مصالحات مؤثرة: هل تتمكن القبائل من تهدئة الأزمة الليبية؟

في الـ 27 من أغسطس الجاري، قامت قيادات عائلتين من عائلات الدولة الليبية، هما عائلتي عون والفقيه من قبيلتي “فرجان” و “معدان”، بعقد تصالح بينهما نتيجة أزمة استمرت لسنوات، وقد ساعدت القبيلتين في إنهاء هذا الخلاف وتم التسامح والصلح بين القبيلتين في منطقة السواره بمدينة سرت بحضور عميد بلدية سرت مختار المعداني، وأعضاء المجلس الاجتماعي لقبائل سرت وبحضور وحشد غفير من أبناء القبيلتين فرجان ومعدان.
ويشير ما تقدم إلي أهمية الدور التي تقوم به القبائل الليبية، باعتبارها طرفاً محورياً ومهماً يستطيع التأثير علي موازين القوي ودعم أي من أطراف النزاع في ليبيا، خاصة وأن تلك القبائل لعبت دورًا مهمًا في التفاعلات والتشابكات في المشهد الليبي عبر التاريخ.
في ضوء ما سبق، يثار عدة تساؤلات يحاول هذا التحليل الإجابة عليها، وهي: ما هي طبيعة القبائل في سرت؟ وما مستوي الصراع القبلي بينهم؟ وما هو تأثير المصالحات الحالية بين القبائل علي فرص التسوية والاستمرار في الأماكن الساحلية الليبية؟ وما تأثير المصالحات في سرت علي “طرابلس” و “بنغازي”؟
طبيعة القبائل في سرت:
سرت مدينة ليبية تقع في الشمال علي الساحل بين أكبر مدينتين في البلاد “طرابلس” و “بنغازي”، وتعد من أكبر المدن امتدادًا علي السواحل الجنوبية للبحر المتوسط، وتتميز سرت بموقعها الاستراتيجي المتميز حيث تقع علي بعد 300 كم من الساحل الأوروبي وفي منتصف الطريق بين العاصمة طرابلس في الغرب وبنغازي المدينة الرئيسية في إقليم “برقة” في الشرق، وأصبحت سرت الواصلة بين شرق ليبيا وغربها، وبين شمالها وجنوبها.
ويتوزع سكان تلك المدينة علي سبع قبائل عربية، من بينها قبيلة القذاذقة التي ينحدر منها الرئيس الليبي الراحل “معمر القذافي”، بالإضافة إلي قبائل أولاد سلمان والفرجان والمحاميد والجماعات والمعامرة، وبعض قبائل البربر الصغيرة الأخرى، ومن بين تلك القبائل الليبية التي من المرجح أن تلعب دور في تهدئة الأزمة الليبية نظرًا للدور السياسي التي تقوم به تلك القبائل، وهما:
(&) قبيلة فرجان: تعد قبيلة فرجان من القبائل الليبية العريقة والتي لها دور في الجهاد الليبي ضد الاستعمار، حيث يرجع نسبهن إلي الشيخ عطوة بن عطية بن كمون بن فرج توبة بن عطاف بن جبر بن عطاف بن عبدالله، ويتمركز عائلات قبيلة فرجان في مدينة سرت وزليتن وبنغازي والمرج والبيضاء وأغلب مناطق برقة وفي تاورغاء ومنطقة عكارة ومنطقة الرقيعات جنوب طرابلس وفي خلة الفرجان وكذلك في ترهونة.
(&) قبيلة معدان: قبيلة معدان هي قبيلة عربية تتمركز في ليبيا وتنسب إلي بني منصور ابن عكرمة بن خصفة ابن قيس، وكانت تلك القبيلة تتمركز في شمال منطقة الحجاز قرب المدينة المنورة ثم هاجر أكثرهم إلي شمال أفريقيا في عصر الفاطميين عام 443 هجري و 1051 ميلادي، واستقروا في ليبيا ومنهم عائلات بني ذياب بن ربيعة بن زغب، وينقسم نسبهم إلى أربع عائلات أو بطون وهم العمائم والعلاونة والأحامد وأولاد مرزوق وهم يتفرعون إلى فروع كثيرة، ومعظمهم يسكنون الآن في مدينتي سرت ومصراتة والـحامد يقيمون بالجبل الغربي في ليبيا.
وعليه، تمكنت القبيلتين من لعب دور مهم في عملية الصلح بين عائلتي الفقيه من معدان وعائلة عون من فرجان نتيجة للخلاف الذي حدث بينهم في وقت سابق، وقد ساعدت القبيلتين في إنهاء هذا الخلاف وتم التسامح والصلح بين القبيلتين.
والجدير بالذكر، أن ليبيا بعد الإطاحة بنظام “معمر القذافي”، شهدت انقسامات بين القبائل الليبية التي ظلت تتمتع لسنوات بالنفوذ في البلاد، ونتيجة لدخول تلك القبائل في صراعات الاصطفاف السياسي والإيديولوجي والمجتمعي والجغرافي في البلاد، بهدف مساندة القوي المتنازعة في ليبيا، لذا تراجع دور ونفوذ تلك القبائل في الحياة السياسية والاجتماعية في البلاد، حيث تحاول هذه القبائل من خلال المصالحات تلاشي تلك الانقسامات، ومحاولة كسب النفوذ مرة أخري، ولعب أدور سياسية هامة من خلال المصالحات التي قد تعمل علي تهدئة الأزمة إلي حد ما.
مستوي الصراع القبلي:
نتيجة لما تم عرضه شهدت السنوات الأخيرة انقسامات في القبائل الليبية، إذ تسبب الصراع السياسي الليبي في حياد القبائل الليبية التي انقسمت علي نفسها في الغرب الليبي، حيث برز دور قبيلة “الورفلة” التي يتجاوز تعدادها أكثر من مليون شخص أي سدس عدد سكان البلاد، وكذلك قبيلة “ترهونة” التي تضم نحو 65 قبيلة فرعية، وقبيلة “مصراتة” التي تتمتع بقدرات عسكرية كبيرة، إذ تُقدر عناصرها المسلحة بحوالي 35 ألف مقاتل، وتلك القبائل تدعم معسكر “طرابلس”، وكذلك دور قبائل “برقة” في الشرق الليبي التي تقوم بدعم البرلمان والقيادة العامة للجيش، وتتنوع أيضاً قبائل في الجنوب يمتد ولاؤها ليس في ليبيا فقط بل وحتي لخارج البلاد، مثل قبائل الطوارق.
وعليه، نتج عن هذا الانقسام عدم الاعتماد علي القبائل في قيادة أو حل الأزمة الليبية، نظرًا لتدخل الأطراف المسببة للأزمة بين القوي الأجنبية والداخلية التي ترتبط بعلاقات أحداهما مسلحة علي الأرض وأخري سياسية تطمح في السلطة، وهو ما يجعل الأزمة الليبية أكثر تعقيدًا.
فرص التسوية والاستمرار:
منذ سقوط نظام القذافي، والقبائل الليبية تحاول ملء الفراغ السياسي والأمني، وأصبحت مع مرور الوقت أداة للاعبين الجدد في السياسة الليبية، حيث فوضت قائد ما يعرف بـ “الجيش الوطني الليبي” خليفة حفتر لمحاربة خصومه في أنحاء ليبيا. لذا حلت تلك القبائل كبديل عن مؤسسات الدولة التقليدية في صناعة القرار، وكانت قد قررت غلق حقول النفط وأعادت فتحها مرة أخري بشرط تفويض حفتر بتحديد آليات عملها مع المؤسسات الدولية، وبذلك تحولت القبائل إلي بديل عن صناديق الاقتراع التي تحدد هوية من يقود البلاد.
وبناءًا علي ما تقدم، فإن القبائل الليبية سواء في الشرق أو الوسط أو الجنوب الليبي من الممكن أن تؤثر بالسلب أو الإيجاب علي الأزمة الليبية من خلال التنسيق مع القوي ذات النفوذ السياسي والعسكري الموالية لتلك القبائل، وقد يلعب إغلاق حقول النفط أو إصدار البيانات المساندة دور لصالح طرف سياسي أو مؤسسة علي حساب طرف آخر.
وعليه، لا شك في الدور التي تمارسه القبائل في ليبيا، فهي لها القدرة علي فرض قوتها ونفوذها لتجميع كل الليبيين ولعب دور كبير في المصالحة بين المدن والعائلات علي غرار الصلح بين عائلة “عون” وعائلة “الفقيه” من قبيلتي “فرجان” و “معدان”،وأيضاً الخلاف الذي نشب بين قبيلتي “بني وليد” و”مصراتة” والعداء التاريخي بينهما والذي عمل القذافي علي استمراره لسنوات، وكذلك الخلافات بين قبائل القذاذفة والمقارحة وغيرها من الانقسامات التي تضعف من قدرة القبائل علي إيجاد تسوية سياسية للأزمة الليبية، وهو ما تعيشه ليبيا الآن. لذا لابد أولاً من تحقيق مصالحات وطنية بين القبائل الكبيرة.
ومع ذلك تختلف الأقوال الحالية حول قدرة القبائل علي إيجاد تسوية سياسية للأزمة الليبية الحالية أو تحقيق الأمن والاستقرار، وتحديدًا بعد نجاح القوي السياسية الحالية في وضعها في الصراع السياسي و العسكري واستعمال القبائل في عمليات الضغط والابتزاز من أجل تحقيق مصالح في السلطة وكسب مزايا قبلية، مثل ملف الاغلاقات المتكررة لحقول النفط، إذ يشهد حالياً إنتاج ليبيا من النفط استقرارًا بعد سنوات من الإغلاق وعدم الاستقرار السياسي، بعد تجنب إغلاق الحقول حيث ساعد ذلك في زيادة إنتاج النفط نحو 1.2 مليون برميل يومياً منذ يناير 2022 وحتى الآن، ولكن بعد خطف وزير المالية السابق، قامت مجوعات ليبية بوقف إنتاج النفط في حقول الفيل والشرارة و108، ردًا علي خطف الوزير السابق “فرج بومطاري” بالعاصمة طرابلس.
لذا لابد من إبعاد إنتاج وتصدير النفط عن النزاعات بين الأطراف السياسية؛ لأن إغلاق الحقول سيضر بتسويق النفط الليبي وأيضاً سوف يقيض الجهود المبذولة لتحقيق الاستقرار في الإنتاج النفطي، وهو ما يزيد من تعقيد حل الأزمة ويؤكد ذلك علي أهمية دور القبائل الليبية في تسوية الأزمة السياسية في البلاد.
تأثير المصالحات علي “طرابلس” و “بنغازي”:
مع استمرار المصالحات الشاملة بين جميع القبائل الليبية وعائلاتهم، ومع تغليب المصلحة العامة ومصلحة الوطن،بالإضافة إلي تجنب أغلب القبائل لعدد من الانقسامات والخلافات البينية من أجل دعم جهود الجيش الليبي في حل الأزمة، وظهر ذلك الدعم منذ إقرار البرلمان التركي الموافقة علي إرسال قوات إلي ليبيا، حيث قامت العديد من القبائل برفض تام لتلك التحركات، ومن بين تلك القبائل، العجيلات، والعواقير، وأولاد سليمان، ورشقانة، وترهونة، ومصراتة، وبني وليد، ورفلة، وغيرها من القبائل، ويثبت هذا الدعم حدود وطبيعة الدور المهم الذي يمكن أن تلعبه القبائل في تعزيز الأمن والاستقرار في ليبيا، لذا من المؤكد أن تلعب القبائل دورًا مهمًا في تهدئة وتسوية الصراعات القبلية كمدخل لحل سياسي للأزمة الليبية لصالح الدولة الوطنية الليبية.
تأسيسًا علي ما تقدم، يمكن القول إن هناك دور سياسي متزايد للقبيلة يتلاحظ في الفترة الأخيرة، قد يسهم في حلحلة الأزمة الليبية، من خلال استمرار عقد المصالحات بين القبائل الليبية. فالقبائل هي النواة والمكون الأساسي الذي يقوم عليه المجتمع الليبي، لذا من الضروري تشكيل مجلس وطني، يتشكل من القبائل والسياسيين أصحاب الخبرة السياسية في إدارة شؤون ليبيا يهدف إلى دعم الاستقرار في البلاد، ونتيجة للدور الفعال للقبيلة الليبية في تسكين الداخل، فإنه من المرجح أن تطون بمثابة رمانة الميزان في معادلة الانتخابات المقبلة، بإعتبارها المحرك الذي يتعين علي أي مرشح اللجوء إليه لطلب الدعم.