dx.doi.org/10.1080/03071847.2017.1345118