سردية متجددة.. حدود وأنماط تفعيل الدفاع العربي المشترك

مع تعاظم التهديدات الأمنية التي تواجه الأمن القومي العربي، ترتفع النداءات لتفعيل منظومة للأمن الجماعي لردع نوايا العدوان تجاه دول المنطقة رغم التباينات التي تضرب الشارع والنخب العربية حول خريطة التهديدات وبالتالي قدرة الأطراف العربية على التوافق بشأن آليات ووسائل الدفاع عن المصالح العربية المشتركة من الحفاظ على وحدة الدول العربية وسلامتها الإقليمية دون التدخل في شئونها الداخلية إلى مكافحة الإرهاب وصولًا إلى العدوان الخارجي على دول ذات سيادة، وذلك في ظل المواءمات السياسية والاستراتيجية التي تعزز حالة عدم الانسجام في الرؤى والأهداف. ويخلق العدوان الإسرائيلي على الدوحة تغييرًا في نظرة دول الخليج تجاه خريطة التهديدات مع أولوية مواجهة السلوك الإسرائيلي المزعزع للاستقرار والذي استهدف النيل من أمن منطقة الخليج التي ترتبط فيما بينها باتفاقية للدفاع المشترك.
وتأسيسًا على ما سبق؛ تسعى الورقة التحليلية التالية للتعرف على إمكانات التعاون الدفاعي العربي في إطار معاهدة الدفاع العربي المشترك وفرص تفعيلها في مواجهة أي عدوان محتمل على دولة عضو.
إطار للتعاون
تنطوي اتفاقية الدفاع المشترك والتعاون الاقتصادي على إطار واسع لتنظيم التعاون العسكري في إطار حق الدفاع الشرعي عن النفس في حال تعرض أي من الدول الأعضاء لاعتداء، كما سعت لتنظيم هيكل التعاون الدفاعي من خلال مجلس الدفاع الذي يضم وزراء خارجية ودفاع الدول الأعضاء، كما أشار الملحق العسكري للمعاهدة إلى إنشاء اللجنة العسكرية الدائمة المكونة من ممثلي هيئة أركان الجيوش المشاركة والتي تُعنى بإعداد الخطط الدفاعية وتنظيم التمارين العسكرية المشتركة وتقديم المقترحات حول استثمار الموارد الاقتصادية للدول الأعضاء في دعم المجهود الحربي، كما تُعنى اللجنة بإنشاء لجان عسكرية فرعية دائمة أو مؤقتة في أحد قضايا اختصاص اللجنة العسكرية الدائمة. وتضمن البروتوكول الإضافي للمعاهدة تأسيس هيئة استشارية عسكرية من رؤساء أركان الجيوش المشاركة تشرف على أعمال اللجنة العسكرية الدائمة وتوجه مجهودها وتتلقى تقاريرها، لتكون بذلك الهيئة الاستشارية حلقة وصل بين اللجنة الدائمة ومجلس الدفاع.
ومع هذا الإطار الواسع لاتفاقية الدفاع العربي المشترك كانت جهود الحفاظ على الأمن الجماعي في الإطار العربي فاعلة في حالات محدودة واعتمدت على مساهمات من بعض الفاعلين الذي حظوا بدعم رمزي من الجامعة، وعلى رأسها قوة الردع العربية التي تدخلت في لبنان إبان الحرب الأهلية وتشكلت في أعقاب القمة العربية المصغرة في الرياض 1976 بمهام أمنية للحفاظ على وحدة التراب اللبناني، وتشكل قوامها الرئيسي من القوات السورية ومشاركات رمزية من السعودية واليمن والإمارات والسودان.
وفي الإطار الخليجي اتخذت دول مجلس التعاون خطوات ملموسة في التعاون العسكري، وتناولت اتفاقية الدفاع المشترك لمجلس التعاون لدول الخليج العربية التعاون في الصناعة الدفاعية بتدشين قوات درع الجزيرة التي تكامل وجوها في حفر الباطن بالمملكة العربية السعودية عام 1985 وتعزيزها في كافة مجالات الحرب تحت قيادة عسكرية موحدة، فضلًا عن اتخاذ خطوات جادة لتعزيز التعاون بين الأفرع الرئيسية للقوات المسلحة للدول الأعضاء ودعم البنية التحتية العسكرية الخليجية، مثل مشروع الاتصالات المؤمنة لتسهيل الاتصال بين القوات الخليجية ضمن شبكة اتصالات مؤمنة، وكذلك مشروع حزام التعاون لربط مراكز عمليات القوات الجوية والدفاع الجوي. ومثل تدخل قوات درع الجزيرة لحفظ الاستقرار في البحرين عام 2011 بمهام أمنية تطبيقًًا عمليًا لحالة الدفاع الخليجي المشترك.
تقاطعات استراتيجية
وفي خضم المخاوف الخليجية من برنامج الصواريخ الباليستية التي لعبت دورًا مزعزعًا للاستقرار عبر تسليح الميليشيات الموالية لها في اليمن والعراق وسوريا ولبنان، تباينت الرؤى العربية حول سبل التصدي لذلك التهديد عبر أفكار ورؤى عربية ودولية جاء في مقدمتها تشكيل قوة عربية مشتركة في 2015 تتولى صون الأمن القومي العربي من التهديدات الإرهابية والحفاظ على الدولة الوطنية العربية مكونًا رئيسيًا في الحفاظ على النظام الإقليمي العربي.
مثل بروتوكول تشكيل القوة العربية المشتركة تفصيلًا مهمًا لتفعيل الدفاع الجماعي العربي متضمنًا إعادة النظر في تراتبية القرار السياسي والعسكري التخطيطي والميداني متطرقًا لطبيعة تشكل القوة المشتركة وطبيعة المساهمات والتمويل الذاتي لعناصر كل دولة مشاركة، إلا أن مشروع القوة ذهب أدراج الرياح أمام تحديات مختلفة وبرز مقترحات بديلة فيما عُف بتلك الفترة بـ”ناتو الشرق الأوسط” والذي كان موجهًا بصورة رئيسة تجاه إيران وتضمن دخول قوى إقليمية أخرى بدفع من الولايات المتحدة. وتحول المشروع وفق الأطروحات البحثية الغربية إلى تحالف للدفاع الصاروخي يدمج دفاعات إسرائيل مع بعض دول المنطقة، إلا أن الخلافات البينية في البيت الخليجي وعدم وجود علاقات رسمية مع تل أبيب ورفض العديد من القوى الرئيسية في المنطقة المشاركة في تحالف عسكري موجه ضد أحد القوى الإقليمية المهمة حال دون ذلك المشروع الذي جاء لتهدئة مخاوف الدول الخليجية من جهة ولإجهاض أي توجه لتدشين قوة عربية مشتركة من جهة أخرى.
إعادة ضبط بوصلة القرار
يحتفظ الحديث عن قوة عربية مشتركة ببريق متجدد مع الأزمات التي يموج بها العالم العربي، فقد فرضت الاصطفافات الاستراتيجية مع الولايات المتحدة وقوى إقليمية غير عربية في إطار التحوط من نفوذ إيران أو قوى أخرى داخل البيت العربي تباينًا في المصالح الاقتصادية، إلا أن العدوان الإسرائيلي الغاشم على أمن المنطقة والمساعي الحثيثة لإعادة تشكيل منطقة الشرق الأوسط باستخدام القوة العسكرية عبر تقويض حل الدولتين وتهجير الفلسطينيين من أرضهم بات دافعًا لإعادة النظر في خارطة التهديدات التي تواجه الأمن القومي العربي، خاصة مع عدم موثوقية الدور الأمريكي في الحفاظ على أمن المنطقة والانجرار خلف مخططات حكومة اليمين المتطرف بالتأييد تارة وبالتغاضي وتجنب الإدانة تارة أخرى.
ويبدو أن التقدم في تفعيل منظومة للأمن الجماعي العربي ينطلق من رؤية تكاملية، يمكن استعراضها على النحو التالي:
(*) بناء الثقة: كان تأسيس الجماعة الأوروبية للفحم والصلب خطوة أولى لتحويل أدوات الحرب إلى طريق يمهد لسلام وتكامل الدول الأوروبية. وعلى مدار 4 أعوام من انتهاء الأزمة بين الرباعي العربي وقطر واتفاق المصالحة بين السعودية وإيران تعززت أطر الثقة والتعاون بين دول المنطقة على أساس احترام المصالح المشتركة رغم استمرار التصادم في ملفات إقليمية عدة من العراق إلى اليمن. ومن ثم فإن استعادة الثقة بين الأطراف الإقليمية وداخل المنظومة العربية يمر عبر المزيد من الاعتماد الاقتصادي المتبادل وتوقيع اتفاق عدم اعتداء بين إيران ودول الخليج بضمانات عربية ودولية قد تقيد نفوذ الولايات المتحدة وتعزز التحوط تجاه الفواعل الإقليميين والدوليين.
وفي ذات الإطار من المهم أن يتحول الملف النووي سببًا للتقارب بين دول المنطقة تمهيدًا لإعادة تشكيل النظام الإقليمي على أسس الاعتماد المتبادل واحترام القانون الدولي عبر تدشين تحالف إقليمي لتخصيب اليورانيوم بين إيران والخليج ومصر وتركيا والدول الراغبة في الاستفادة السلمية من الطاقة النووية وإقامة منطقة خالية من الأسلحة النووية في الشرق الأوسط.
(*) التحالف الدفاعي: من المهم أن يرتكز التعاون بين الدول العربية على رؤى واقعية تستلزم إقامة الشراكات الصناعية الدفاعية والشروع في مناقشات جدية لتدشين منظومة متكاملة للدفاع الصاروخي والتعاون في تأمين السواحل والمقدرات الاقتصادية البحرية، والمشاركة في نشر قوات حفظ سلام عربية في البلدان الشقيقة المتأثرة بالنزاعات الأهلية والإرهاب. ويمثل تحديد أطر التعاون في إطار الحفاظ على الأمن الجماعي في تحصين القرار العربي ضد الضغوط المتواصلة التي تستهدف إجهاض ذلك الحراك. وإلى جانب ذلك فإن تفعيل معاهدة الدفاع العربي المشترك يستلزم البدء باتفاقات جزئية تضم عدد من الدول التي تتشاطر ذات الرؤى والتوجهات تجاه المخاطر المحيطة بأمن تلك الدول والأمن القومي العربي ككل لا يتجزأ.
وإجمالًا؛ تمثل الخلافات البينية والضغوط الأمريكية عوامل رئيسية في إضعاف أي توجه لبناء منظومة أمن جماعي عربي استنادًا لمعاهدة الدفاع المشترك وبالتوافق مع ميثاق الأمم المتحدة في تشكل قوة سلام للدفاع الشرعي في مواجهة أي اعتداء خارجي. وتمثل منطقة الخليج العربي المحفز الرئيسي لمد مظلة الاستقرار الإقليمي وتقويض أي مخططات لتقويض أمن المنطقة عبر إيجاد تسوية تغلق باب التهديد الإيراني وجذب التحالفات الدفاعية بين دول الخليج مجتمعة ومصر، إلى جانب التعاون العربي مع دول الجوار الإسلامي المؤثرة على غرار باكستان وتركيا؛ حيث يرتبط الخليج تاريخيًا بعلاقات وثيقة مع إسلام آباد.