هل تفسر النظرية الواقعية الحرب الروسية الأوكرانية؟

في فبراير 2022 توغلت القوات الروسية داخل الأراضي الأوكرانية من عدة جهبات، وقصفت كييف العاصمة وخاركيف، مما أدْخل أوروبا في أسوأ أزمة أمنية تتعرض لها منذ عقود، كما أدت الحرب إلى تدفق غير مسبوق للمساعدات العسكرية لأوكرانيا، وعقوبات اقتصادية على روسيا من حلف شمال الأطلنطي والحلفاء الغربيين.

وكانت روسيا قد حذرت من خلال حشد ما يقرب من مائة ألف جندي على حدود أوكرانيا لعدة أشهر، وطالبت بعدم تمدد الناتو في أوروبا الشرقية، ومن منظور ليبرالي يؤكد على المعايير الديمقراطية والقانون الدولي وحقوق الإنسان، كان من الصعب الدفاع عن هذا الإجراء الروسي، ولكن من منظور النظرية الواقعية في العلاقات الدولية كان هناك العديد من الأسس الواقعية التي يمكن أن تُفَسر المنطق الذي اعتمدت عليه روسيا في حربِها ضد أوكرانيا، حيث المشكلات الأمنية، والأمن الجغرافي، ومحاولة استعادة مجال النفوذ، وتنفيذ استراتيجية واقعية هجومية، والتمرد على النظام الدولي الليبرالي الذي تقوده الولايات المتحدة الأمريكية، وكذلك نظرية الحرب التضليلية.

فما هي النظرية الواقعية في العلاقات الدولية ومبادئها الأساسية؟ وكذلك ماهي الأسس الواقعية للحرب الروسية الأوكرانية وما هو الدور الذي لعبته الولايات الولايات المتحدة الأمريكية في دفع روسيا إلى مهاجمة أوكرانيا؟

النظرية الواقعية والأسس والمبادئ التي تقوم عليها:

الواقعية هي إحدي النظريات الرائدة في دراسة العلاقات الدولية، وقد نشأت على يد مفكرين مثل ثوسيديدس ومكيافيللي وهوبز، وأعاد مفكري القرن العشرين أمثال إي إتش كار وهانز مورجنثاو وكينيت والتز صياغاتها، وتفترض أن السياسة الدولية تتميز بالفوضي والصراع بين الدول القومية صاحبة السيادة في سعيها لتحقيق مصالحها القومية.

وتقوم تلك النظرية على أن الدول هي الجهات الفاعلة الأساسية، ووحدات التحليل في النظام الدولي الفوضوي، مع عدم وجود سلطة فوق وطنية، ووفقًا للنظرية تمتلك جميع الدول قدرات عسكرية هجومية مما يجعلها تُشكل تهديدًا لبعضها البعض، ولا يمكنها أن تَتَيْقن من نواياها وتصرفاتها في المستقبل، مما يؤدي إلى عدم الثقة، والتخطيط لأسوأ السيناريوهات، ويكون بقاء تلك الدول هو الدافع الرئيسي في البحث عن مصالحها، وعلى الرغم من أهمية العوامل الاقتصادية والثقافية، فإن القوة العسكرية لها الأولوية، ولا تثق في المثل العليا مثل السلام العالمي أو التعاون الدولي، فهي تؤكد على البراجماتية أكثر من المبادئ والأخلاق، وتفترض أن الدولة سوف تتصرف بشكل انتهازي عندما تتطلب مصالحها ذلك، وأن القدرات العسكرية والاقتصادية وسيلة لزيادة أمنها وقوتها النسبية في عالم فوضوي.

ويركز مُنَظْروها أمثال هانز مورجنثاو الذي يُعد أحد أهم مفكري القرن العشرين، وأحد أعظم المفكرين الواقعين في كل العصور، على الطبيعة البشرية لنُخَب صُنع القرار في محاولتها تفسير العلاقات الدولية، ويجادلون في أن السياسة تحكمها موضوعية متجذرة في الطبيعة البشرية، فالقوة هي العامل الأكثر أهمية في العلاقات الدولية، فطبيعة هيكل النظام الدولي يتم تشكيله من خلال التنظيم والفوضى وتوزيع القدرات التي تقاس بعدد القوى العظمى داخل النظام الدولي.

وداخل المدرسة الواقعية الجديدة توجد مدرستان فكريتان، فالواقعية الدفاعية ورائدها كينث والتز ترى أن الدول تهدف فقط إلى الحفاظ على توازن القوي من أجل البقاء، وأن البنية الفوضوية للنظام الدولي تدفع الدول إلى الحفاظ على سياسات معتدلة ومتحفظة لتحقيق الأمن، وأن التوسع العدواني يؤثر في رغبة الدول في التوافق مع نظرية توازن القوى، وبالتالي الهدف الأساسي للدولة هو الأمن، أما مدرسة الواقعية الهجومية ورائدها جون ميرشايمر فترى أن الدول تبحث باستمرار عن فرص للهيمنة وتحقيق مكاسب نسبية طالما كان ذلك ممكنًا، وأن الدول تسعى إلى تعظيم قوتها ونفوذها لتحقيق الأمن من خلال الهيمنة، وأنه من خلال خلق اختلال في توازن القوي لصالحها فقط يمكنها تعظيم أمنها، حسب ما جاء في مرجعه “مأساة سياسات القوى العظمى” الذي أصدره عام 2017.

الأسس الواقعية للحرب الروسية الأوكرانية:

تشترك روسيا وأوكرانيا في حدود طولها 1500 ميل، وكانت أوكرانيا جزء من روسيا حتى عام 1991، وأن احتمال تحالف أوكرانيا عقب استقلالها مع الغرب والاندماج في حلف الأطلنطي تهديد وجودي للأمن القومي الروسي لا يمكن قبوله كما ترى موسكو، وترى النظرية الواقعية أن التحالف بين أوكرانيا وحلف شمال الأطلنطي يُتيح نشر الأسلحة الهجومية بالقرب من حدودها، كما يُهدد وصولها إلى البحر الأسود، وحسب البنية الأساسية للنظام الفوضوي، أحد أسس النظرية الواقعية فلا يمكن للدول أن تَطْمَئن إلى نوايا وأفعال الدول الأخرى في المستقبل، فعند عمل الدولة على ضمان أمنها وتعزيزه فإنها تُقَوض أمن دولة أخرى، فلا يمكن لأي دولة التأكد من أن الدول الأخرى لن تستخدم قدراتها الهجومية للعدوان عليها، لذلك فإن كل دولة مضطرة لاستخدام كافة الوسائل لضمان بقائها كما يرى ميرشايمر، ومن هذا المنظور يمكن تفسير الحرب الروسية الأوكرانية باعتباره خطوة وقائية لتهديد استراتجي وشيك حسب رؤية موسكو.

وحسب النظرية الواقعية تسعى الدول إلى مناطق نفوذ أو مناطق عازلة لتعزيز أمنها، وأن جميع القوي العظمي في التاريخ بما في ذلك روسيا سعت إلى السيطرة على المناطق المجاورة من خلال الحفاظ على العلاقات التي تتماشى مع مصالحها، لذلك فنظرة روسيا إلى أوكرانيا بموقعها الجغرافي الاستراتيجي بينها وبين أوروبا باعتبارها بالغة الأهمية في مجالها الحيوي، وكانت روسيا مدفوعة إلى الحرب لإعادة تأسيس توازن مناسب للقوى، والترتيبات الأمنية، والدول العازلة على أطرافها، واعتبرت موسكو أن انضمام أوكرانيا إلى الناتو واستضافة قوات هجومية بمثابة خطوة بالغة الخطورة على الأمن القومي والنفوذ الروسيين.

وعكست الحرب في أوكرانيا استراتيجية محسوبة من الواقعية الهجومية، ومحاولة الاستفادة من الفرصة السانحة والمتمثلة في ضعف أوروبا لإعادة رسم مناطق النفوذ في أوروبا، خاصة الشرقية والدول التي كانت تدور في فلكها مثل إستونيا ولاتفيا وليتوانيا وبيلاروسيا وجورجيا وأوكرانيا، والتي كثيرًا ما تَحَسْر بوتين على خسارتها بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، ويأمل أن يثبت للغرب أن روسيا ما تزال قوة عظمى.

ويُرجع بعض الواقعيين أن الحرب على أوكرانيا هي عمل ضد النظام الدولي الليبرالي الذي تهيمن عليه الولايات المتحدة الأمريكية والذي نشأ بعد الحرب الباردة، حيث عَبّرت روسيا عن رفضها لحصارها المتصور من قبل حلف الناتو، بل واعتبرت ذلك عدم احترام وتجاهل لمصالحها بأوكرانيا ومناطق نفوذها، بسبب استمرار الولايات المتحدة وحلفاءها في التوسع بطرق هددت مصالحها الاستراتيجية، وفي نهاية المطاف قررت روسيا أنها بحاجة إلى هدم النظام العالمي، واستخدام القوة لإعادة ترسيخ نفسها كقوة عظمى قادرة على ممارسة النفوذ في محيطها، كما أنه ليس لروسيا بوتين أي رغبة أو نية للدخول في عالم تديره وتقوده الولايات المتحدة، وتريد بدلًا من ذلك عالمًا متعدد الأقطاب، فمن لا يشتاق إلى الاتحاد السوفييتي لا قلب له، حسب تعبير الرئيس بوتين.

أما الحرب التضليلية فإن مفادها أن القادة قد يشنون حربًا أو صراعًا خارجيًا لتحويل انتباه الرأي العام الداخلي للتغطية على السياسات التي لا تحظى بشعبية، اعتمادًا على ممارسة القادة الروس لتلك السياسة، من غزو ستالين لفنلندا عام 1939 إلى حروب بوتين في الشيشان وجورجيا عام 2008، فقد واجه الرئيس بوتين مجموعة من التحديات الداخلية مثل الأزمة الاقتصادية مما زاد احتمالات حدوث اضطرابات داخلية، ولذلك من الممكن أن تكون الحرب في أوكرانيا محاولة لكسب الشعبية من خلال استحضار التاريخ واللعب على وتر القومية الروسية، تزامن ذلك مع مخاوف قديمة من أنه إذا لم تؤكد روسيا سيطرتها على مناطق النفوذ السابقة فإن نظام الرئيس بوتين بالإضافة إلى مكانة روسيا سوف يَضْعُفان.

كيف دفعت الولايات المتحدة روسيا للحرب في أوكرانيا؟

منذ بداية الحرب في أوكرانيا انقسم الغرب إلى قسمين في تفسيرها، حيث رأى أحدهما أنها مجرد مخطط كبير لبوتين لإحياء الإمبراطورية السوفيتية ولا علاقة لحلف الأطلنطي، أما القسم الآخر يُصورها بمثابة رد الرئيس بوتين على السياسات الغربية المتهورة بتوسيع حلف الناتو إلى مناطق نفوذ روسيا، ولكن كلا الرأيين تجاهلا الاتجاه السائد في خطاب السياسة الخارجية لأمريكا الذي بالغ بشكل منهجي في تصوير روسيا باعتبارها إمبراطورية للشر، وأنها بقايا قديمة لقوة مهيمنة عالميًا، وأنه ليس لقِيَمِها ومُمَارساتها السياسية مكانًا في النظام العالمي الجديد،مما ساعد جزئيًا في استفزازها ودفعها إلى مهاجمة أوكرانيا، وفي بداية الحرب سارعت قطاعات كثيرة في مؤسسة السياسة الأمريكية ووسائل الإعلام الرئيسية إلى تصويرها باعتبارها محاولة من بوتين وأصدقاءه في الكي جي بي لإحياء الاتحاد السوفييتي، وأنه مستبد يخشي الديمقراطية، ويعمل على تقويضها في جميع أنحاء العالم خاصة الدول التي تقع في مناطق نفوذ روسيا، وأن مخططه لا يتوقف على أوكرانيا فقط بل سوف يستمر لاستعادة دول الاتحاد السوفييتي السابق، ويجب أن يكون رد الغرب قويًا قبل أن يتمكن من تحقيق ذلك،كما صورت السياسة الامريكية الرئيس بوتين بأنه شخص غيّر عقلاني له أهداف إمبريالية، على الرغم من أنه وخلال سنوات حكمه أظهر بوتين غير ذلك، فقد ورث دولة ضعيفة وضعها في طليعة السياسة الدولية، وأدخل العديد من الإصلاحات الاقتصادية والسياسية، وتحولت روسيا في السنوات الاخيرة إلى دولة حديثة تتمتع بقدرات سيبرانية متطورة، بل سعى إلى التقارب مع الولايات المتحدة بعد هجمات الحادي عشر من سبتمبر 2001، ويلوم ميرشايمر الغرب عمومًا والولايات المتحدة خاصة على الحرب في أوكرانيا لأنها سعت إلى التوسع الخطير لحلف الناتو ليشمل دول النفوذ الروسي بل وجيران روسيا المباشرين، وفشلت في احترام مجال النفوذ الروسي والمخاوف الأمنية، بل وانتهاك المبدأ الذي اتبعته الولايات المتحدة والذي أعلنه الرئيس جيمس مونرو في خطاب الكونجرس في ديسمبر 1823 من منع القوى الاستعمارية في ذلك الوقت بريطانيا وفرنسا وإسبانيا وروسيا من التدخل أو السعي للسيطرة على أمريكا اللاتينية، والتي كانت ولا تزال تعتبرها مجال نفوذها الجغرافي، حتى إظهار روسيا على أنها قوي عظمي منافسة لا يتوافق مع الوضع الحالي، فروسيا لاعب رئيسي أوراسيًا حيث تمتلك ترسانة نووية، وقادرة على إحداث أضرار عسكرية كبيرة، ولكنها لا تحتفظ بنفس المكانة التي كانت تتمتع بها من قبل، ومن الناحية الإقتصادية لاتقترب من منافسة بعض الولايات الأمريكية، فاقتصاد تكساس يتجاوز الاقتصاد الروسي بنحو 400 مليار دولار، وأنها كانت عضوًا في G8 لأسباب جيوسياسية، كما ذكر الرئيس الأمريكي الأسبق باراك أوباما في كتابه “الأرض الموعودة”، وحاولت الولايات المتحدة منذ خطاب الرئيس جورج بوش الأب في الكونجرس في يناير 1992 والذي يشير إليه الرئيس بوتين دائمًا، حيث أعلن فيه وفاة الشيوعية، تصوير روسيا على أنها المنافس اللدود لها كما لو كانت الحرب الباردة لم تنته، وزعمت مؤسسة السياسة الخارجية الأمريكية أن الرئيس بوتين لم يتمكن قط من تجاوز انهيار الاتحاد السوفييتي، وبات واضحًا حسب ميرشايمر أن شيطنة روسيا قوة مُوحِدة للغرب، فقد كان هدف السياسة الخارجية الأمريكية طيلة القرن العشرين هزيمة الشيوعية، في الوقت الذي كانت مثقلة بالمكارثية الاستبدادية اليمينية في الداخل، وشعر البعض داخل مؤسسة السياسة الخارجية بأن الولايات المتحدة فقدت سبب وجودها، وحاول المؤمنون بصدام الحضارات  مثل نائب الرئيس ديك تشيني ووزير الدفاع دونالد رامسفيلد استبدال روسيا بالإسلام كمُبرر لوجودها، فغَزَت أفغانسان ثم العراق ولم تحقق شيئاً سوي سِجل قاتم من انتهاكات حقوق الإنسان، وفشل ذريع لاستراتيجية تصوير الإسلام كعدو جديد، وبعد وقت قَصِير من خطاب الرئيس أوباما في جامعة القاهرة في يونيو 2009 والذي تضمن بداية جديدة بين أمريكا والعالم الإسلامي على أساس المصلحة والاحترام المتبادل، عادت مؤسسة السياسة الخارجية الأمريكية لتصوير روسيا كعدو، لخدمة هدف محدد قصير الأجل، مما دعى الرئيس بوتين الذي يتابع السياسة الأمريكية ومن يحيط به في وضع الاستراتيجيات لمواجهة ما يعتبره تهديدًا لروسيا ولنظامه، وانتقلت إدارة الرئيس بايدن إلى استراتيجية التعهد بأضعاف القدرات العسكرية الروسية، أو قبول المزيد من أعضاء الناتو، بعد اقتصارها على مساعدة أوكرانيا في الدفاع عن نفسها.

ختامًا؛ تقدم النظرية الواقعية في العلاقات الدولية العديد من الأسس التي تبدو منطقية ومبررة للحرب الروسية الأوكرانية، كما توضح كيف تُقَيّم روسيا مصالحها الاستراتيجية، وكيفية حساب التكاليف والفوائد المحتملة الناتجة عن الحرب، ولكنها في ذات الوقت لا تُعِير معايير السيادة والقانون الدولي وكذلك الأبعاد الأخلاقية اهتمامًا كبيرًا، وفي تركيز النظرية الواقعية على الفوائد التي تجنيها الدول بتبنيها تلك النظرية لا تُبدي اهتمامًا للسياسات الداخلية، وكذلك العوامل التاريخية، وأنه يجب العودة إلى النهج الواقعي أو مبدأ سكوكروفت مستشار الأمن القومي في عهد الرئيس جورج بوش الأب في التعامل مع السياسة الخارجية حيث يتم التعامل مع العالم كما هو، وعندما تنشأ الخلافات فيجب حلها بالدبلوماسية في المقام الأول ولابد أن يسيطر نفس المنطق على الخطاب السياسي الداخلي وكذلك الصحافة في الولايات المتحدة، ذلك المبدأ الذي تذكره ريتشارد هاس رئيس مجلس العلاقات الخارجية في مقالة بواشنطن بوست، ولكنه أبدى أسفه لأن أمريكا بعيدة عن ذلك.

د. حسام البقيعي

رئيس وحدة دراسات العالم، الباحث حاصل على درجة الدكتوراه في العلوم السياسية من جامعة القاهرة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى