كيف أثرت المصالحات التركية على نفوذ جولن؟

احتفى الأتراك الشهر الماضي بذكرى المحاولة الانقلابية الفاشلة، التي اتهمت السلطات التركية جماعة جولن بالضلوع في تنفيذها، وسيطر من بعدها الطابع الأمني على السياسة الداخلية في تركيا، حيث شهدت حملة تضييق واعتقالات غير مسبوقة مارستها أجهزة الدولة تجاه كل من يشتبه في ارتباطهم بجولن بأي شكل كان.
حتى أن الحادثة تركت بصمتها على السياسة الخارجية التركية أيضا، بعد أن توترت علاقتها بعدد من الدول على إثر دعمها لأعوان جولن، وعدم الاستجابة للمطالب التركية بتسليم المطلوبين من جماعة غولن أو إغلاق المؤسسات التابعة لها. إلى أن أعادت تركيا النظر في سياستها الخارجية خلال الأعوام الثلاثة الأخيرة بعدما كلفتها السياسة العدائية والعشوائية الكثير على كافة الأصعدة.
وفي الإطار ذاته، تثار التساؤلات حول حجم نفوذ الحركة في بعض الدول، ومستقبل استثمارات ومؤسسات جولن بعد السياسية التصالحية التركية خلال الأعوام الثلاثة الأخيرة.
حضور متفاوت:
حركة الخدمة _ كما يعرفها أنصارها _ حركة مجتمعية مدنية ظهرت في منتصف الستينيات، اعتمادا على أفكار مؤسسها فتح الله جولن، عدد مدارسها في الخارج حوالي ٣٠٠٠ مدرسة، ونحو ٣٠ جامعة، ناهيك عن المؤسسات الإغاثية والاستثمارية، وفقا للموقع الرسمي للحركة.
منذ محاولة الانقلاب الفاشلة في ٢٠١٦ صعدت الدبلوماسية التركية لهجتها تجاه حركة فتح الله جولن ونشاطاتها بعدما اتهمتها بالضلوع في المحاولة الانقلابية، وقامت بحملات دبلوماسية موسعة، استجابت بعض الدول لها بإغلاق مدارس جولن والمؤسسات التابعة لها لديها، كما هو الحال في ليبيا والصومال والأردن والسودان والمغرب. أو فرض رقابة على هذه المدارس، فمنها من حول إدارتها للدولة التركية، ومنها من سهل للسلطات التركية القبض على أنصار جولن وتسليمهم إلى أنقرة، حتى أن منظمة التعاون الإسلامي تصنفها منظمة إرهابية.
فالسعودية على سبيل المثال، في ٢٠١٧ أوقفت ١٦ شخصا بتهمة تقديم الدعم المالي لجماعة جولن عبر تنظيم رحلات الحج والعمرة، وقامت بتسليمهم إلى السلطات التركية، حتى أن الدول الخليجية، وتحديدا السعودية وقطر والكويت، تولي اهتماما كبيرا بالمدارس التركية التابعة للحكومة الرسمية، إلى جانب وجود معهد يونس إمرة لتعليم اللغة التركية، وهو ما يجعل أنقرة تضغط لإغلاق المدارس التابعة لتنظيم جولن في هذه الدول.
وبالتالي فإن ورقة جولن بالنسبة للسعودية لا تخرج عن كونها ورقة لمناورة الأتراك، لأنهم _ السعوديين _ لا يسمحون بتوسع كبير في تواجد أنصار جولن أو انتشار مدارسهم باعتبارها ذات توجه صوفي على أرض المملكة ذات المرجعية الوهابية حتى في ظل عملية التحديث الراهنة التي يقودها ولي العهد السعودي محمد ابن سلمان. فعلى سبيل المثال عندما اختارت تركيا الوقوف إلى جانب قطر في بداية المقاطعة في ٢٠١٧، نشر إعلامي سعودي مقرب من العائلة المالكة عثمان العمير فيديو زيارته إلى جولن في بيته في ولاية بنسلفانيا الأمريكية.
بل على العكس، تعتبر السعودية أكثر الدول الخليجية احتضانا للمدارس التركية، حيث توجد في السعودية أكثر من ٣٠ مؤسسة تعليمية تتبع وزارة التربية التركية في ٨ مدن، بينها الرياض والدمام والمدينة المنورة وتبوك.
حتى ف البحرين، لم تحظ مدارس جولن بحضور يذكر، ولا توجد لهم أنشطة في البحرين. ففي وقت سابق، أكد مسئولون بحرينيون أن المملكة رفضت طلب جماعة جولن الإرهابية افتتاح ورشة في البحرين، حتى أنه تم عرض الأمر على أساتذة جامعيين ورفضوا أيضا، وذلك على هامش ملتقي اقتصادي في مدينة أنطاليا التركية، وفقا لوكالة الأناضول.
وفي الكويت أيضا، يكاد لا يوجد أي حضور مؤثر لجماعة جولن، بل على العكس تنتشر المعاهد التعليمية والمدارس التركية الرسمية بشكل كبير في الكويت.
إلا أن هناك دولا أخرى رفضت إغلاق هذه المدارس أو فرض رقابة عليها، مثل الولايات المتحدة الأمريكية، الولايات المتحدة يوجد بها نحو ٢٠٠ مدرسة ومركز تعليمي وثقافي للحركة، إلا أنها ترفض إغلاقها. وذلك لعدة أسباب، أهمها أن القانون الأمريكي يتيح لوزارة الأوقاف عدم إغلاق المدارس من مختلف الديانات والتوجهات. والأمر الثاني فيه مناكفة سياسية لتركيا بورقة جولن تخرجها واشنطن من جعبتها في الوقت المناسب لابتزاز أنقرة. والأمر الثالث، وفقا للرواية التركية ، إن الولايات المتحدة ترفض حتى اللحظة تسليم جولن المقيمين بولاية بنسلفانيا الأمريكية وأعوانه إلى السلطات التركية لأن واشنطن ذاتها متورطة في العملية الانقلابية الفاشلة.
في عام ٢٠١١، نشر تقرير في نيويورك تايمز عن ظاهرة المدارس الدينية الخاصة، وكان على رأسها المدارس التابعة لمنظمة جولن التي تنتشر في عدة ولايات أمريكية، لاسيما ولايتي تكساس وبنسلفانيا مقر إقامة جولن. ووفقا للتقرير، توجد عشرات المدارس التي لها صلة بحركة دينية في تركيا ( أكثر من ١٢٠ مدرسة حينها )، وتستخدم هذه المدارس مدرسين أجانب وتحديدا الأتراك أنفسهم، يسافرون إلى الولايات المتحدة بتأشيرات عمل مؤقتة إتش 1 بي.
وفي وقت سابق، أجرت الـFPİ تحقيقا بالتعاون مع وزارة التربية والتعليم الأمريكية الفيدرالية، بشأن تلقي بلاغات عن ممارسات فساد في أنشطة هذه المدارس، وتحديدا فيما يتعلق منها بتأشيرات المدرسين، بسبب أن هؤلاء المدرسين يتبرعون إلزاميا بجزء من رواتبهم للمسئولين عن هذه المدارس، كمقابل لعملهم في الولايات المتحدة، ورغم ذلك أغلق التحقيق بسبب عدم عثور الشرطة على أي دليل يفيد بوجود أنشطة مشبوهة تتعلق بأحداث إرهابية أو دعوية. وحتى الآن ترفض واشنطن تسليم جولن وأعوانه إلى أنقرة، مما أسهم في توتر العلاقات بين البلدين لسنوات.
تركيا حتى الآن تطالب بتسليم ١٢٧١ مطلوبا في جماعة جولن في ١١٢ دولة، وبالتالي فهي لن تتنازل عن تسليمهم، وفقا لتصريحات وزير العدل التركي تونج يلماز، أبرزهم الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، حيث تقدمت أنقرة بطلب إعادة ملاحقين بحق ٢٦٥ فردا و ٤٣٨ طلبا للاتحاد الأوروبي، مثل بريطانيا واليونان وألمانيا وبلجيكا.
فبريطانيا، استضافت جولن وأعوانه على منصاتها الإعلامية أكثر من مرة، وتملك الحركة عدة مدارس في بريطانيا، أبرزها مدرسة نورث لندن جراند سكول، والمسجلة في السجلات كجمعية خيرية، حتى أن وزارة التربية والتعليم البريطانية أعلنت في وقت سابق عدم تبعيتها لها، حتى أن بعض مسئوليها معارضون لأردوغان علنا، وفقا لتحليلات سابقة في هذا الشأن. كما سبق وأجرت وحدة الاستخبارات البريطانية تحقيقات بشأن حسابات شخصية للعديد من الشخصيات التي يشتبه ارتباطهم بجولن، وممن وجهت أيضا إليهم تهم غسيل أموال وتمويل الإرهاب، استجابة للحملة التركية للتضييق على الجماعة في ٢٠١٦، إلا أن تركيا لازالت تطالب بالمزيد حتى الآن علي لسان وزير العدل الجديد.
كما توجه تركيا اتهامات لبلجيكا بإيواء عناصر تابعه لحركة فتح الله جولن، تفيد بأن الحكومة الفلاماندية تقدم ( أحد الأقاليم الفيدرالية الثلاثة التي تتكون منها بلجيكا ) الدعم للمنظمة بملايين اليوروهات، وفقا لوكالة الأناضول.
وف ألمانيا أيضا، توجد عشرات المدارس والمؤسسات التعليمية التابعة للحركة، كما تحظى الحركة بدعم إعلامي وسياسي كبير، وتعاطف حتى في الكنائس، وسبق إن قدمت وزارة الداخلية الألمانية تقريرا يفيد بأنه لا توجد أي أدلة عن ممارسة الحركة لأي أنشطة مخالفة للدستور، حتى أن الأحزاب اليسارية في وقت سابق كانت تعيب على الحكومة دعمها المبالغ فيه لأعضاء الحركة. كما رفضت ألمانيا أكثر من مرة طلب الحكومة التركية بفرض رقابة على المدارس التابعة لجولن.
ووفقا لوكالة ترك برس التركية، تم الكشف منذ ٢٠١٦ عن “خلية ” تابعه لتنظيم جولن في إسبانيا، تغلغلت في الجامعات ووسائل الإعلام وغيرها من المؤسسات، مثل مؤسسة البيت التركي، والتي اعترف مسئولوها بارتباطهم بجولن، كما تم الكشف عن بعض وسائل الإعلام التابعة لجولن أيضا، مثل الدياريو توركو، وبونتوديفيستا، ومجلة كاساد التي اعترف مديرها بارتباطه ومجلته أيضا بجولن، وهي مجله تهتم بالفكر العلمي والروحي، ورغم توقفها عن النشر إلا أنه يمكن الحصول على منشوراتها من البيت التركي، لأن الحكومة التركية صادرتها بعد محاولة الانقلاب.
حتى أن اليونان تتهمها الحكومة التركية دوما بإيواء عناصر تابعة لجولن، خاصة وأن السلطات التركية أوقفت أكثر من مرة مواطنين وضباط مشتبه في انتمائهم للجماعة وهم يحاولون الهروب لليونان، ووفقا لتصريحات أردوغان فإن اليونان تمنح حق اللجوء للفارين من اتهامات الحكومة بانتمائهم لجولن، لذا طالب رئيس الوزراء اليوناني بتسليمه ٨ ضباط مطلوبين. وفي أغسطس ٢٠١٨، أصدرت المحكمة العليا في اليونان قرارا بمنح حق اللجوء للعسكريين الأتراك الفارين من بلادهم.
أما عن روسيا، فقد بدأت عناصر جولن في إدخال مؤسساتها واستثماراتها في روسيا عقب سقوط الاتحاد السوفييتي، وتم افتتاح العديد من المدارس، إلا أنه تم وقف نشاطاتها في روسيا بعد اتهام الأخيرة لها بتقديم الدعم للعصابات الشيشانية في ٢٠٠٢، ووجهت إليها اتهامات بالتجسس، ومنذ ذلك الحين تم إغلاق المدارس التابعة لجولن في الفترة من ٢٠٠٢ وحتى ٢٠٠٧، وصنفت من بعدها حركة متطرفة.
وواقعيا هناك العديد من علامات الاستفهام التي من الممكن أن تثار حول اسباب قوة جولن، وكيف انتشرت الجماعة بهذا الشكل ؟، وقد تكون الإجابة لدى العدالة والتنمية نفسه، لأن الحزب هو من أسهم بشكل كبير في انتشار الجماعة وتقوية نفوذها،فانتشار جولن حول العالم راجع لفترة كانت العلاقات بين حركة جولن وحزب العدالة والتنمية على ما يرام، حيث كانت تدعمها الحكومة التركية باعتبارها أحد أسلحتها الناعمة في الخارج، وقدمت لها جميع التسهيلات الممكنة من خلال السفارة التركية، إلا أن العلاقات بدأت تتوتر منذ ٢٠١٣ عندما اتهم أردوغان الحركة بالتسبب في تهم الفساد التي وجهت إلى بعض الشخصيات في الحزب الحاكم. وما زاد من أهمية الحركة في الخارج، هو الحزب نفسه أيضا بصورة غير مباشرة، بعدما انتهج أردوغان سياسة معادية للغرب تحديدا، جعلتهم متمسكين بدعم الجماعة نكاية وابتزازا لأردوغان في نفس الوقت.
تأثيرات خارجية:
استنادا لما سبق، يتضح الانتشار المتفاوت لأعضاء منظمة جولن، والاستجابة المتفاوتة أيضا لمطالب الأتراك، وتحديدا من قبل الدول التي جمعتها خلافات مع تركيا، إلا أن نفوذ هذه الجماعة أصبح أقل مقارنة بذي قبل، بعد أن أعادت تركيا النظر في سياستها الخارجية على المستوى الإقليمي والعالمي خلال العامين الماضيين، الأمر الذي يدفع هذه الدول إلى تحجيم نشاط هذه الجماعة، أو على الأقل عدم إبراز نشاطها أو إلقاء الضوء على أعضائها حتى لا يثير حفيظة أنقرة، وبالذات في الدول التي لازالت تحتفظ بمدارس جولن لديها كورقة مؤجلة ضد الأتراك.
وفي ظل وجود ملفات عديدة عالقة بين تركيا وبعض الدول العربية على سبيل المثال، فقد يكون تكميم أفواه جماعات الإسلام السياسي في أنقرة مقابل تحجيم تحركات أتباع جولن في الدول العربية، هو الحل المناسب لإبداء حسن النية من كلا الجانبين لفتح صفحة جديدة.
أيضا في ظل حساسية الفترة الراهنة بالنسبة لدول الشرق الأوسط بوجه عام، والتحديات الدولية الراهنة التي فرضتها تداعيات الحرب الأوكرانية والأزمات التي تواجه المنطقة على إثرها، التي تفرض على دولها التعاون خلال الفترة المقبلة، وتفادي أية أزمات قد تعرقل استقرار العلاقات في المنطقة برمتها، فإن ملف أعضاء ومدارس جولن قد يكون آخر ما تفكر فيه هذه الدول أن يسبب مشاكل مع الحكومة التركية، وتحديدا بعد تراجع تركيا عن سياستها غير الرشيدة تجاه دول المنطقة ومحيطها الإقليمي بوجه عام، وتحجيم ممثلي الإسلام السياسي الموجودين على أراضيها.
والأمر نفسه بالنسبة للدول الغربية، وتحديدا واشنطن، التي فقدت إلى حد ما موقعها القديم في المنطقة عموما، حتى أن التحركات الخارجية لدول المنطقة تشير إلى تراجع الثقة في الحلف الغربي، وبالتالي فإن الغرب قد لا يجازف باستبعاد تركيا باعتبارها أحد الفاعلين الكبار في المنطقة، بالذات بعدما تضاعفت أهميتها الاستراتيجية بعد الحرب الأوكرانية. ومن ناحية أخرى، تعتبر حاليا ذراع الناتو الموثوق في المنطقة، والخليج تحديدا.
والرغبة الغربية في الحفاظ على علاقتها بتركيا، حتى بعد انتخاب أردوغان مجددا، عكستها موافقة الغرب _ ولو على مضض _ من أجل إتمام موافقة تركيا على انضمام السويد لحلف الناتو، على تقديم وعد جديد لأردوغان بإعادة تحريك أو فتح المفاوضات لضمها إلى الاتحاد الأوروبي، وتعهد بايدن بإرسال مقاتلات إف ١٦ إلى أنقرة وتحديث أسطولها الجوي، دون ربط ذلك بتخلي أنقرة عن منظومة إس ٤٠٠ الروسية.
وهذا لا يعني التخلي تماما عن ورقة أعضاء جولن في الدول التي تتواجد بها حتى الآن، ولكن كل ما في الأمر، محاولة عدم استفزاز أنقرة بهذه الورقة وتحجيم تحركات أعضائها لفترة، بالذات بعد نجاح أردوغان في الانتخابات مايو الماضية، وبالتالي تأجيل استخدامها سياسيا، خاصة إذا تم تغيير في القيادة التركية، باعتبارها الولاية الأخيرة لأردوغان، لأن أحد الأسباب الأساسية لبروز دور هذه الجماعة وتوظيفها من قبل الدول العربية والغربية هو خلافاتهم مع أردوغان شخصيا الذي تشاركهم فيه الحركة، وفي الوقت الذي تصاعد فيه نفوذ الإسلام السياسي الذي أيده أردوغان.
وبالتالي بعد انتهاء حكم أردوغان فقد لا يبقى لجماعة جولن أهمية كبيرة لا بالنسبة لدول المنطقة ولا القوى الدولية وعلى رأسها واشنطن، ولا حتى من قبل تركيا نفسها في فترة ما بعد أردوغان، لأنه هو من اتهمها بالانقلاب عليه وسخر كافة أجهزة الدولة لمطاردتهم في الداخل والخارج.
أما عن تركيا، فستستمر في الضغط على الدول التي تتواجد بها أنشطة أو أنصار فتح الله جولن، من أجل إغلاق المدارس وتسليم المطلوبين وتحجيم نفوذهم أكثر فأكثر. إلا إنه من ناحية أخرى، سيحاول التغاضي نوعا ما عن تحركات الجماعة حتى لا تؤثر على صفو العلاقات مع الدول العربية وغيرها، بعدما عانى سياسيا واقتصاديا لسنوات على إثر التوتر معهم. ناهيك عن وجود عدد من الملفات الإقليمية العالقة التي تحتاج لتنسيق عربي وغربي، مثل ليبيا واليمن.
وقد يؤشر على مدى تمسك أردوغان بالحلف الغربي، فتحه لثغرة جديدة مؤخرا خلال قمة الناتو الأخيرة للتعاون مع الغرب، بعد عودة النقاش _ غير الرسمي _ حول انضمام تركيا للاتحاد الأوروبي والإصلاحات الطلوبة، والمطالبة برفع حظر تصدير الأسلحة المفروض عليه من قبل بعض الدول. فمنطقيا، أردوغان لا يقوى على الابتعاد عن الغرب تماما، لأن علاقاته القوية بكلا المعسكرين الشرقي والغربي هي من زادت من أهمية تركيا منذ وصول أردوغان للحكم، هذا إلى جانب مصالحه السياسية والاقتصادية والعسكرية مع الطرفين.
تأثيرات داخلية:
على مستوى الداخل التركي، تقلص حضور جماعة جولن في تركيا بشكل لافت مقارنة بعقود مضت، نتيجة اتهامها من قبل العدالة والتنمية بالضلوع في محاولة الانقلاب الفاشلة، ونجاح الإعلام الأردوغاني في بث مشاعر الكراهية والعداء في صفوف المجتمع التركي لمنتسبي هذه الجماعة. وبذلك فهم خسروا الدعم الشعبي، ودعم أردوغان نفسه بعدما انهار التحالف الذي جمعهم سويا منذ سنوات، حتى أنهم لا يحتفظون بعلاقات جيدة كافية مع الجمهوريين الكماليين، باعتبارهم ذوي خلفية علمانية رافضة لأي حركات دينية، وعلى هذا المنوال سارت العلاقات بينهما منذ عقود، وأخيرا ظهور حركات فاق نفوذها وحضورها من حيث التأثير وعدد الأعضاء جماعة جولن.
ومع ذلك، احتفظت الحركات الصوفية برصيدها وشعبيتها نفسها، بل وازدادت أعدادها بشكل كبير، حتى تجاوزت الـ ٣٣ طريقة لكل منها مُريديها، وفي الغالب تأخذ الحركات الصوفية منحني مؤيدا لأردوغان والعدالة والتنمية، مثل جماعة إسكندر باشا، والسليمانيين وإران كوي وغيرها، والأشهر هي جماعة إسماعيل آغا، التي تستحوذ على وزن انتخابي يتجاوز ال ٣ ٪، وعدد أعضائها يفوق جماعة جولن بكثير، ووقفت هذه الجماعة إلى جانب أردوغان في ٢٠١٦، وفي السباقات الانتخابية الماضية، وكان آخرها انتخابات مايو الماضي.
فالعلاقة بين العدالة والتنمية والصوفية متجذرة إلى حد كبير، لأن الحزب يحتاج لمساندة هذه الجماعات في مواجهة العلمانيين، بالذات وأن التصوف له حضور كبير في المجتمع التركي، ولهذا كان أردوغان ومعاونيه يترددون كثيرا على منازل ومقرات زعماء هذه الجماعات قبيل الانتخابات، وبالتالي فإن العدالة والتنمية قد لا يجازف بخسارتهم.
حتى أن قطاعا كبيرا من الأتراك يرون أن العلاقة بين العدالة والتنمية والصوفية صحية ومتناغمة، على خلاف العلاقات المتذبذبة التي جمعت الحزب مع جماعة جولن، ونجاح الاعلام في تصوير جماعة جولن مهددة للاستقرار الداخلي، وبالتالي فإنها أصبحت لا تتمتع بحضور أو مصداقية كبيرة في المجتمع التركي.
وهذا لا يعني الاندثار التام لأعضاء جولن في الداخل التركي، ولكن كل ما في الأمر أنه في ظل التضييق الذي مارسته الحكومة ضدهم منذ ٢٠١٦ أصبح من الصعب ممارسة نشاطاتهم علنا كما كان في السابق، كذلك يصعب على داعميهم إظهار هذا الدعم علنا، خوفا من الانتقادات الحكومية أو الشعبية.
في الختام، يجب الفصل بين تأثير حادثة محاولة الانقلاب في ٢٠١٦ على نفوذ جماعة غولن وبين مكانة الجماعات الصوفية بشكل عام داخل وخارج تركيا، فأردوغان وحزبه من المستبعد أن ينقلبوا على الجماعات الصوفية في تركيا، لما لها من ثقل سياسي ووزن انتخابي في المجتمع التركي.
وفي ظل التحديات الدولية والإقليمية وسياسة المساومات الراهنة، فقد لا تحظى جماعة جولن بذات الأولوية لا بالنسبة لأردوغان ولا بقية الدول.ومن ناحية أخرى، فهذا لا يعني أن يكف أردوغان عن مطاردتهم في الداخل والخارج، حتى على الصعيد الإعلامي على أقل تقدير، وخاصة في الولايات المتحدة.