إلى متى تستمر العملية العسكرية التركية في شمال سوريا؟
مع تزايد الحديث عن عملية عسكرية تركية جديدة مرتقبة في الشمال السوري، والتكهنات التي أثارها البعض عن موعد ونطاق العملية، لا يبدو أن انقرة اتخذت قرارها النهائي بتنفيذ الاجتياح البري في شمال سوريا حتى الآن، في ظل المحادثات الجارية في تركيا بين مسؤولين أتراك وروس وأمريكان، للتوصل إلى حل سياسي معقول ومرضي للأتراك.
وفي هذا الإطار، يناقش هذا التحليل مدى إمكانية أن تتراجع تركيا عن قرارها بشن عملية عسكرية برية في الشمال السوري، والبدائل المحتملة في هذا الشأن، ومدى التنازلات التي قد تقدمها موسكو وواشنطن لإثناء أنقرة عن قرارها.
حتمية التنفيذ:
ثمة مجموعة من العوامل تجعل أنقرة متمسكة بتنفيذ عمليتها العسكرية في شمال سوريا بشكل جدي – إلا بحل سياسي مرضي لأنقرة – وليس على غرار المواقف التركية السابقة في هذا الشأن، ومن أهم هذه العوامل:
- وجهة نظر استراتيجية، ترى من خلالها أنقرة ان العمليات العسكرية التي نفذتها في السابق في شمال سوريا لم تحقق الأهداف المرجوة منها بالتحديد، إذ أنها بحاجة إلى الاستكمال، حتى تنجح في الأخير في منع إقامة كيان سياسي لحزب العمال الكردستاني على الحدود، وإبعاد المجموعات الانفصالية – على حد وصف أنقرة – والمسلحة عن حدودها حتى عمق ٣٠ كم. ومن ثم يتم إنشاء منطقة آمنة للسوريين الذين يرغبون في العودة إلى بلادهم.
- تفجير اسطنبول الأخير، الذي جعل من العملية العسكرية في شمال سوريا بمثابة ضرورة ملحة ردًا على التفجير في أرض الميدان، خاصة بعدما أثبتت التحقيقات التي أجرتها المؤسسات المعنية في تركيا تورط عناصر حزب العمال الكردستاني في التفجير، حتى تثبت جدية أنقرة في محاسبة المتورطين، وفي الوقت ذاته ستوجه تركيا رسالة ردع لمنع هجمات جديدة عليها.
- تزايد التأييد الداخلي لتنفيذ العملية العسكرية في شمال سوريا، حتى أنه تخطى مجرد التأييد الشعبي لقرار سياسي من الحكومة، بل وصل إلى درجة المطالبة الشعبية والحزبية بعملية برية جديدة، وهو أمر محرج سياسيا بالنسبة لأردوغان خصوصًا وهو على أعتاب انتخابات رئاسية وتشريعية في العام المقبل، وبالتالي ستصبح حسابات العملية العسكرية أكثر جدية وحساسية بالنسبة لأردوغان.
- مواقف الأطراف الدولية المعنية بالأزمة السورية، التي أضحت أكثر تفهمًا هذه المرة للدوافع التركية، خاصة في ظل المنافسة الأمريكية الروسية على كسب تركيا إلى جانبها في الفترة الأخيرة، وبعد تفجير اسطنبول الذي استهدف مدنيين، مما وضع القوى الدولية في موقف حرج أمام أنقرة. الأمر الذي قد يدفع هذه القوى إلى محاولة استرضاء تركيا وتفهم موقفها وهدفها من تنفيد عملية عسكرية جديدة في شمال سوريا، أو محاولة استرضائها بحل سياسي مغري ومقنع بالنسبة للأتراك، خاصة وأن أردوغان سيظل متمسكا بأحد الخيارين ( السياسي أو العسكري ) وبالتحديد في ظل حضور العامل المحلي الضاغط بقوة عليه وحزبه.
مطالب تركية:
لا يبدو أن انقرة هذه المرة لديها نية للتراجع عن تحقيق وضع أمنى يكفل لها إبعاد الأكراد عن حدودها. إلا أن الاجتياح البري لمناطق حزب العمال الكردستاني في الشمال السوري قد لا يكون هو الخيار الوحيد المرضي لأنقرة، بالنظر إلى خيار مكلف جدًا من الناحية المادية والبشرية. كما أن تركيا نفسها قد لا تفضل الانشغال بسوريا في ظل الحرب الأوكرانية التي لازالت تحاول أنقرة الاستفادة منها بشتى الطرق.
فتركيا لا يهمها الاجتياح البري في حد ذاته بقدر ما يهمها تفادي هجمات الأكراد على أراضيها، وتحجيم نفوذهم في شمال سوريا، ومن ثم إبعادهم عن المناطق الحدودية مع تركيا. ولهذا فإن ضمنت تحقيق مطالبها من قبل الولايات المتحدة وروسيا فإنها قد لا تضطر إلى اللجوء إلى العملية العسكرية، خاصة وأن المساومات على طاولة المفاوضات احتدمت بين واشنطن وموسكو وأنقرة في إطار المحادثات التي تستضيفها الأخيرة.
ووفقا لمسؤول تركي، فإن أنقرة حددت مجموعة من المطالب لكل من روسيا والولايات المتحدة، أبرزها:
- إخراج قوات سوريا الديمقراطية من منبج وتل رفعت وعين العرب كوباني، وأعطت تركيا مهلة أعلنت انها لن تمددها، والبديل لها سيكون عملية عسكرية ضد القوات الكردية.
- كما طالبت أنقرة بقطع علاقات واشنطن مع عناصر حزب العمال الكردستاني، إلا أنه واقعيا من المستبعد أن تتخلي واشنطن عن الحليف الكردي، باعتباره ورقتها السياسية الرابحة التي تستخدمها في مواجهة الجميع.
- واشترطت أيضا إنهاء سيطرة عناصر العمال الكردستاني على المنشآن النفطية في سوريا.
- كما اشترطت عودة مؤسسات النظام السوري بديلا عما يُعرف بـ ” قوات سوريا الديمقراطية “، بما فيها القوات الأمنية وحرس الحدود.
مساع أمريكية روسية:
فصانع القرار التركي يريد وضع اللاعبين المحليين والإقليميين والدوليين في سوريا أمام خيارين؛ إما الاجتياح البري، وإما إعطاء تركيا ما تريده. ويبدو أن فرص الحل السياسي أكثر من الحسم العسكري، ولكن أنقرة تريد أن تخرج ما يرضيها من عروض من جعبة واشنطن وموسكو اللاتي قدمتا حلولا لأنقرة، أهمها:
عرض أمريكي: حيث عرضت واشنطن مقايضة بين تركيا وروسيا حول خط منبج _ كوباني في مقابل تقدم قوات نظام الأسد إلى المنطقة الحدودية بعد انسحاب عناصر قوات سوريا الديمقراطية منها. كما اقترحت تخلى أنقرة عن فكرة الاجتياح البري مقابل تعهد أمريكي بإعادة هيكلة قوات سوريا الديمقراطية، وتحديد أهدافها ومشروعها في سوريا. خاصة وأن الإدارة الأمريكية عرضت أن يتم تغيير أسماء تتحفظ عليها أنقرة في الإدارة العليا لقسد، وأن تتم زيادة المكون العربي في تل رفعت ومنبج وعين العرب كما تريد تركيا، مقابل العدول عن تنفيذ العملية العسكرية.
ولكن تركيا اشترطت إنهاء سيطرة قوات سوريا الديمقراطية على المنشآت النفطية قبل النظر في المقترحات الأمريكية.
حلول روسية في المقابل: فقد تعهدت روسيا بدعم تركيا في موضوع شمال سوريا ميدانيا من خلال رفع يد روسيا عن منطقة الشهباء في ريف حلب لتسهيل دخول القوات التركية، وهي منطقة تحتوي على دوريات روسية. وسياسيا من خلال التأكيد على دعم روسيا للمسار السياسي في سوريا فيما يتعلق بخريطة الدستور وإجراء الانتخابات. خاصة وأن أنقرة تخطو خطوات جدية نحو تطبيع العلاقات مع دمشق، كان آخرها الآلية الثلاثية بين أنقرة وموسكو ودمشق التي اقترحها أردوغان منذ أيام.
ووفقا لمصادر تركية، فإن روسيا عرضت انسحاب قوات قسد من عين العرب ومنبج شمالي سوريا. واقترحت أيضا الإبقاء على قوات حرس حدود تابع للمسلحين الأكراد ” الأسايش ” ودمجها مع المؤسسة الأمنية للنظام السوري. وكان الوفد الروسي قد أبلغ نظيره التركي خلال مشاورات جرت في مدينة إسطنبول بموافقة قسد على المقترح، شريطة العدول عن تنفيذ العملية العسكرية.
ولكن ذلك، في مقابل شروط وضعتها موسكو خاصة بالملف الأوكراني لتقديم أية تنازلات في سوريا، ومنها استمرار الجهود التركية الدبلوماسية في الحرب الأوكرانية، وأيضا استمرار المسار التفاوضي الذي تسعى إليه موسكو.
وختامًا، يبدو أن الحل السياسي سيكون هو الحل الأقرب والأنسب بالنسبة لجميع الأطراف، وفي مقدمتهم تركيا، التي من المؤكد أنها ستستغل المساع الروسية والأمريكية للوصول إلى تسوية مرضية، سيقدمها أردوغان للرأي العام كانتصار سياسي له وحزبه، ومن ثم سيعيد تركيز جهود بلاده صوب تطورات الحرب الأوكرانية.
وفي أسوأ الأحوال، حال لم يتم التوصل إلى اتفاق سياسي قد تقدم أنقرة فعلا على عملية عسكرية في الشمال السوري، ولكن سيظل الخلاف على نطاق هذه العملية، فلا واشنطن ولا روسيا ستقبلان بأن تمس العملية العسكرية مناطق نفوذهما، ولهذا قد تكتفي أنقرة بعملية عسكرية محدودة فقط لحفظ ماء وجهها. ولكن يبقي قرار اللجوء إلى الاجتياح البري في حد ذاته الحل الأخير بالنسبة للأتراك في ظل وجود تنازلات مغرية من قبل واشنطن وموسكو.