تأثير الممرات البحرية في القطب الشمالي  على حركة التجارة العالمية

في أغسطس 2017 أبحرت أول سفينة تجارية عبر المحيط المتجمد الشمالي دون مساعدة كاسحة جليد. استغرقت الرحلة 19 يومًا من النرويج إلى كوريا الجنوبية، أي أسرع بنحو أسبوع من الطريق عبر البحر الأبيض المتوسط. وفي مطلع 2018 أصبحت ناقلة غاز طبيعي مسال أول سفينة تجارية تعبر طريق البحر الشمالي في الشتاء من دون مرافقة كاسحة جليد؛ إذ نجحت السفينة “إدوارد تول” في رحلتها من كوريا الجنوبية إلى مونتوار في فرنسا مرورًا بشمال روسيا، موفّرةً نحو 3000 ميل بحري مقارنة بعبور قناة السويس. وجاء ذلك عقب عبور الناقلة “كريستوف دي مارجيري”.

شهد جليد القطب الشمالي تراجعًا مستمرًا خلال الأربعين عامًا الماضية، ما فتح فرصًا جديدة للشحن وأثار في المقابل مخاوف بيئية وتنافسًا جيوسياسيًا. وتُظهر أبحاث ملاحية أن مركز نشاط الشحن انتقل قرابة 300 كيلومتر شمالًا وشرقًا خلال سبع سنوات، مقتربًا أكثر من القطب. ونتيجة لذلك ارتفع عدد السفن العاملة في مياه القطب الشمالي. فعلى سبيل المثال زادت أحجام الشحن على طريق البحر الشمالي بنحو 40% لتصل إلى 9.7 ملايين طن في 2017 وفق الوكالة الفيدرالية الروسية للنقل البحري والنهري، ثم ارتفعت إلى 40 مليون طن في 2022، مع توقع بلوغ 70–80 مليون طن بحلول 2030. وفي فبراير 2018 أعلنت الصين خطتها لإنشاء “طريق الحرير القطبي” عبر تطوير ممرات الشحن التي فتحها الاحترار، مع تشجيع البنية التحتية ورحلات تجارية تجريبية وبناء سفن سياحية لاستكشاف المنطقة.

القانون الدولي لسلامة السفن في المياه القطبية:

وقّعت دول القطب الشمالي “استراتيجية حماية البيئة في القطب الشمالي” عام 1991 لتنظيم التلوث في المنطقة، وهي من أكثر الأطر شمولًا لقضايا الحوكمة البيئية هناك، إذ تُنشئ منصة للتنسيق بين الدول المعنية وأصحاب المصلحة. وأسهمت في إرساء أساس تعاوني لمواجهة تغيّر الغطاء الجليدي وتأثيراته في النظم البيئية البرية والبحرية وقدرة مجتمعات القطب على التكيّف. كما وضع “البرنامج الدولي لطريق البحر الشمالي” INSROP قاعدة معرفية لمتطلبات سلامة السفن أثناء تطوير الطرق القطبية.

وفي 2017 دخلت “المدونة الدولية للسفن العاملة في المياه القطبية” المعروفة بـ“المدونة القطبية” حيّز النفاذ. وتفرض متطلبات إلزامية على الملاحة في المناطق القطبية تشمل التجهيز والتصميم والقدرات على الملاحة الجليدية. وتلتزم السفن العاملة في القطب الشمالي بأحكام هذه المدونة.

ويركّز الفصل الخامس من الجزء الثاني-أ من المدونة على منع التلوث الناجم عن القمامة من السفن ويضع لوائح صارمة لإدارة النفايات في المناطق القطبية. ومع ذلك لا تزال آليات أمن طرق الشحن في القطب الشمالي غير مكتملة، ما يثير مخاوف بشأن تخطيط الممرات. وبسبب القلق العالمي من العواقب البيئية لعبور السفن في المناطق القطبية، فُرضت متطلبات أشد على بناء السفن وتدريب المشغلين، بما يعزّز الارتباط بين سلامة الملاحة والحساسية البيئية المحلية.

كيف يغيّر ذوبان الجليد البحري مسارات الشحن:

سخّنت منطقة القطب الشمالي بوتيرة أسرع بنحو أربع مرات من بقية العالم خلال العقود الأربعة الماضية بحسب دراسات أواخر 2022. ويتوقع أن تغدو أجزاء من القطب خالية من الجليد صيفًا بحلول 2035، ما يفتح طرقًا أقصر لعبور البضائع بين أوروبا وآسيا وأمريكا الشمالية. تشير تقديرات إلى أن طرق القطب الشمالي قد تكون أقصر بنسبة 30–50% من طرق قناة السويس أو قناة بنما، مع تقليص زمن العبور بنحو 14–20 يومًا. وقد تجذب هذه الطرق أيضًا سفن الرحلات وسياحة المغامرات.

يتيح اتساع الممرات القطبية مسارات أقصر بين المحيطات والقارات، ويخفّض آلاف الأميال من الرحلات التي تمر عادة عبر بنما أو السويس. وتشمل الممرات الرئيسة طريق البحر الشمالي NSR والممر الشمالي الغربي NWP، وكلاهما مرشح للاستخدام التجاري الأوسع.

موارد وفرص:

لا تقتصر المكاسب على قطاع الشحن. فالمنطقة غنية بالوقود الأحفوري والمعادن الأساسية والحياة البحرية، وقد تُمكّن الصناعات من الوصول إلى موارد بمليارات الدولارات. وعلى خلاف القارة القطبية الجنوبية لا توجد معاهدة شاملة تحمي القطب الشمالي من التنمية، ما يجعل السيطرة على الممرات والموارد عرضةً للنزاعات. وبدأ سباق لتشييد البنية التحتية الداعمة للملاحة والسيطرة عليها.

تحديات ضاغطة:

يُنقل أكثر من 90% من تجارة العالم بحرًا، وتمثل نحو 40% من الناتج الاقتصادي العالمي وفق تقديرات 2022. تاريخيًا اعتمدت الحركة العابرة للمحيطات على قناتي بنما والسويس، إلا أن تراجع الجليد يفتح فرصًا عبر الممرين الشمالي الشرقي والشمالي الغربي. مع ذلك تعوق التطوير تحديات عملية، منها قسوة ظروف التشغيل، نقص مرافق الموانئ، ضعف البنية التحتية الملاحية، محدودية خرائط القطب، وانخفاض دقة بعض أدوات الملاحة عند خطوط العرض العالية. كما يشكّل نقص الخبرة المحلية مخاطر سلامة كبيرة، ما يبرز الترابط بين البيئة والأعمال وأهمية التخطيط الاستراتيجي.

صراع جيوبوليتيكي:

فُتح طريق البحر الشمالي في الثلاثينيات على يد الاتحاد السوفيتي لكنه لم يكن موثوقًا لعبور دائم بسبب الجليد. وتعتبر روسيا أن هذا الطريق يقع ضمن مياهها الداخلية مانحةً نفسها حقوق التطوير والدوريات، بينما ترى الولايات المتحدة ودول أخرى أنه يمر في مياه دولية. وقد حدّثت موسكو أكثر من خمسين منشأة وأقامت موانئ استراتيجية لتكريس حضورها.

وتعدّ كندا الممر الشمالي الغربي مياهًا داخلية تخضع لسيادتها، في حين تعتبره الولايات المتحدة وأوروبا مضيقًا دوليًا يخضع لحرية الملاحة بموجب قانون البحار. ولا يزال عدد الموانئ قليلًا على طول هذا الممر؛ فميناء تشرشل هو الوحيد العميق التجهيز حاليًا. وتخطط الولايات المتحدة لإنشاء أول ميناء مياه عميقة في نوم بألاسكا، وتعتزم كندا بناء ميناء عميق في كيكيكتارجواك بنونافوت عند مدخل الطريق عبر القطب.

أعلنت إدارة بايدن في أكتوبر 2022 “الاستراتيجية الوطنية لمنطقة القطب الشمالي” على أربع ركائز: الأمن القومي، التنمية الاقتصادية، البنية التحتية، والبيئة، مع أولوية للأول. وفي ضوء حرب أوكرانيا شددت على حماية الوطن وضمان السلام في المنطقة وإدارة المنافسة دون قوة أو إكراه، مع التنبه لجهود الصين لزيادة نفوذها وتركيزها على المعادن الحيوية والبحوث ذات الاستخدام المزدوج.

يميل التوازن العسكري في القطب لصالح روسيا التي تملك قواعد أكثر من دول الناتو وتحدّث مدارجها وتحوز أسطول كاسحات أكبر بكثير. ورغم الحرب تواصل الاستثمار في قواتها شمالًا حيث أصول استراتيجية حساسة. كما أن أقصر مسافة لهجوم صاروخي أو قاذفة روسية على الولايات المتحدة تمر فوق القطب.

أعلنت الصين نفسها “دولة قريبة من القطب الشمالي” مطالِبة بحرية الملاحة والتحليق والبحث والصيد وتنمية الموارد. وتزايدت الشكوك حيال أنشطتها الاستخباراتية بعد حادث المنطاد الذي رُصد أولًا قرب جزيرة سانت ماثيو في بحر بيرنغ. ورغم تحفظ موسكو تقليديًا على توسع بكين لحساسية أصولها، فإن الحرب في أوكرانيا غيّرت المشهد؛ إذ أجرت سفن روسية وصينية مناورة مشتركة قرب جزر ألوشيان في ألاسكا، وحذّر خفر السواحل الأمريكي من الاقتراب لدى دخول المياه المنظمة أمريكيًا.

التداعيات الجيوسياسية:

مع ذوبان الجليد وزيادة صلاحية الملاحة قد تبرز نزاعات حول الموارد والسيادة. يُقدَّر أن القطب يحتوي نحو 13% من نفط العالم و30% من غازه الطبيعي، ما يجعله هدفًا للاستغلال أو الشراكات. كما تمنح السيطرة على الممرات امتيازات أمنية وسياحية وعلمية. وتنص المادة 234 من اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار على سلطة تنظيمية للدول الساحلية في المناطق المغطاة بالجليد معظم السنة. وقد يعقّد تقلص الجليد مطالبات السيادة ويزيد الغموض حول بروتوكولات الأمن. وقد تُستغل الممرات لأغراض غير مشروعة مثل الصيد غير القانوني والاتجار بالبشر والمخدرات.

يتعاظم كذلك تنافس الولايات المتحدة والصين وروسيا في المنطقة، وقد يدفع إلى حضور عسكري أكبر ويرفع مخاطر الاحتكاك.

الأخطار البيئية:

احتمال تسربات نفطية في بيئة نائية وقاسية يعقّد الاستجابة ويزيد الأضرار طويلة الأمد.

ازدياد الضوضاء البحرية يضر الأنواع الحساسة للصوت مثل الحيتان ويعطّل تواصلها وهجرتها وسلوكها الغذائي.

ترسّب الكربون الأسود على الجليد يسرّع الذوبان ويؤثر في الحياة البرية والنظم البيئية.

فقدان الموائل الجليدية يهدد الحيتان والدببة القطبية والفقمات وحيوانات الفظ وغيرها.

ارتفاع مخاطر الأنواع الغازية عبر مياه التوازن المنقولة بالسفن.

التداعيات على المجتمعات المحلية:

قد تحسّن الطرق الجديدة الوصول إلى الموارد والخدمات وترفع مستويات المعيشة في مجتمعات القطب النائية، لكنها قد تدفع إلى الإفراط في الاستغلال وتزيد النفوذ الخارجي. كما قد تهدد الأنشطة الملاحية والترتيبات البيئية التراث الثقافي للشعوب الأصلية وممارسات الصيد ورعي القطعان، وتفاقم تهميش اللغات المحلية.

تستلزم الزيادة المتوقعة في الحركة الاستثمار في البنية التحتية، مع ضرورة مراعاة الاستدامة وحماية النظم البيئية الهشة التي يعتمد عليها السكان.

خاتمة، أنتج ذوبان الجليد ممرات ملاحية جديدة ورفع إمكانية الوصول إلى موانئ القطب الشمالي، ويتهيأ العالم لمرحلة توسع في الحركة تشمل سفن الشحن والبحث والرحلات البحرية. ورغم جاذبية الطرق الأقصر، فهي مؤشر على تحوّل بيئي عميق يحمل مخاطر كبيرة، ويعيد تشكيل موازين الجغرافيا السياسية ويؤثر في الممرات التقليدية. يتطلب ذلك أطرًا قانونية وأمنية وبيئية أدق وتعاونًا دوليًا يقلّص المخاطر ويحقق المنافع بأقل كلفة ممكنة.

‐—-‐‐——-المراجع—–‐————————-

https://commercial.allianz.com/news-and-insights/expert-risk-articles/shipping-changing-arctic.html

https://www.sciencedirect.com/science/article/abs/pii/S0967070X2400310X

What Will Happen If New Shipping Routes Open Up in the Arctic

https://www.bradley.com/insights/publications/2023/08/melting-arctic-to-open-up-new-trade-routes-and-geopolitical-flashpoints

د. مصطفى عيد إبراهيم

خبير العلاقات الدولية والمستشار السابق في وزارة الدفاع الإماراتية، وعمل كمستشار سياسي واقتصادي في سفارة دولة الإمارات بكانبرا.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى