كيف يمكن إعادة ترتيب خطة ترامب لمستقبل غزة؟

احتفظت خطة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب لإنهاء الحرب في غزة باهتمام بالغ في الأوساط الإعلامية والسياسية حول العالم نظرًا لما تطرحه من رؤية شاملة لإنهاء الحرب وترتيب مرحلة انتقالية يتم فيها وإعادة المحتجزين الإسرائيليين أولًا ونزع سلاح حركة حماس وفصائل المقاومة الفلسطينية المسلحة الأخرى وتفكيك البنية التحتية العسكرية من أنفاق ومنشآت لصناعة وتخزين الأسلحة، وذلك قبل تدشين سلطة انتقالية تخضع لإشراف دولي وتوفر ضمانات أمنية وإنسانية لإغاثة غزة فضلًا عن الجدول الزمني المأمول لإنهاء تلك الإدارة الدولية التي تقيد حق تقرير المصير الفلسطيني.
وتأسيسًا على ما سبق؛ تتناول الورقة التالية سبل الاستفادة من الورقة الأمريكية في معالجة الثغرات والهواجس الفلسطينية والمصرية والعربية.
رؤية واحدة بمسارين
يمكن بداية القول إن الخطة المطروحة بصيغتها الحالية ينطوي على العديد من الفرص كما تحمل على الجانب الآخر ثغرات خطيرة قد تجهض مشروع الدولة الفلسطينية والذي برز بصورة واضحة في الاعترافات الدولية المتتالية والتي كانت دافعًا لطرح الخطة في ذلك التوقيت مع ما يشوبها من نصوص تحقق مطالب الجانب الإسرائيلي، بالتالي فإن تجسيد تلك الرؤية في صورة وثيقة دولية محط توافق الشركاء الإقليميين والدوليين من أصحاب المصلحة يتجاوز حل القضية الفلسطينية إلى تمهيد الطريق أمام اندماج إقليمي واسع النطاق بضمانات أمنية واقتصادية كاملة ودون إقصاء أي طرف.
ويمكن استعراض أهم الضمانات التي يمكن إضافتها للخطة لتعزيز نجاحها وفق أي من المسارين التاليين:
(*) الشمولية: إن أهم ما يميز أي خطة لإنهاء حرب وحشية استمرت عامين وأفضت لانخراط العديد من الفواعل الحكومية وغير الحكومية على امتداد الإقليم أن تشمل مختلف الأطراف الفاعلة في الأزمة ودون التلاعب بأوراق التسوية لاستهداف أحد الأطراف. ويعتمد هذا المسار على انخراط إيران غير المباشر في دينامية السلام الإقليمي المأمولة بما قد يفضي مستقبلًا إلى ترتيب مؤسسي إقليمي لفض النزاعات دون اللجوء لاستخدام القوة على غرار منظمة الأمن والتعاون في أوروبا والتي أبعدت شبح الحرب عن القارة العجوز لعقود. ويحقق انخراط إيران عدد من الأهداف ومنها الحفاظ على استقرار منطقة الخليج وتأمين الممرات المائية الاستراتيجية وتعزيز أمن الطاقة العالمي. وعلى الجانب الآخر فإن الوصول إلى استقرار مستدام يمر عبر تعزيز دور الدولة الوطنية في المشرق العربي وإنهاء وجود الميليشيات المسلحة المدعومة إيرانيًا عبر عملية سلمية متعددة المراحل لنزع السلاح وإعادة دمج المقاتلين اجتماعيًا واقتصاديًا.
(*) اتساق الأهداف والدوافع: إن معالجة الهواجس الأمنية لبعض الأطراف لا يمكن أن تُبنى على تحقيق الأمن الأقصى لطرف دون آخر وإنما يخضع لمقررات الشرعية الدولية، على غرار الالتزام بالاتفاقات الموقعة بين إسرائيل ودول المنطقة وعلى رأسها اتفاقات أوسلو والتي ينبغي أن تُعدل وفق متطلبات الوضع الراهن وخلق إطار جديد للسلام الفلسطيني الإسرائيلي من أجل تحصين السلطة الوطنية الفلسطينية وعبر تضمين الإصلاحات المطلوبة وتقديم جدول زمني مُحكم يتضمن إعادة قطاع غزة لـ”السيادة الفلسطينية” وبضمانات عربية ودولية من أجل قطع الطريق على الصياغات الفضفاضة حول مهام مجلس السلام وحدود تفويضه موضوعيًا وزمنيًا، إلى جانب ضمان مشاركة وازنة للسلطة الوطنية والدول العربية الفاعلة في تشكيل المجلس.
(*) الشراكات الإقليمية المعززة: إن أي ترتيب مستقبلي ينبغي أن يشمل العديد من الفواعل من خارج الإقليم التي ترتبط بأمنه ارتباطًا وثيقًا وعلى رأسها أوروبا والتي لا تزال أقرب الشركاء الدوليين تأثرًا بأمن المنطقة في العديد من الملفات بدءًا من الهجرة واللاجئين وصولًا إلى أمن الطاقة والعمليات الإرهابية والعنيفة المتأثرة بالنزاعات في الشرق الأوسط. ومن المهم أيضًا الحفاظ على جهود تنمية وإعادة إعمار قطاع غزة بعيدًا عن الاستقطابات الجيوسياسية والجيواقتصادية الدولية وذلك من خلال ضمان مشاركة فاعلة من الطرفين الروسي والصيني في سياق عملية إقليمية شاملة تشمل تعهدات بالعمل الجماعي لحل الصراع الفلسطيني الإسرائيلي وعملية السلام في الشرق الأوسط وعدم استهداف مصالح أي طرف بالمنطقة إلى جانب تفعيل العديد من الشراكات الاقتصادية الثنائية ومتعددة الأطراف تمهيدًا لتكامل واندماج إقليمي عميق على المدى البعيد.
(*) الضمانات الأمنية للجميع: يمنح التفوق العسكري النوعي لإسرائيل شعورًا بالتهديد يتجاوز الجوار المباشر إلى الإخلال بأمن المنطقة في ضوء تمدد اليمين الاستيطان المتطرف الذي يؤمن برؤية إسرائيل الكبرى. وينبغي أن تلتزم أي حكومة إسرائيلية مقبلة بتعهدات دولية تقيد السلوك العدواني وتلتزم بأمن دول المنطقة وعدم الاعتداء على سيادتها ووحدة أراضيها في إطار دستور مكتوب. وتشمل الضمانات ترتيبات ثنائية ومتعددة الأطراف لأمن الحدود بهدف خفض التسليح وضبط الحدود لمنع عمليات تهريب الأسلحة ومواجهة نشاط منظمات الجريمة العابرة للحدود. كما يخضع ذلك البند لأهمية كبرى في إعادة تأسيس منظومة الأمن الإقليمي عبر توقيع اتفاقية دولية للأمن الإنساني في منطقة الشرق الأوسط عبر إقرار جزاءات رادعة تمنع استهداف المدنيين والبنية التحتية المدنية في مناطق النزاعات وتوفير مساهمات مالية متناسبة من مختلف الأطراف الفاعلة إقليميًا لمعالجة انتشار الفقر وتردي الأوضاع الصحية والمعيشية في البلدان المتأثرة بالنزاعات.
هندسة الاتفاق
مع هامشية هذا الجيب الساحلي المعزول عن العالم بفعل الحصار، إلا أن وقوع قطاع غزة على مفترق طرق إقليمي وخارج سيطرة القوة الأمريكية المهيمنة يجعله ورقة جيوسياسية هامة قد تعقد مشهد السلام والاندماج الإقليمي وفق رؤية ترامب.
وفي ضوء ما سبق؛ يمكن استعراض العديد من الآليات والإجراءات المقترحة لاستغلال خطة غزة لمصلحة الدولة الفلسطينية المأمولة، وذلك على النحو التالي:
(&) تشكيل مجلس السلام: ينبغي أن تنحصر مهام المجلس في إعادة الإعمار والإشراف على أعمال الحكومة المقترحة في إطار الشرعية الدولية، كما يتعين أن يتشكل المجلس من أغلبية فلسطينية وعربية موصوفة تتضمن ممثلًا عن السلطة الوطنية ودول الجوار العربي والبلدان الشريكة في خطة السلام اقتصاديًا وسياسيًا وأمنيًا، ويتعين تشكيل المجلس وفق تفويض زمني محدود لا يقل عن سنتين ولا يزيد عن 5 سنوات بحد أقصى وفق مخطط زمني وسياسي ومحكم يبدأ بإدخال المساكن المؤقتة وإزالة الركام وينتهي بتسليم كامل أراضي القطاع للسلطة الفلسطينية.
(&) إطار أمني جديد: من المهم إعادة النظر في الإطار الأمني الحاكم لعلاقة القطاع بإسرائيل والعالم الخارجي برمته، من خلال تولي قوة الاستقرار الدولية المقترحة تأمين محيط القطاع على الجانبين بفرض منطقة أمنية بعمق 1 كم في كل من المناطق الحدودية شمال وشرق قطاع غزة ومنطقة مماثلة في مناطق الغلاف المتاخمة لتحييد أي تهديدات جوية محتملة. كما ينبغي أن يتم تطوير اتفاقات السلام العربية الإسرائيلية لتشمل التزامًا قانونيًا بعدم استهداف المدنيين الفلسطينيين في المواجهات مع الفصائل وتحييد البنية التحتية المدنية الاستهدافات واحترام سيادة دول المنطقة التي تستضيف قادة الفصائل الفلسطينية بالنظر لأهمية ذلك في احتواء إيران وخلق أجواء ملائمة لجهود الوساطة الفاعلة، إلى جانب العودة لتطبيق مُعزز لاتفاق المعابر تحت سيطرة السلطة الوطنية وبإشراف مراقبين أوروبيين وأمميين.
(&) المظلة الأممية: في إطار تحقيق الشفافية والمراقبة الفعالة لأوجه إنفاق عمليات تمويل إعادة الإعمار وإدارة موارد وأصول القطاع يُقترح تدشين لجنة عربية إسلامية بقرار أممي تشرف على تلك العمليات التي يقودها “مجلس السلام”، إلى جانب مراقبة تسليم وتسلم مهام الحكم والإدارة خلال الفترة الانتقالية المقترحة من المجلس إلى السلطة الوطنية، إلى جانب دورها في متابعة جهود توحيد الأراضي الفلسطينية تحت سلطة وطنية موحدة وحثها على إجراء الإصلاحات اللازمة وصولًا لإجراء الانتخابات الرئاسية والعامة. وفي ذات السياق تتولى اللجنة اتخاذ الإجراءات اللازمة لاستغلال موارد القطاع وتطويرها من خلال اتفاقيات لتطوير آبار وموارد المياه وربط القطاع بشبكة الكهرباء المصرية وتعزيز استغلال موارد الغاز في ساحل غزة لصالح إعادة الإعمار عبر تحالف طاقة عربي أمريكي باستغلال البنية التحتية لنقل وتداول الغاز المصرية.
(&) تطويق التهديدات: إن تهيئة الإقليم للاتفاق الجديد تتطلب احتواءًا فعالًا وغير عنيف لإيران أو بالحد الأدنى تطويق شبح التصعيد في مجالات الطاقة وأمن الممرات الملاحية الدولية. وتتمثل الأولوية المصرية والعربية في احتواء شبح التصعيد بالبحر الأحمر والخليج العربي من خلال إعطاء الضوء الأخضر لتصدير كميات من النفط الإيراني مقابل وقف استهدافات أمن الملاحة في البحر الأحمر من قبل الحوثيين. ويتطلب ذلك إنهاء عسكرة البحر الأحمر وقصر مسئولية ضمان أمن المنطقة على الدول المشاطئة حصرًا ومشاركة الدول المشاطئة والأطراف الإقليمية والدولية أصحاب المصلحة لضمان تنمية سواحل المنطقة وتعزيز سلامة الأنظمة البحرية ومحاصرة التهديدات الأمنية والمناخية بما يتضمن الحفاظ على وحدة وسلامة أراضي دول المنطقة وتيسير الحوار السياسي الداخلي في الصومال وسبل تعزيز التكامل الإقليمي.
وإجمالًا؛ على الرغم من صعوبة تحقيق العديد من البنود السابقة في المدى المنظور إلا أنها تمثل أساسًا لعملية سلام إقليمية عادلة ومستدامة، إذا ما أُحسن استغلال الظرف التاريخي الراهن في إعادة توجيه بوصلة السلام في غزة، وتهيئة الظروف لميلاد الدولة الفلسطينية بما يتماشى مع رغبة ترامب في الحصول على جائزة نوبل للسلام وإعادة إطلاق مسار السلام الإقليمي مع إسرائيل.