تطور المشهد اليمني في ضوء التغيرات الإقليمية والدولية
لم تكن الأزمة اليمنية مجرد انعكاس لصراع إقليمي أو دولي، بل هناك نظرة أعمق بكثير لهذا الصراع مرتبطة ببنية النظام الاجتماعي اليمني القائم علي البُعد القبلي والعشائري ، فهو صراع له جذور داخل اليمن ذاته بين أبناء شعبه مما كان له انعكاساته الواضحة علي الحالة السياسية والأمنية في البلاد ودائمًا ما يزيد المشهد تعقيدًا أمام الحلول السياسية للأزم ، ويستمرتعقُد المشهد في ظل التغيرات الجيوسياسية التي تًلقي بظلالها ويكون لها من التداعيات على المشهد اليمني،وهذا كله قد يجعلنا نطرح تساؤلاً عن مآلات التغيرات الجيوسياسية علي المشهد اليمني ؟
أزمة مُعقدة
شكلت الثورة الشبابية التي انطلقت 12 فبراير 2011 بداية للأزمة اليمنية حيث جاءت مع أوضاع داخلية في غاية الحساسية مع وجود الحراك الجنوبي وبروزالحوثيين وزيادة نشاط تنظيم “القاعدة” الإرهابي، فمنذ الحراك السياسي والاعتصامات التي شهدتها البلاد عقب انتهاء الحرب الأهلية عام 1994 والتي انتصر فيها الشمال اليمني على الجنوب ثم توحد شطري اليمن اندلعت مرة أخري موجهة مسلحة بين النظام اليمني بقيادة “علي عبد الله صالح ” ضد الحوثيين عام 2004 وبلغت ذروتها عام 2007، وأعقب ذلك دخول النظام اليمني في مواجهة مع تنظيم “أنصار الشريعة ” التابع لتنظيم الإرهابي بدعم من الولايات المتحدة الأمريكية عام 2010 ، ثم تلى ذلك موجات الثورات العربية أواخر عام 2010 ليبدء بذلك طورًا جديدًا في مشهد الصراع اليمني.
وأدت الأزمة إلى تفكك الجيش اليمني وانقسمت المؤسسة العسكرية بين مؤيد ومعارض لمطالب الثورة وإسقاط حكم “علي عبد الله صالح” ما مثل دليل على فشل النظام اليمني قرابة الثلاثة عقود في إصلاح النظام السياسي اليمني بل ودخوله في سلسلة من الصراعات الداخلية مع الأحزاب السياسية والمعارضة والقبائل والجماعات المذهبية داخل اليمن، مما أدى إلى زيادة حدة الصراع بين النظام والشارع خاصة من الشباب الذين أصروا على تغيير النظام بأي طريقة.
وجاء تدخل المملكة العربية السعودية بأداة الوساطة والمبادرة لاحتواء الأزمة عربيًا وإقليميًا وتم إقناع “علي عبد الله صالح” بالتنحي عن السلطة ونقلها سلميًا إلى نائبه “عبد ربه منصورهادي”، وعلى الرغم من الجهود الدولية التي سعت لاحتواء الأزمة وعدم تفاقم الصراع بين المعارضة والنظام والدفع بجميع الأطراف إلى إستكمال الحوار الوطني الشامل الذي شاركت فيه بجانب النظام والمعارضة قوى اجتماعية وسياسية أخري كالشباب، النساء، جماعة أنصار الله ” الحوثيين “، السلفيين والحراك الجنوبي، إلا أن هذه التعددية والتي جعلت من العملية الحوارية عملية تعاونية بين أطرافها المختلفة قد استغلها “صالح” وتعاون مع الحوثييين وقاد انقلابًا على السلطة والرئيس الانتقالي “عبد ربه منصورهادي”، حيث سيطر الحوثيون على مناطق شاسعة في شمال البلاد وأعلنوا رسميا سيطرتهم علي العاصمة صنعاء في 21 سبتمبر2014 ، ودفعوا الرئيس “هادي ” وحكومته إلى الإستقالة وأعلنوا حل البرلمان.
واندلعت في أعقاب ذلك دوامة من العنف المسلح تطورت في العام 2015 فحشدت المملكة العربية السعودية تحالفًا عربيًا ضد الحوثيين لإطلاق عملية “عاصفة الحزم ” وذلك بطلب من الرئيس ” هادي ” لدعم شرعيته في مواجهة تحالف الرئيس السابق والحوثيين، وكذلك رغبة من المملكة العربية السعودية لوضع حد فاصل للتمدد الإيراني في المنطقة، ومنذ ذلك الحين توالت المسارات والمبادرات المطروحة محليًا وخليجيًا وإقليميًا ودوليًا لتسوية الصراع اليمني من أهمها: مسارمسقط التفاوضي 2015-2016، ومسار أبها – الظهران الذي كان المسارالمباشرالوحيد والأول للحوار بين الحوثيين والرياض ولعبت سلطنة عًمان فيه دورالوساطة واستهدف إيجاد حل لأزمة اليمن وتبادل خلاله الطرفان عدد من الأسرى وناقشت المفاوضات خلاله الأوضاع الأمنية علي الحدود السعودية – اليمنية، ومسار ستوكهولم الذي صاحبه قرارأممي صادر بمبادرة أمريكية بريطانية في 21 ديسمبر 2018 ، حيث جرى هذا المسار في ظل وجود مرونة نسبية من جهة الرياض وطهران نحو التهدئة بما أفضى إلى اتفاق “ستوكهولم ” الذي تضمن إلزام جميع الأطراف بتسهيل حركة التجارة والملاحة وعدم عرقلة وصول المساعدات وآلية تنفيذية حول تفعيل اتفاقية تبادل الأسرى، فضلًا عن مبادرة الحديدة ومبادرة “مارتن جريفيث ” المبعوث الأممي حينها إلى اليمن مارس 2018.
وعلى الرغم من ذلك فشلت كل المحاولات لاحتواء الأزمة والصراع في اليمن وتعثرتطبيق مبادرة “مارتن جريفيث” وكذلك تطبيق اتفاق “ستوكهولم” ديسمبر2018 بين الحكومة اليمنية والحوثيين وتبادل الجانبان الاتهامات حول المسئولية في فشل تطبيق كل المسارات والمبادرات السابقة.
وأدت كل تلك التطورات المعقدة في المشهد إلى مواجهة اليمن العديد من التحديات الأساسية منها الانقسام المجتمعي، والتشظي السياسي، وتردي الأوضاع الأمنية، وانهيار المنظومة الاقتصادية وكذلك تفكك الجغرافيا السياسية للدولة وتفاقم الأزمة السياسية وهذه العوامل أدت بطبيعة الحال إلى فشل الدولة.
ويحتاجون اليمنيون إلى إنهاء العنف ووجود حكومة فاعلة بطول البلاد لاستعادة حياتهم الطبيعية وإلى طرق مفتوحة وإمكانية السفر جوًا إلى جانب رواتب مستقرة يمكن الاعتماد عليها، وإنهاء حالة الخوف من الاضطهاد، وذلك من خلال الحوار بين الحوثيين وباقي الأطراف اليمنية الأخرى للاتفاق على صيغة لتشارك السلطة وإنهاء الحرب، ولكن يشكك المحللون في مدى جدوى الحوارمع الحوثيين الذين استخدموا المفاوضات منذ عام 2014 لعرقلة العملية وتعزيز مركزهم، فقد استغلوا ارتفاع أسعار السلع الأساسية والانقسامات السياسية والاتفاقيات الدولية لصالحهم، فعلى سبيل المثال حصلت “اتفاقية ستوكهولم” لعام 2018 برعاية الأمم المتحدة على دعم كبير من المجتمع الدولي إلا أنها قد ساهمت في تجميع صفوف الحوثيين لاحقًا واستولوا على ثلاث محافظات حيوية وبدأوا بتهديد محافظة مأرب آخر معقل للحكومة في شمال البلاد.
وقد شهدت الجبهات المحلية اليمنية هدوءًا نسبيًا منذ فشل الهجوم العسكري الواسع الذي شنه الحوثيون في شتاء 2021-2022 للسيطرة علي مأرب الغنية بالنفط، واستمر ذلك الوضع بعد إبرام الهدنة برعاية أممية في إبريل 2022، فقد أدت تلك الفترة إلى خلق حالة من الاستقرارالنسبي للداخل اليمني لا سيما في المناطق الواقعة تحت سيطرة الحوثيين، فضلاً عن أن محادثات السلام بين الجماعة والمملكة العربية السعودية أدت إلى تخفيف القيود المفروضة علي حركة التجارة والتنقل واستفاد الحوثيون من تلك المحادثات ومن تفوقهم العسكري لشن حرب اقتصادية ضد الحكومة الشرعية اليمنية وفرض حصار على مصادر إيراداتها كوقف صادرات النفط والغاز وتوجيه سفن البضائع إلى الموانيء الخاضعة لسيطرتها للاستحواذ على العائدات الجمركية، لكن مع تدهور الوضع الاقتصادي نتيجة سنوات من الصراع بدأت حالة من السخط الشديد في بعض مناطق سيطرة الحوثيين في ظل عدم دفع رواتب موظفي القطاع العام ووجود متأخرات مستحقة لرواتب أكثر من 5 سنوات، وعليه دعت نقابة المعلمين اليمنيين إلي إضراب عام في أغسطس 2023 وخرج في سبتمبر من نفس العام أفراد من الشعب في احتفالات علنية بمناسبة ذكري الثورة الجمهورية التي تعد تحد لحكم الحوثيين ونقيض لانقلابهم مما دفع الحوثيون لشن حملة القمع ضدهم.
مآلات سياسية
ومع إستمرار الأزمة يرى بعض المراقبين أنه على الرغم من أن هناك عمليات تصعيد على الجبهات بين الحوثيين والحكومة الشرعية إلا أن حالة اللا سلم واللا حرب لا تزال قائمة، فاليوم يُعاني اليمنيون من أزمة إنسانية إذ لا يزال هناك مناوشات واشتباكات بين الجبهات سقط خلالها قتلى وجرحى، فكانت التصريحات الحوثية مؤخرًا مثيرة للجدل حيث أكدت بعضها على أن اتفاق الهدنة هو مجرد اتفاق على خفض التصعيد، ويرى بعض المحللين أن في هذه التصريحات تهرب من أي إلتزامات سابقة للاتفاق هذا فضلًا عن حالة التخبط التي تبدو عليها الحكومة الشرعية وردود الأفعال التي تنحصر في البيانات والتصريحات دون أي جدوى منها فمؤسستها عاجزة عن اتخاذ قرارات صارمة تخفف من معاناة اليمنيين وإنهاء الأزمة.
مآلات إقتصادية
يعيش اليمنيون وضع اقتصادي صعب يزيد من معاناتهم الإنسانية، حيث أن هشاشة الهدنة منعت الانتقال إلى مرحلة جديدة كان من المفترض أن تُمهد لاتفاق وقف إطلاق نار شامل برعاية أممية يعقُبه صرف مرتبات الموظفين الحكوميين وفتح الطرقات وتسهيل مرورهم وتنقلهم بين مدنهم التي تعقد الوصول إليها بفعل الحرب منذ عشر سنوات، وقد كثفت جماعة الحوثي ممارساتها ضد المصارف اليمنية خاصة الواقعة في مناطق سيطرتها وضاعفت انتهاكاتها ضد القطاع الخاص والسيطرة على موارد البلاد من النفط ومنع تصديره.
وتعقدت الأزمة الاقتصادية بعد إعلان البنك المركزي الخاضع لسيطرة الحوثيين عن إصدار عملة معدنية فئة 100 ريال كمحاولة للتغلب على مشاكل السيولة وتعويض العملة الورقية التالفة من نفس الفئة ما قد يؤدي بطبيعة الحال إلى تعميق الانقسام المالي بين البنك المركزي في عدن التابع للحكومة الشرعية وبنك صنعاء الواقع تحت سيطرة الحوثيين، وفي المقابل أصدرالبنك المركزي اليمني قرارًا بوقف التعامل مع 6 بنوك ومصارف تجارية لعدم تنفيذها قراره بنقل مقراتها الرئيسية من صنعاء إلى العاصمة عدن حيث اعتبر المركزي أن هذه البنوك تستمر في التعامل مع كيان مصنف كجماعة إرهابية، ويؤكد كل هذا المشهد على أن هناك حالة من الانقسام المالي ومن ثم تدهور مستمر في الاقتصاد اليمني فلا يوجد واردات ولا دخل بالدولار لعدم تصدير النفط وعدم وجود سياحة بالإضافة إلى أن السفن التي ترسو في موانيء عدن أصبحت تتجه إلي موانيء الحديدة بضغط من الحوثي وبالتالي تذهب العملات الصعبة لصالح الحوثيين.
مآلات عسكرية وأمنية
(*) التوترات الأمنية بين الحكومة والحوثيين: لم تتوقف التصريحات النارية بين الجبهات، كما أنه من المتوقع أن تتصاعد في ظل اندفاع الحوثيين نحو الحسم العسكري ورغبتهم في إخضاع الجغرافيا كاملة لسيطرتهم، ويبدو أيضًا أن الحكومة الشرعية تدرك أن الخيارات العسكرية هي الأرجح للتعامل مع الجانب الحوثي وهو ما أكدت عليه العديد من التصريحات التي جاءت على لسان بعض القيادات بالحكومة، فقد أكد رئيس مجلس القيادة الرئاسي رشاد العليمي في تصريحاته في إبريل الماضي بقوله “إن المسافة أو الطريق إلى السلام سوف يحسمها الجيش الوطني والتشكيلات العسكرية”، كما جاءت تصريحات على لسان وزير الخارجية اليمني شائع محسن الزنداني أن هناك حرص على الوصول لحل سياسي لكن الخيار العسكري للتعامل مع الحوثيين مطروح إذا استمرت الجماعة في تعنتها تجاه فرص التوصل إلي حل سياسي.
(*) تعاون الحوثيين وتنظيم “القاعدة”: يقدم الحوثيون دعمًا لتنظيم “القاعدة” الإرهابي باليمن في صراعه ضد الحكومة الانتقالية، فقد استغل الحوثيون حالة الانقسامات الحالية بالتنظيم والعمل على الضغط عليهم لاستئناف العمليات الداخلية بالجنوب من جهة وتجنب القيام بعمليات نوعية ضد الأهداف الغربية من جهة أخرى وذلك لاستفراد الحوثيين بالتصعيد بمنطقة البحر الأحمر تبعًا لما يراه المحللون، وذكرت بعض التقاريرأن الحوثيين زودوا “القاعدة” بصواريخ وطائرات مسيرة ووسائل قتالية مختلفة كما أنهم يساعدونهم بالإفراج عن شخصيات كبيرة تابعة للتنظيم من السجون في البلاد.
ويتم التعاون بين الحوثيين و”القاعدة” في نهج يحمل مخاوف لتداعيات أمنية على مستوى اليمن والمنطقة فضلًا عن أنه يرفع مستوى الضغوطات والمخاوف في الغرب على خلفية دورهم في المنطقة بسبب الحرب في غزة، ورفعت بريطانيا مخاوفها من أن زيادة دعم وتسليح “القاعدة” يمكن أن يؤدي الى قيامهم بهجمات ضد القوات الغربية في المنطقة بالتشديد على القوات البحرية التي تنشط في البحر الأحمر وخليج عدن وبنفس الوقت في هذه المرحلة ليس من الواضح قوة “القاعدة” والذي يتمركز حاليًا بشكل أساسي في الداخل اليمني.
إن هذا التواصل الجديد يمكن أن يكون مجديًا بالنسبة للحوثيين فقد يساعد في إلحاق الضرر بالحكومة الانتقالية وزيادة الضغوطات التي تمارسها سلطات الحوثيين على عدن، وتأتي كل هذه التطورات والتعقيدات في المشهد اليمني في ظل تغيرات إقليمية أتت على رأسها حرب غزة الأخيرة والتي اعتبارها الحوثيون فرصة من أجل توطيد تواجدهم وتزايد نفوذهم باليمن بشكل خاص والمنطقة بشكل عام.
تداعيات حرب غزة علي المشهد اليمني
بعد أقل من أسبوعين على بداية حرب غزة في السابع من أكتوبر 2023 بدأت التقارير ترد عن دخول الحوثيين في المواجهة العسكرية على نمطين رئيسين أولهما: استهداف السفن التي تمر من باب المندب في طريقها لإسرائيل سواء كانت إسرائيلية أو غير إسرائيلية لمنعها من استكمال رحلتها ومهاجمتها أو الاستيلاء عليها إذا لم تمتثل للأوامر، وثانيهما: هو قصف ميناء إيلات الإسرائيلي بالمسيرات والصواريخ، وقد ربط الحوثيون هجماتهم باستمرار العدوان على غزة وأعلنوا أنها لن تتوقف إلا بتوقفه وإيصال المساعدات من أغذية وأدوية لأهل غزة، واستغل الحوثيون القضية الفلسطينية خصوصًا وأنها عرضت نفسها منذ تأسيسها كاتجاه معاد لإسرائيل والولايات المتحدة واعتمدت ذلك كمبرر لامتلاكها الوسائل والأسلحة لشن هجوم على أهداف إسرائيلية أو أمريكية وعليه استغلت الانتهاكات الإسرائيلية في غزة لتصور نفسها عضوًا نشطً بـ”محور المقاومة” الذي تقوده إيران بالمنطقة، فضلًا عن تحويل الحوثيين المظاهرات التضامنية في عموم المناطق اليمنية إلى مسيرات أسبوعية ضخمة في محاولة منها لتشتيت انتباه سكان المناطق الخاضعة لسيطرتهم وتهدئة حالة السخط وعدم الرضا إزاء الأوضاع المحلية كالوضع الاقتصادي المتردي، وتستغل الجماعة أيضًا تعزيزجهود التعبئة العامة لدعم فلسطين بين جميع شرائح المجتمع بشكل يكاد يبلغ حد الاستبداد مما قد يساعد على إضفاء درجة من الشرعية لسلطة الحوثيين، حيث تقوم الجماعة في إطار ذلك بتجنيد أعداد كبيرة من المقاتلين وأصبح بإمكانها اتهام معارضيها بالتواطؤ مع إسرائيل والغرب مما يبيح سجنهم ومصادرة ممتلكاتهم وأصولهم.
وبناءًا على هذا التغير في المشهد السياسي في اليمن على ضوء تداعيات هجمات الحوثيين على حركة الملاحة وسفن الشحن جٌمدت محادثات السلام بين المملكة العربية السعودية والحوثيين إلى أجل غير مسمي وأصبحت البنود التي كانت تعد تخفيف للوضع المتدهور بعيدة المنال الآن وهذا يعد من أبرز الخسائر التي تكبدها اليمن بسبب نشاط الحوثيين، فبعدما أحرزت المحادثات الثنائية بين السعودية وجماعة الحوثي تقدمًا على مدارعام كامل وأصبح أمرًا وشيكًا الإعلان عن “خارطة الطريق” قبل بداية الهجمات في البحر الأحمر، فقد صيغت هذه الصفقة لتشمل مراحل تبدأ بخروج السعودية من مشهد الصراع يتبعه حوار بين الأطراف اليمنية واستئناف تصدير النفط والغاز وصرف مرتبات جميع موظفي البلاد والإفراج عن المعتقلين والأسرى ولكن الميليشيا الحوثية رفضت التوقيع في اللحظات الأخيرة بعدما أعلنت الموافقة عليها، وفي أواخر ديسمبر 2023 أعلن المبعوث الأممي إلى اليمن “هانس جروندبرج” التزام الحكومة اليمنية وجماعة الحوثي بمجموعة تدابير لـ”وقف شامل” لإطلاق النار في عموم البلاد وتحسين ظروف معيشة المواطنين.
وقد دعت الجماعة الحوثية في مارس الماضي السعودية إلى استئناف “عملية السلام” في اليمن وأظهر الحوثيون اعتراضهم على تعليق عملية التفاوض وصدرت تصريحات عن قادة الجماعة وعن “المجلس السياسي الأعلى” في صنعاء تُحذر السعودية والإمارات مما قالوا إنه استمرار “المماطلة”، وتطالبهما بالوفاء باستحقاقات السلام والتفاهمات التي سبق التوصل إليها، وهو ما يبدو ظاهريًا أن الجماعة قد تراجعت إلى الوراء وأنها بصدد فصل الملفات، لكن عمليًا وقفت مجموعة من الدوافع وراء ذلك منها أن تلك الدعوة جاءت عقب دخول التصنيف الأمريكي للحوثيين “ككيان إرهابي عالمي مصنف بشكل خاص” حيز التنفيذ وزيادة العقوبات والقيود الاقتصادية على الجماعة. وقد زعم الحوثيون أن هناك مخطط لاستهدافهم من قبل الولايات المتحدة والسعودية والإمارات فقامت الجماعة بمناورات عسكرية تحاكي عمليات التصدي للعمل العسكري المتوقع ضدهم.
وعلى الرغم من ذلك فقد أثارت تلك الخارطة المقترحة لعملية السلام مخاوف بشأن تداعياتها طويلة المدي حيث لا يتضح ما الذي قد يحفز الحوثيون على التنازل وتقاسم السلطة وفي نفس الوقت أي إعتراف بسلطتهم الفعلية على شمال اليمن سيعتبر نهاية الدولة اليمنية الموحدة، حيث حاول الحوثيون من خلال تلك الهجمات نشر حملة دعائية لكسب الدعم والتأييد لعملياتهم في البحر الأحمر من أجل إحكام قبضتهم على السلطة المحلية في الوقت ذاته الذي تفتقر فيه الحكومة المعترف بها دوليًا القدرة على التصدي لتلك الجماعة فزادت تلك الهجمات والرد الغربي عليها كالغارات الأمريكية – البريطانية من مخاوف تجدد العنف وحالة انعدام الاستقرار في اليمن.
(-) الموقف الأمريكي والغربي: تبنت الولايات المتحدة والغرب إجراءات تصعيدية متنوعة الأبعاد تجاه الحوثيين في اليمن لاستعادة الردع تجاههم، وبالنظر إلى طبيعة التحركات الأمريكية يتضح أنها جمعت بين البعدين العسكري والسياسي في التعامل مع الحوثيين، فعلى المستوى العسكري بدأت الخطوات الأمريكية على مستوى التعامل مع التهديد الحوثي بتأسيس تحالف “حارس الازدهار” في منطقة البحر الأحمر في 19 ديسمبر 2023، وقد أعلن البنتاجون في 21 ديسمبر 2023 عن أن أكثر من 20 دولة وافقت على المشاركة في التحالف منها بريطانيا وكندا وفرنسا وإيطاليا وهولندا والنرويج وإسبانيا والبحرين وسيشل واليونان وأستراليا.
وعلى المستوى السياسي أعادت إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن في 17 يناير 2024 تصنيف جماعة الحوثي كتنظيم إرهابي في خطوة بدى أنها تستهدف الضغط على الأخيرة لتحقيق جملة من الأهداف وعلى رأسها وقف التصعيد الحالي في منطقة البحر الأحمر.
وأشار العديد من المسئولين الأمريكيين إلى أن الإدارة تسعى من وراء تصنيف الحوثيين منظمة إرهابية لتحجيم القدرات التسليحية والاقتصادية للحوثيين وإبعادهم عن إيران، فضلًا عن الضغط عليهم من أجل تغيير سلوكهم ومساومتهم من أجل التوقف عن هجماتهم في البحر الأحمر.
وعلى الرغم من ذلك فإن الإجراءات الأمريكية المتنامية ضد الحوثيين والتي جمعت بين البعدين العسكري والسياسي لم تتمكن من تحقيق الردع المطلوب، فلا يتراجع الحوثيون تحت هذا الضغط ويستمرون في القيام بمزيد من الهجمات في البحر الأحمر.
(-) الموقف الإيراني: نددت إيران الداعم الرئيسي للحوثيين بهجمات الولايات المتحدة وبريطانيا التي استهدفت معاقل الحوثيين في اليمن ولكنها قامت أيضًا بسحب قطع بحرية لها من البحر الأحمر، فسعت بتلك الخطوة إلى التأكيد بشكل عملي أنها بعيدة عن التدخل لمساندة الحوثيين بعد اندلاع الهجمات ضدهم فقد تجنبت اتخاذ أي رد فعل على الهجمات ضد الحوثيين منعًا للدخول في مواجهات مباشرة مع القطع البحرية الأمريكية والغربية في البحر الأحمر واكتفت بالتنديد بالهجمات ضد الحوثيين، حيث حذر المندوب الإيراني في الأمم المتحدة من أن “أي دولة تشارك في العدوان العسكري على اليمن قد تُعرض نفسها للخطر”.
ومن جهة أخرى فإن التصريحات الصادرة عن المسؤولين الإيرانيين أصبحت بعد ذلك تؤكد أن الحوثيين يتصرفون بناءًا على قراراتهم وإمكاناتهم وأن طهران ليست مسؤولة عن ممارساتهم، وكان من بين تلك التصريحات ما أدلى به نائب وزير الخارجية الإيراني حينها “علي باقري كني” في نهاية ديسمبر 2023 في مؤشر على رغبة إيران في التنصل من أي مسؤولية عن تصرفات الحوثيين قد تسفر عن رد فعل غربي ضدها.
وقد فعلت إيران مبدأ الصبر الإستراتيجي حيث أصدر المرشد “علي خامنئي ” تعليماته إلى القادة العسكريين باتباع هذا المبدأ في التعامل مع الولايات المتحدة وتجنب إدخال إيران في مواجهة مباشرة معها بأي ثمن، وهذا كله لا يمنع من الدعم المستمر والمتبادل بين الطرفين فقد جاء على لسان أحد المسؤولين الحوثيين في مايو الماضي خلال المعرض الدولي الـ35 للكتاب في طهران وصف المرشد الإيراني (علي خامنئي) بـ”قائدنا”، ويرى المحللون أن السياسة الإيرانية ثابتة لا تتغير بتغيرالقادة ومن ثم فإن وفاة الرئيس الإيراني “إبراهيم رئيسي” وانتخاب رئيس جديد لن يؤثر في الاستراتيجية الإيرانية الثابتة التي تركز على التوسع الإقليمي بالمنطقة والتي يعد الحوثيون أداة من أدوات تنفيذها.
فرص وتحديات التسوية
بالنظر إلي رأي المحللون نجد أن الجماعة الحوثية تشير إلى “عملية سلام” وليس “خارطة طريق” في اليمن وهنا ثمة فارق بين الحالتين فالأولى قد تتعلق بالمفاوضات الحوثية على المستوى الثنائي مع الرياض بينما تشيرالحالة الثانية إلى عملية تسوية سياسية شاملة مع مختلف القوى اليمنية وهي نقطة لا تزال بعيدة نسبيًا في المرحلة الحالية، فوفقًا لإحاطة المبعوث الأممي “جروندبيرج” في مجلس الأمن يوم 13 مايو 2024 والتي أبرزت جملة من التحديات والتي سبق أن تناولتها الإحاطات السابقة كالوضع الهش بالمنطقة وتهديدات الحوثيين المستمرة بتوسيع نطاق الهجمات، وكل هذا يعد استفزازًا مقلقًا فاستمرار هذا الوضع الإقليمي يؤدي إلي تعقيد قدرة الأمم المتحدة والمجتمع الدولي على تحقيق تقدم في اليمن وكذلك الوضع المقلق بالداخل اليمني كاستمرار الأنشطة العسكرية كالقصف ونيران القناصة والاشتباكات المتفرقة والهجمات بطائرات مسيرة وتحرك القوات في مناطق متفرقة وزيادة العنف والمخاطر الجسيمة ضد المدنيين في ظل غياب الحل عن الوضع الراهن وتهديدات الأطراف بالعودة إلى الحرب، فالجماعة الحوثية لا تريد الالتزام بترتيبات داخلية في المرحلة الحالية، وقد شنت مؤخرًا هجمات على العديد من الجبهات في اليمن (مأرب وشبوه والجوف)، وبالتالي قد تعود إلى تحويل فائض استخدام القوة من البحر الأحمر إلى الداخل لإعادة صياغة موازين القوى قبل الانخراط في عملية تسوية سياسية يكون لها استحقاقات مختلفة.
وتتطلب التسوية الشاملة وجود سلطة موحدة، فهذا يعني احتكارالدولة لأدوات القوة ومن ثم القرار السيادي وبالتالي لا يمكن استمرار الحوثيين في الانفراد بقرارالحرب وهنا تظهر إشكالية تتعلق بالتعامل مع السلاح الحوثي وصعوبة مشاركته مع باقي الأطراف، فعندما كان التفاوض جاريًا على أساس التوصل إلى “خارطة طريق” قبل إندلاع حرب غزة أقامت الجماعة الحوثية عرضًا عسكريًا هو الأكبر من نوعه منذ استيلائها على السلطة وكان الهدف هو أن الجماعة لن تفاوض على سلاحها بل توظفه كورقة في عملية التفاوض ووفق رغباتها المستقبلية دون إخضاعه لمؤسسات الدولة الشرعية.
وفي ظل الوضع الحالي لا يزال وجود مشروع وطني جامع للقوى السياسية غائبًا حتى لو تم الاتفاق على إطار سياسي برعاية أممية وإقليمية وفرص تنفيذه على أرض الواقع ستظل غير ممكنة على الأقل في المدى المتوسط.
وبالنظر للمواقف الخليجية، تعوّل السعودية -الطرف الأكثر حرصًا على إنجاح جهود السلام في اليمن- على الخبرة التي راكمتها الدبلوماسية العُمانية في معالجة الملف اليمني وكذلك احتفاظ مسقط بعلاقات وثيقة مع أبرز الفاعلين في هذا الملف بمن في ذلك الحوثيين وإيران لتحقيق المسار السلمي، خاصة بعد أن كان قد حقّق تقدّمًا في وضع خارطة طريق لتفاهمات بشأن الجوانب الإنسانية والاجتماعية والاقتصادية ممهّدة للدخول في ترتيبات عسكرية وسياسية أكثر جدّية. وقد لعبت سلطنة عُمان دورًا مفصليًا في تقريب الهوّة بين السعودية والحوثيين وصولًا إلى الجمع بين ممثلي الجانبين في اجتماعات جرت في كلّ من صنعاء والرياض.
وتشارك كلّ من الولايات المتّحدة ومنظمة الأمم المتّحدةُ، السعوديةَ، تطلعها إلى أن تلعب عُمان بما لها من علاقات مع طهران وصنعاء دورًا في الدفع نحو تهدئة الأوضاع في اليمن وتهيئة الأوضاع لإطلاق مسار سلمي في البلد بدا للحظة أنّه يبتعد ويتوارى تحت ركام الأحداث المتسارعة.
ويرى المراقبون أنه ليس من مصلحة السعودية في الوقت الراهن عودة الاقتتال إلى الجبهات اليمنية مجددًا خاصة في وجود هدنة بينها وبين الحوثيين، فتسعى المملكة إلى أن يستمر الهدوء والعمل على حلحلة الملف اليمني.
وعلى صعيد الموقف الإيراني، نجد أن تصريحات مسؤولي إيران تؤكد استعداد بلادهم لدعم أي مبادرة سلام تكون قائمة على إنهاء الحرب ووقف شامل لإطلاق النار ورفع ما يسمونه بـ”الحصارالاقتصادي” وهو الموقف الذي تتبناه جماعة الحوثي، وبالتالي فإن سعي إيران لوقف الحرب في اليمن ومن ثم فتح الموانئ والمطارات والاعتراف بالحوثيين كسلطة أمر واقع مما يرسخ من التواجد الحوثي باليمن وإعطائه الشرعية وهذا موقف بعيد عن تحقيق سلام فعلي بالبلاد، ومن ثم يخدم ترسيخ للنفوذ الإيراني باليمن.
سيناريوهات مستقبلية
أخذت عملية السلام والوصول إلى حل للأزمة اليمنية مسار مضطرب ومتعثر خاصة وأن عملية السلام مرهونة بالمشهد الجيوسياسي المحيط به، وحسب محللين هناك مجموعة من السيناريوهات المستقبلية المحتملة للمشهد اليمني في ظل التغيرات الإقليمية والدولية الراهنة:
(&) استمرار الجمود: فمن الممكن أن يستمر الوضع كما هو عليه من جمود وتعليق المفاوضات، في ظل استمرار الظروف الإقليمية والدولية الراهنة والمتلاحقة خاصة الحرب في غزة وما يترتب عليها من هجمات الحوثيين على البحر الأحمر وتأثر خطوط الملاحة، إلى جانب أن الحرب الروسية الأوكرانية تُسهم في استمرارالجمود وتصرف أنظار الإقليم والمجتمع الدولي بعيدًا عن الملف اليمني، وهذه الحالة ستكرس للأزمة الإنسانية وبسببها سيبقى النسيج الاجتماعي والسياسي لليمن متأرجح على حافة التفكك السياسي والطائفي والقبلي، فتوقف محادثات السلام لوقت طويل لا يضمن السلام بل قد ينتهي الأمر بالعودة إلى العنف ومع غياب السبل الدبلوماسية تلجأ الجهات الفاعلة على الأرض إلي القوة لتحقيق أهدافها.
(&) استئناف المفاوضات: قد تستأنف المفاوضات من جديد وهذا سيحدث في حال تغيرت الظروف التي دفعت للجمود كانحسار الأعمال العدائية الإقليمية وعلي رأسها الحرب في غزة والهجمات الحوثية علي الملاحة، كما يتطلب هذا أيضًا بقاء مواقف الأطراف المعنية بالمفاوضات على حالها كما كانت قبل أكتوبر 2023، وعليه سيتم استئناف محادثات السلام من حيث توقفت حينها وتبنى على التفاهمات التي سبق التوصل إليها بين المملكة العربية السعودية وجماعة الحوثي، أما في حالة حدوث تغير أو تعديلات في مواقف أطراف الصراع فلن تمضي تلك المفاوضات من حيث توقفت العام الماضي ولن تمضي بنفس الوتيرة التي كانت عليها حينها.
(&) عودة الصراع: من الممكن العودة إلى الحرب وانهيار عملية السلام في حالة وصول أحد أطراف الصراع إلى قناعة بعدم جدوى جهود مفاوضات السلام خاصة في ظل الظروف الراهنة أو إطالة أمد المفاوضات وطول فترة جمودها، فمن الممكن أن تقوم جماعة الحوثي بعمل عسكري ضد السعودية والإمارات لعودة المفاوضات من جديد، حيث كرروا مؤخرًا مزاعمهم أن تحالفًا عسكريًا بين أمريكا والسعودية وإسرائيل والإمارات يتجهز لمهاجمتهم، مما قد يدفعهم لاتخاذ ضربات تستهدف مواقع هامة لخصومهم كاستهدافهم البوارج الحربية الغربية والتسبب بخسائر بشرية ومادية كبيرة.
وختامًا ففي ظل التعثر الدائم لمحاولات التفاوض لإنهاء الأزمة وإحلال السلام بالبلاد، وأيضًا في ظل التغيرات الإقليمية والدولية المتلاحقة والتي ترمي بظلالها على اليمن يزداد المشهد تعقيدًا ويشوبه الضبابية والجمود الذي يؤجل حل الأزمة وستزداد الأوضاع السياسية والاقتصادية والأمنية في الداخل اليمني سوءًا، ففي النهاية هذه الصراعات السياسية لم يتضررمنها تضررًا حقيقيًا ولا يدفع ثمنها سوى الشعب اليمني الذي عانى وما زال يعاني الكثير في ظل الأزمة التي قد تُنذر بكارثة إنسانية.