تعزيز الحضور.. ما محفزات مشروع التجديد السعودي؟

صاحبت التطورات في منطقة الشرق الأوسط خلال العقد الماضي انخراطًا متزايدًا يفوق المعتاد لدول الخليج العربي في الشئون الإقليمية، وفي مقدمتها المملكة العربية السعودية مع تبلور جملة من التحديات الجديدة أفرزها تأزم الحالتين السورية واليمنية بالأخص وانكفاء قوى عربية تقليدية لصالح دول الجوار في إطار مساعي تلك الأخيرة لتحريك الأوضاع الداخلية للبلدان العربية وصولًا لمملكة البحرين التي شهدت أعمال شغب عام 2011 استدعت تدخل قوات درع الجزيرة (الخليجية).

ولعل التحول الأهم يكمن في صعود قيادة جديدة في الرياض مع تولي الملك سلمان بن عبدالعزيز وانتقال منصب ولاية العهد للجيل الثالث (أحفاد الملك عبدالعزيز آل سعود) وصولًا لما قاده العاهل السعودي وولي عهده الأمير محمد بن سلمان من تغييرات بنيوية وإصلاحات توجتها إطلاق رؤية 2030 التي أبرزت تطلع المملكة للخروج الآمن من عصر الاعتماد على النفط كمحدد رئيس وأوحد للاقتصاد السياسي للرياض وإطلاق الطاقات المجتمعية لآفاق أرحب تدعم تنافسية المملكة على الصعيدين الإقليمي والدولي.

ملامح مشروع التجديد السعودي:

يتبادر للأذهان عن ذكر كلمة التجديد المعنى الديني الذي هو بلا أدنى شك أحد أعمدة سياسة القيادة السعودية، إلا أن المقصود بالمشروع التجديدي في هذا الإطار يتعلق بالتحولات الكبرى التي تطمح الرياض لتحقيقها للحفاظ على مكتسبات مرحلة الطفرة النفطية على الصعيدين الاجتماعي والاقتصادي وتعظيم الاستفادة من إمكانات وموقع ومكانة المملكة العربية السعودية وتدعيم تنافسية اقتصادها عالميًا.

وكان إطلاق رؤية 2030 في 26 أبريل 2015 بمثابة بداية المسار التحولي للحاق بركب المنافسة الإقليمية على النحو التالي:

1-المستوى السياسي: إعادة الهيكلة:

أولت القيادة السعودية الأهمية البالغة بتطوير الأداء الحكومي في إطار برنامج عمل محكم يعيد هيكلة وتقوية ما أسماه ولي العهد بـ”مركز الدولة” بداية من قرار الملك سلمان في 29 يناير 2015، عقب مبايعته بأيام، تأسيس مجلس الشئون الاقتصادية والتنمية ومجلس الشئون السياسية والأمنية برئاسة الأمير محمد بن سلمان، وإلغاء المجالس العليا غير الفعالة، لدعم صياغة سياسة عامة مخططة وتوجيه المخصصات المالية اللازمة لكل قطاع أو وزارة وفقًا لأولويات المملكة في إطار خططها الاقتصادية، بجانب تحقيق الاستجابة المرنة والسريعة والفعالة إزاء التطورات الداخلية والإقليمية التي تؤثر على الأمن الوطني السعودي.

واستدعى ذلك أن ينبثق عن مجلس الشئون الاقتصادية والتنمية عددًا من المكاتب المتخصصة تدعم التراتبية والعمل المؤسسي بأجهزة الدولة لرفع كفاءة إدارة المرافق، فكان إنشاء مكتب الاستراتيجيات المعنى برسم الاستراتيجيات القطاعية، ومكتب للميزانيات لتحديد المخصصات المالية لإنجاز المهام القطاعية، وغيرها من المكاتب واللجان أتى على ذكرها ولي العهد.

2-المستوى الاجتماعي

وضعت رؤية 2030 ضمن محاورها الرئيسية الموائمة بين القيم الأصيلة للمجتمع السعودي بروافدها الإسلامية والعربية من جانب، وتمكين أفراده وفئاته من التفاعل مع أقرانهم باختلاف جنسياتهم وخلفياتهم الدينية والفكرية ومواكبة أحدث ما توصلت إليه البشرية تكنولوجيًا وتعليميًا وثقافيًا من جانب آخر، علاوة على ترسيخ القيم والعادات الإيجابية من خلال الفعاليات الرياضية والثقافية والترفيهية والتمسك بتحسين جودة الحياة للمواطنين والمقيمين.

أ-تبنى منهج الوسطية

يظل النظام الأساسي للمملكة مؤكدًا على هويتها العربية الإسلامية وهو ما أشارت إليه رؤية القيادة السعودية الحالية في خطابات وتصريحات الملك سلمان بن عبدالعزيز وولي العهد الأمير محمد بن سلمان، إلا أن روحًا جديدة في الخطاب الرسمي تبرز التمسك بثوابت العقيدة وتنتقد بعض الممارسات المتوارثة باعتبارها لا تناسب أحوال البشر ولا تتواءم وروح العصر، حلت بديلًا عن التزام الدولة بنهج مدرسة فقيهة بعينها دون غيرها بما يعد تأليهًا لرموز هذه المدرسة.

ب-تمكين المرأة

بلغت الخطوات المتعلقة بالمرأة مرحلة هامة في ظل مساعي إدماجها في الحياة العامة وتخفيف بعض القيود السابقة التي امتدت لحق قيادة السيارة وممارسة النشاط الرياضي، إلا أن أبرز إجراءات تأكيد هذا التوجه هو تمكين المرأة من شغل مناصب هامة في الدولة كان أهمها تعيين ريم بنت بندر سفيرة للمملكة في واشنطن، وشغل سيدات مناصب عليا بالهيئات الحكومية بينهن نائبات للوزراء.

جـ-المدن الذكية والحلول الابتكارية

كان مشروع نيوم باكورة أعمال المملكة في بناء وتطوير مدن ذكية وتتوافر على معايير الاستدامة البيئية وتدعم تحسين جودة الحياة- إلى جانب موقعها الاستراتيجي كحلقة وصل ومركزًا للنقل الجوي بين القارات ثلاث (آسيا وإفريقيا وأوروبا)- وهو ما أكد عليه الإعلان عن مساحات وتجمعات حضرية جديدة على غرار “ذا لاين” المخطط أن تكون خالية من السيارات ومدينة “أوكساجون” الصناعية التي تستهدف جذب رؤوس الأموال الإبداعية لخلق بيئة ابتكارية تدعم جهود التحول الاقتصادي والصناعي المأمول.

 وطرح ولي العهد في منتصف نوفمبر 2021 أول مدينة غير ربحية في ضوء مساعي المملكة لخلق مجال أرحب لعمل مؤسسات القطاع غير الربحي، بهدف دعم الابتكار وريادة الأعمال وتوفير حاضنة تدريبية واقعية تتبنى مفهوم التوأم الرقمي لتمكين الشباب السعودي من تطوير حلول تقنية ورقمية في حقل الذكاء الاصطناعي وانترنت الأشياء.

3-المستوى الاقتصادي

يدور حول الاقتصاد جُل التحديات التي تواجه المملكة في العقود المقبلة، وهو المرتكز الرئيسي لرؤية 2030 التي تهدف لتنويع الاقتصاد القومي ومواكبة التوجه العالمي لاستشراف مرحلة ما بعد النفط، دون أن يعني ذلك تخلي المملكة كليًا عن استغلال موردها الاستراتيجي الأهم حتى نضوبه عبر استغلال مشتقاته في الصناعات البتروكيماوية. وفي ذلك تسعى الرياض لمضاعفة الإيرادات غير النفطية ورفع نسبة مساهمة القطاعين الخاص وغير الربحي في الدخل القومي ومعدلات التوظيف، بجانب الاستفادة من المزايات التنافسية لمختلف مناطق المملكة كعامل جذب سياحي.

أ-تعظيم إيرادات صندوق الاستثمارات العامة

تعول القيادة السعودية على تنمية وإدارة أصول صندوق الاستثمارات العامة لتعويض الفاقد من الإيرادات النفطية مستقبلا، من خلال الاستثمار في المجال الأخضر بجانب الإنفاق على مشاريع الرعاية الاجتماعية والصحية، حيث من المخطط أن تحقق معظم أصول الصندوق عائد سنوي يبلغ 7 % بإجمالي حجم الصندوق 10 تريليونات ريال بحلول 2030، بدلًا من الهدف الأولي للرؤية ببلوغ 7.5 تريليون فقط. وانعكست استثمارات الصندوق ، إيجابيًا على نسبة الإيرادات غير النفطية التي قاربت 39 % من جملة إيرادات الدولة، بجانب عوامل أخرى على رأسها الضرائب.

ب-استقطاب الشركات الكبرى

عززت المملكة من تنافسيتها كبيئة أعمال جاذبة للاستثمارات وروؤس الأموال الأجنبية مع تهيئة بنية تحتية معلوماتية عالية الكفاءة، لترتقي لطموح الرياض بأن تكون مركزا إقليميا للأعمال والخدمات اللوجستية منافسًا لدبي، وهو ما أبرزه قرار ولي العهد بعدم التعامل مع أي شركة ما لم تنقل مقرها الإقليمي إلى العاصمة الرياض بحلول 2024.

جـ-دعم مساهمة القطاع الخاص

يمثل برنامج “شريك” رأس الحربة في توسيع مساهمة القطاع الخاص بالدخل القومي وإضافة المزيد من فرص العمل في إطار خطة عمل تضم حوالي 30 شركة سعودية كبرى بالتعاون مع الحكومة لضخ استثمارات تقدر بنحو 5 تريليونات ريال بحلول 2030، بجانب جهود تخصيص بعض الشركات الحكومية لدعم التنافسية ورفع جودة الخدمات المقدمة للمواطن. وهو ما يعزز على الجانب الآخر من ثقة المستثمر الأجنبي في انفتاح السوق السعودي.

ء-تعزيز مرونة القطاع النفطي

تجادل الرؤية بأن الطلب على النفط سيظل مرتفعًا حتى 2030، بعكس الأطروحة السائدة عالميًا، ومن ثم تخطط المملكة لرفع ربحية القطاع النفطي مقابل التزام بعض المعايير التي تراعي تخفيض الانبعاثات مثل تبني فكرة الاقتصاد الدائري للكربون والاستفادة من المخرون النفطي في رفع طاقة النفط الموجه للصناعات التحويلية من نحو مليون برميل فقط إلى 3 ملايين برميل سنويًا بحلول 2030.

4-سياسة خارجية نشطة

يقع على رأس آليات خلق وتنمية المصالح المشتركة وتنسيق المواقف مع دول الجوار تأسيس مجالس تنسيق امتدت مؤخرا لكافة دول مجلس التعاون الخليجي بعد تأسيس مجلس تنسيقي مع كل من سلطنة عُمان ودولة قطر خلال النصف الثاني من العام 2021، في دلالة قوية على استمرار نهج المملكة الاعتماد على تلك المسارات الثنائية في دعم مصالحها وتوحيد الصف الخليجي في المواقف والتوجهات عبر تعزيز المصالح الاقتصادية المتبادلة إلى أعلى مستوً ممكن. وتشمل تلك الآلية التنسيقية دول عربية أخرى منها مصر والعراق والأردن والمغرب والجزائر.

وعلى صعيد آخر تغيرت توجهات السياسة الخارجية السعودية بفعل عوامل الأزمة اليمنية والحرب الروسية الأوكرانية والتحولات في سوق الطاقة العالمي، فباتت أكثر حذرًا في علاقاتها مع الولايات المتحدة بالتوازي مع تعظيم الاعتماد على العلاقات الاقتصادية والتجارية والسياسية مع القوى الآسيوية مثل الصين وكوريا الجنوبية واليابان في مجالات النفط والبتروكيماويات والهيدروجين الأخضر، وكذلك الصناعات الدفاعية.

واعتمدت الرياض بالتوازي على لعب دور فعال على صعيد عمليات بناء السلام في مناطق النزاعات مثل استضافة مباحثات وقف إطلاق النار في السودان بالتعاون مع الولايات المتحدة، ومباحثات السلام في أوكرانيا، فضلًا عن دورها في عمليات تبادل الأسرى والسجناء بين روسيا وأوكرانيا والشركاء الغربيين.

وإجمالًا؛ مثلت تطورات المشهدين الأمني والاقتصادي دوليًا، وقودًا محفزًا للتحولات الجارية في المملكة للحفاظ على موادرها وتنميتها وتعزيز حضورها على الصعيدين الإقليمي والدولي لقيادة سياسة خارجية أكثر توازنًا وتأثيرًا، فكانت الأولوية لإجراء إصلاحات هيكيلة على كافة المستويات تضمن فاعلية جهاز الدولة في التخطيط وقيادة التحولات عبر تنظيم الثروة وإدارتها وتحفيز القطاع الخاص المحلي وجذب رؤوس الأموال الخارجية الداعمة لتحول المملكة، وصولًا للتحولات الاجتماعية التي تعزز مشاركة كافة فئات المجتمع في التحول ومواجهة الآراء المتشددة المنغلقة على أحد التفسيرات والمذاهب الفقيه دون قبول غيرها.

ضياء نوح

المنسق الأكاديمي للمركز، حاصل علي بكالوريوس العلوم السياسية ، وباحث ماجستير في ذات التخصص ، له العديد من الدراسات والأبحاث المنشورة في مراكز الفكر والمجلات العلمية ، متخصص في شئون الخليج وإيران .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى