قراءة في تطور موقف التنظيمات الإرهابية في سياق أحداث غزة

تقاربات وتباينات يحملها الفكر الأصولي للجماعات المتطرفة بين السنية والشيعية، هذه الاختلافات تطورت إلى حد التحالف وتنافرت إلى حد العداء والتكفير في فترات ومواقف مختلفة، وتلك العقيدة الأصولية والمواقف ألقت بظلالها على أحداث غزة منذ السابع من أكتوبر ٢٠٢٣ وفي أوقات سابقة، حتى أن التحالف السني الشيعي للتنظيمات المسلحة في سياق أحداث غزة، أصبح كل طرف يقاتل دفاعاً عن مصالح جماعته وسيطرتها وبقائها في مناطق نفوذها.

 نتيجة لذلك؛ نسعى للإجابة على عدة تساؤلات في هذا الشأن؛ ما حدود طبيعة تطور العلاقات في مراحل مختلفة بين الجماعات المتطرفة على طرفي الانتماء العقدي؟، وما دوافع هذا التحالف السني الشيعي القائم في سياق أحداث غزة؟، وما حدود التوافق والتنافر الأيديولوجي بين تلك الجماعات؟، وما انعكاسات سيطرة الفكر الأصولي والحركي لهذه الجماعات على أحداث غزة؟

تحالف بغرض البقاء:

عملت إيران منذ سنوات على صناعة ما يعرف بمحور الممانعة الذي يضم “حزب الله” اللبناني وميلشيا “الحوثي” في اليمن وحركتي “حماس” و”الجهاد” الفلسطينيتين، في سبيل ذلك دعمت إيران كل الجماعات السابقة بهدف الحفاظ على نفوذها في المنطقة بغض النظر عن الخلافات العقائدية بين تلك الجماعات، فأمتد نفوذ إيران في المنطقة وألقى ظلاله على تشيع البعض داخل فلسطين منذ أكثر من عشرة أعوام تحت رضاء وتوافق حمساوى داخل غزة، وهو ما كان من غير المتصور أن يحدث في مراحل سابقة.

في ذات السياق؛ ضلعي المثلث الشيعي “حزب الله” اللبناني، وهو الحليف الاستراتيجي لإيران وأحد أذرعها العسكرية القوية في المنطقة، حيث يمتلك “حزب الله” قوة عسكرية تكافئ الجيوش، فضلاً عن الانتماء العقدي لنفس المذهب (الشيعي)، حيث يعلن “حسن نصر الله” في مواقف عدة ولاءه للمرشد الأعلى الإيراني صراحةً، وميليشيا “الحوثي” في اليمن التي تمتلك قدرات عسكرية أقل وتنتمي لنفس المنطقة المذهبية، وتستخدمها إيران لاستهداف أعدائها في المنطقة، باعتبارها الذراع الأخر لإيران في الحرب بالوكالة التي تديرها إيران في المنطقة منذ سنوات.

عملت إيران على أن يكون لها نفوذ حركي داخل غزة في أوقات سابقة، من خلال تشكيل أجنحة شيعية “كحزب الله” الفلسطيني، وجماعة “عماد مغنية”، وحركة “الصابرين”، وكلفتهم إيران بعمليات في وقت توترت فيه العلاقات مع الحركات السنية “الجهاد” و”حماس”، بسبب رفض “حماس”دعم إيران في موقفها المعادي لبعض الدول العربية، ورفضها من قبل تأييد نظام “بشار الأسد” في سوريا، ورفض “الجهاد” إعلان موقفها من الحرب في اليمن.

بناء عليه؛ شواهد التاريخ القريب (منذ سبع سنوات) تشير إلى أن حماس رفضت أن تعلن تحالفها الكامل مع إيران في أوقات سابقة، خشية أن تخسر الكتلة السنية المؤثرة في المنطقة، خاصة مع تعرض الحركة لانتقادات شديدة بسبب هذا التحالف من جماعة الإخوان المسلمين، التي تلتزم الحركة بالولاء التنظيمي والفكري تجاهها، أما بعد عام ٢٠١٧ عملت إيران وحماس على التغافل عن الخلافات حول المواقف السياسية، وشرعت إيران إلى تكثيف الدعم العسكري لحركتي”حماس” و”الجهاد”.

من جانب أخر؛ تواردت معلومات من مصادر رسمية غربية عن وجود تحالف حديث بين تنظيم “القاعدة” وإيران، من خلال الإرهابي المصري الجنسية “سيف العدل” زعيم التنظيم الحالي المقيم في إيران، وأكد نفس المصدر عقد اتفاق وتحالف برعاية إيرانية بين ميلشيا “الحوثي” باليمن وفرع تنظيم “القاعدة” باليمن، مما يبرر رفع كفاءة وجاهزية قوة “الحوثي” ضد أعدائه منذ مطلع العام الجاري، وهو الوقت بدء التحالف السني الشيعي المذكور، الذي نتج عنه انشقاق قيادات عن تنظيم “القاعدة” وصدور أحكام بالإعدام ضد آخرين بسبب التحالف القاعدي الإيراني الحوثي.

في ذات السياق؛ من نتائج الاتفاق المذكور ترك المجال أمن في اليمن لجماعة “الحوثي” لتعزيز نشاطها، من خلال عدم تنفيذ أي أعمال انتحارية من قبل تنظيم “القاعدة” في نطاق سيطرة “الحوثي” في اليمن، عدم مشاركة “القاعدة” لأي جهة في توجيه ضربات “للحوثي”، مما ترتب عليه توسيع رقعة سيطرة “الحوثي”، وزيادة معدل التجنيد في ميلشيا “الحوثي”، وزيادة فاعلية التدريب والتسليح “للحوثي”، وإفساح المجال لمليشيا “الحوثي” باستهداف أعداء إيران في المنطقة، الذي انعكست أثارة بقدرة الحوثي علي توجيه ضربات متتالية لإسرائيل في أحداث غزة الأخيرة.

في ذات الاتجاه؛ كتب “أبو قتادة الفلسطيني” مؤيداً تبعية حماس لإيران في مجلة “المحجة” بعنوان “منعطف غزة”: ” ومما يفهمنا إياه هذا الحدث (أحداث غزة) أن القضايا الكبرى للأمة أعظم من الخلافات، فالسبيل العلمي الذي تمارسه الطائفة المنصورة، لا يمنع الألفة مع المخالف بسبب الدَخَن الذي هو فيه، ولا يمنع الاجتماع معه لتحقيق مصالح الأمة العظمى في هذه الحياة”.

 بناء عليه؛ كل الجماعات الأصولية المتطرفة أبدت ترحيب أو تفهم للتحالف السني الشيعي فيما عدا تنظيم “داعش” موقفه سلبي من هذا التحالف، وانقسمت عناصر الإخوان وشيوخهم حول تحالف “حماس” مع إيران عبر إعلام الجماعة، البعض يكفر “حماس” بسبب هذا التحالف، والبعض الأخر يدافع عن “حماس” ويؤيد هذا التحالف بدافع برجماتي.

مخرجات أيديولوجية:

الجهاد العالمي والسعي للوصول لقيادة إسلامية مركزية للعالم، حلم وهدف عند الجماعات الأصولية السنية والشيعية على السواء، مما ينتج عنه أن وقوف تلك الجماعات في مربع واحد للعمل على مساندة قضية وطنية وإقليمية عادلة -يكون بهدف برجماتي فحسب، بمعنى أن تحالف قطبي التنظيمات الأصولية يعد توافق مرحلي، من أجل حفاظ كل طرف على مكتسباته ضد عدو مشترك في سياق حرب وجود، أما في حال تراجع التهديد الوجودي من العدو المشترك، يبقى الصراع العقدي ويطفو على السطح كما كان في أوقات سابقة، فالخلاف العقدي بين السنة والشيعة عميق إلي حد تكفير كل جانب للأخر، فضلا عن الخلافات الفقهية المتعددة، بحيث يستحيل جمع الطائفتين تحت راية فكرية واحدة مهما تحالفا مرحلياً.

يتفق الطائفتين في العدو المشترك، حيث تعتبر التنظيمات السنية؛ كـ”القاعدة” و”داعش” و”حماس” و”هيئة تحرير الشام”، والشيعية؛ كـ”حزب الله” و”الحوثي” و”فاطميون”و”أنصار الله” و”الحشد الشعبي” أن أمريكا وإسرائيل عدوهم الأول، ويختلفا في أولوية قتال هذا العدو، بحيث ترى بعض الجماعات السنية، بأن قتال الحكام العرب (الطواغيت) له الأولوية، بحيث صرحت قيادات داعشية في أوقات عدة، عدم استعدادهم لقتال إسرائيل بسبب إتباعهم لفقه الأولويات، وأنهم يعتبرون الأولى قتال الحكام العرب وأعوانهم، لتمهيد الطريق لقتال إسرائيل في مرحلة لاحقة، في المقابل تنضوي الجماعات الشيعية تحت قيادة واحدة، ويعملون في ظل نظام الدولة الإسلامية (إيران)، ويتبعون نظام (الولي الفقيه)، لا يهدفون أو يسعون لقتاله أو الانقلاب عليه، ويتوحدون في مقابل الهدف والعدو المستهدف.

تتوافق الجماعات السنية والشيعية، بانتمائها التنظيمي لمرشد يدينون له بالسمع والطاعة، وتوظيف دعاوي تحرير القدس في خطابهما لكسب شعبية ومؤيدين، في حين أن الجانبين يسعيان إلى مشروع خلافة عالمي يتجاوز فلسطين ولا يعنيهم تحرير الأرض من محتل، بحيث إذا احتل أرض فلسطين جماعة دينية إسلامية لما حارب أي من الفئتين لتحريرها، فلسطين بالنسبة لكلا الجانيين جزء من أرض الخلافة، وصرحت قيادات حمساوية من قبل، بأن فلسطين لا تعنيهم على الخريطة، كونها لا تتعدى خلة أسنان في مشروعهم العالمي.

 الجماعات السنية والشيعية، تعظم ثقافة الموت وتستهين بالأرواح، فالقطبين يعتقدون بأن الجهاد المسلح فرض على كل مسلم، فهم لا يؤمنون بدور المعاهدات والمواثيق والهدن ووقف إطلاق النار في حل الصراعات ضد عدوهم، نتيجة لذلك لا يعبئ الطرفين بأرواح الفلسطينيين من المدنيين الذين يسقطون كل يوم في غزة منذ أربعين يوماً، ويعتبرون من يموتون مرابطون صامدون من أجل القضية التي لا تعنيهم من الأساس.

 تأسيساً لتمجيد ثقافة الموت قال “حسن البنا”، مؤسس منظومة الإرهاب في العصر الحديث، ومرشد جماعة الإخوان المسلمين الأول، التي تنتمي إليه تنظيمياً وفكرياً حركة “حماس”، وفكرياً كل الجماعات الأصولية السنية ـ في رسائله: إن “الأمة التي تحسن صناعة الموت وتعرف كيف تموت الموتة الشريفة، يهب الله لها الحياة العزيزة في الدنيا والنعيم الخالد في الآخرة، وما الوهن الذي أذلنا إلا حب الدنيا وكراهية الموت، فأعدوا أنفسكم لعمل عظيم..”.

نتيجة العقيدة السابقة؛ تعلن جبهة الممانعة كل يوم وتتفاخر مدعية إحراز نصر على إسرائيل، وتهاجم بعض أذرع تلك الجماعات الإعلامية موقف الدول العربية (محور الاعتدال) وتنكر كل مساعي تلك الدول لصالح الشعب الفلسطيني، من التفاوض من أجل وقف النار، وإدخال مساعدات ومعالجة الجرحى.عليه؛ تلك الجماعات لا تعبئ بالخسائر البشرية، وتمجد ثقافة الموت بالتأصيل لها من أدبياتهم ومناهجهم التي نظر لها إرهابيين عالميين.

 ينعكس تمجيد ثقافة الموت في سلوك العنف الذي تقوم به ميليشيا “الحوثي” في مناطق سيطرتها في اليمن بقتل الأقارب المخالفين لهم، خلافا للهدي النبوي الذي اعتبر الانسحاب في سرية “مؤتة” ٨ هجري انتصار بقوله (ص) “.. حتى فتح الله عليهم”، مما يستشهد به على أن حماية أرواح المدنيين مقصد أولى في الشريعة لقوله (ص): “لأن تهدم الكعبة حجراً أهون عند الله من أن يراق دم امرئ مسلم”، في رواية أخرى “لزوال الدنيا أهون عند الله من قتل مؤمن بغير حق”، لذا جعل المولى عز وجل حفظ النفس أولى مقاصد الشريعة، وهو معنى مضاد لما يدعوا إليه الفكر الأصولي.

نتائج عكسية:

وقوع القضية الفلسطينية في يد الجماعات الأصولية ألقى بظلاله على مخرجات القضية ونتائجها، تغليف القضية بالصبغة الدينية أدى إلى نتائج كارثية على كافة الأصعدة، تصوير القضية بأنه عداء الغرب الصليبي ضد المسلمين في المجمل غير أنه تعميم باطل وغير حقيقي، فالشعوب العربية فضلاً عن المنظمات والمؤسسات التعليمية تضغط بالرأي للدفاع عن القضية الفلسطينية في مقابل حكومات غربية تتحالف مع العدو الصهيوني، ترتب على تدين القضية بناء عليه عدة نتائج:

(-) استدعاء فقه قتال الكفار الذي من مخرجاته استباحة دماء المدنيين والاستهانة بسقوط الضحايا بموجب جواز أخذ المدنيين دروع بشرية، بإنزال فتوى التترس لـ “ابن تيمية” على الواقع الحالي التي كانت من نتائج حرب التتار.

(-) كثافة الدعاية لأدبيات الجماعات المتطرفة من قبل إعلام تلك الجماعات عبر الفضائيات والفضاء السيبراني، وإحياء مقولات وفتاوى منظري الجماعات المتطرفة، مما سيؤدي كنتيجة منطقية إلى زيادة معدلات التجنيد لدى الجماعات الإرهابية المختلفة.

(-) الدعوة للجهاد بمعناه الواسع في الفقه (دفع، طلب)، وإحياء فقه الجهاد في الخطابات الإعلامية لتلك الجماعات بكل مفرداته (الرباط، الثبات، ثواب الجهاد)، والتأكيد على فرضيته لتثبيت عناصر الجماعات المتطرفة، واستدعاء آخرين للجهاد، فتنتهي الحرب في وقت لاحق، ويبقى الإرهاب ويتجه إلى الأنظمة والدول العربية.

(-) عمل كل جماعة من جماعات الإسلام السياسي لمصالحها ولصالح المشروع الجهادي العالمي، وخسارة متصاعدة ومتعددة الأوجه للقضية الفلسطينية، ربما يستحيل تعويضه أو المطالبة بحساب المتسببين عنه على المستوى المحلى أو الإقليمي أو الدولي.

(-) تعالي نبرة تكفير وتخوين تلك الجماعات للأنظمة العربية، ومحاولة تشويه الجهود المبذولة من الأنظمة من أجل وقف إطلاق النار أو إدخال المساعدات أو الحصول على هدن إنسانية أو نقل الجرحى للعلاج عبر معبر رفح وتصويرها على عكس حقيقتها.

أخيرا؛ مشروع الإسلام السياسي أو التنظيمات الإرهابية التي توصف بالصلبة، لا يرجى منه ولا ينتظر استعادة دولة أو بناء دولة، تلك الجماعات بقطبيها لا تؤمن بالوطن ولا بالحدود الوطنية، وتعلن ذلك من خلال إصدارتها المكتوبة، وتلعن حدود اتفاقية “سايكس بيكو”، وتكفر من يعترف بها، وتعتبر الوطنية كفر ووثنية حيث قال “حسن البنا” لأتباعه من الإخوان المسلمين وعنه أخذت كل الجماعات الأصولية: “أما وجه الخلاف بيننا وبينهم أننا نعتبر حدود الوطنية بالعقيدة، وهم يعتبرونها بالتخوم الأرضية، فكل بقعة فيها مسلم يقول “لا إله إلا الله محمد رسول الله” وطن عندنا”.

وعليه، يمكن القول إن ما تقوم به التنظيمات المسلحة من الجانبان في سياق القضية الفلسطينية لا يصب في صالح الفلسطينيين ولا في صالح الأرض الفلسطينية، فمشاهد التهجير لأهالي غزة تذكر بمشاهد نكبة ١٩٤٨، بما يزيد تأزم القضية الفلسطينية كنتيجة لأحداث “طوفان الأقصى” التي بدأت بما قامت به حماس في السابع من أكتوبر ٢٠٢٣، فبعد أن كانت غزة محاصرة باتت محتلة ومُهجر أهلها.

فبمقارنة أعداد المعتقلين الذين زعمت حماس، أنها تحاول إعادتهم ما يقرب من خمسة ألاف، فإن الخسائر في الأرواح الفلسطينية في المقابل تجاوز الـ ١٢ ألف شهيد معرضين للزيادة، فضلاً عن المصابين والأسري الجدد المعتقلين من وقت عملية “طوفان الأقصى”، إذن المحصلة بالسلب لصالح الأرض والأرواح البشرية، مما يستوجب استدعاء ظلال الهدي النبوي الذي اعتبر الانسحاب لحماية أرواح المدنيين، وسد الثغور لحدود الدولة في “موقعة مؤتة” انتصار واحترام حسابات موازين القوى، مما ينسف كل دعاوى وادعاءات الجماعات الأصولية المتطرفة.

أسماء دياب

-رئيس برنامج دراسات الإرهاب والتطرف. -باحث دكتوراه في القانون الدولي- بكلية الحقوق جامعة عين شمس. - حاصلة على ماجستير القانون الدولي جامعة القاهرة. -حاصلة على دبلوم القانون الدولى جامعة القاهرة. -حاصلة على دبلوم القانون العام جامعة القاهرة. - خبيرة في شئون الحركات الإسلامية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى