هل يسعى “الجولاني” إلى فصل “إدلب” عن سوريا؟
أعلن “تنظيم داعش” أمس الـ ٤ من أغسطس ٢٠٢٣ مقتل زعيمه “أبو الحسين الحسيني القرشي” على يد أعضاء من “هيئة تحرير الشام”، بالإضافة إلى اعتقال الهيئة أفراد آخرين من داعش منهم “أبو عمر المهاجر”، الجدير بالذكر أن الهيئة التي تسيطر بشكل كامل على محافظة “إدلب” شرق غرب سوريا منذ أربعة أعوام، تسعى منذ أكثر من عامين إلى التخلص والقضاء نهائيًا على كل التنظيمات الإرهابية في المنطقة، كما تحاول تحسين صورتها أمام المجتمع الدولي، وتقديم صورة جديدة باعتبارها فصيل سوري معارض “مسلح”، بغرض غسل سمعتها كفصيل إرهابي- يحاول التخلص من هذه الوصمة – انتمى إلى “تنظيم القاعدة” حتى ٢٠١٦ وينتمي إلى “تنظيم داعش” من قبله.
عليه؛ فقد فرضت التغيرات السياسية واقع جديد داخل محافظة “إدلب”، قد يكون من الضروري دراسته وتحليله، كمحاولة للإجابة على تساؤلات مهمة، قد تسهم في رسم صورة عن ملامح الفترة المقبلة؛ هي كالتالي: هل يسعى “أبو محمد الجولاني” زعيم “هيئة تحرير الشام” إلى تطهير محافظة “إدلب” من التنظيمات الإرهابية، تمهيدًا لفصلها عن سوريا؟، وما احتمالية أن ينجح “الجولاني” في مثل هذا السعي؟، وما ردود فعل التنظيمات المسلحة في المنطقة؟، وهل تتوفر عوامل ضغط تضطر الفواعل الدولية في المنطقة لقبول هذا الانفصال؟
أمر واقع:
فرضت “هيئة تحرير الشام” سياسة الأمر الواقع داخل محافظة “إدلب”، منذ أن سيطرت الهيئة بشكل كامل على معبر “باب الهوى”، الذي يفصلها عن تركيا، مما حد من دخول القوات التركية باستثناء ما تسمح بتواجده مضطرة، حيث تعد تركيا شريان الحياة الوحيد الذي يربط “إدلب” بالعالم الخارجي، كما أدت سيطرة الهيئة على المعبر بتحكمها في المساعدات الإنسانية، التي يفترض دخولها للمدنيين المتضررين من الأوضاع الإنسانية الصعبة سواء بسبب الحروب أو الزلازل، فوفق شهادة صحفي فرنسي، فإن الطريق بين الحدود التركية ومحافظة “إدلب” ممهد ومزروع بأشجار مستوردة، والوفود الأممية تعبرها بانتظام لإدخال المساعدات الإنسانية.
لقد ساهم تحكم “هيئة تحرير الشام” في المساعدات الإنسانية إلى خضوع السكان المحليين إلى النظام الذي فرضته الحركة، فأصبح المواطنين يتعاملون معها باعتبارها السلطة الشرعية الحاكمة في المنطقة، وعزز هذا المشهد، مجموعة من العوامل هي كالتالي:
(*) غيرت الهيئة من سياساتها تجاه الديانات والطوائف المختلفة ولو بشكل تكتيكي لتحسين صورتها أمام المجتمع الدولي، حيث تم رد المنازل والأراضي الزراعية للمسيحيين وفتحت الكنائس، التي كانت الهيئة قد أغلقتها وصادرتها منهم في أوقات سابقة، كما تعتبر الطائفة الشيعية أقلية داخل محافظة “إدلب” غير مؤثرة وغير مثيرة لأحداث قلاقل.
(*) عرض “الجولاني”على”حكومة الإنقاذ السورية” خطة شاملة لتطوير منطقة سيطرته وربطها بالعالم الخارجي، حيث تتعلق الخطة بتطوير آليات الزراعة والصناعة والسياسات المحلية، بالإضافة إلى التخلص من التنظيمات المسلحة كليًا في “إدلب”، مما أعطى السكان المدنيين الأمل في حياة مستقرة طالما تشوقوا إليها.
(*) حلت الهيئة تحالفاتها مع الفصائل المسلحة الصغيرة، بعد انتهاء الحاجة إلى مساعدة تلك الفصائل في صد هجمات “نظام الأسد”، ثم سعت للتخلص من تلك الفصائل مثل إعلانها الحرب على جماعة “حراس الدين” التي حيدت الهيئة عناصرها سواء بالقتل أو الاعتقال، فضلًا عن حربها ضد “تنظيم داعش” وتقويض نشاطه داخل “إدلب” والمناطق المحاذية لها، حيث حاول التنظيم نقل نشاطه إلى محافظة “إدلب” بعد أن حظي بهزائم متتالية من “نظام بشار” في ريف “حماة”.
(*) نجح “الجولاني” للتسويق للهيئة على أنها البديل الأمن للسكان المحليين، لتوفير الحماية الشرطية والعسكرية من فلول الجماعات المتطرفة، وتقديم الخدمات المحلية لسكان المنطقة، حيث أنشأت الهيئة وكالة “إباء” الإعلامية التي تسوق لسياسات وإنجازات الهيئة عبر قنوات “تليجرام”.
الفروع الرخوة للتنظيمات:
تراجع قدرة التنظيمات الإرهابية خاصة “تنظيم داعش” على شن هجمات على”إدلب” مكن “هيئة تحرير الشام” من السيطرة الكاملة على المنطقة، فقد شن “تنظيم داعش” آخر هجوم له على ريف “حماة” التابع لسيطرة “نظام الأسد” في أبريل الماضي، وبلغت حصيلة القتلى حتى نصف العام الحالي ٢٣٠ شخصًا في هجمات تصنف ضعيفة، وفي مناطق بعيدة عن سيطرة الهيئة بين ريف “دير الزور وحماة”، مما يعكس عدم قدرة “تنظيم داعش” على مجابهة “هيئة تحرير الشام” في منطقة نفوذها.
وعلى الرغم من اختيار قادة “تنظيم داعش” السابقين الاختباء في محافظة “إدلب”، فقد يغير التنظيم سياساته الأمنية بعد مقتل أغلب قياداته الأولى والوسطي على يد الهيئة مؤخرًا، خاصًة في ظل وجود اختراق أمنى واستخباراتي واضح داخل التنظيم يقوض قدرته على تأمين قادته، بحيث لم يستطيع التنظيم المحافظة علي حياة أخر ثلاث زعماء للتنظيم لمدة سنة كاملة على الأقل، مما أدى وسيؤدي إلى انشقاق عناصر التنظيم وانضمامهم إلى تنظيمات آخري، أو عملهم بمفردهم كذئاب منفردة.
أما عن تواجد “تنظيم القاعدة” في “إدلب” فقد ضعف إلى حد كبير حتى كاد أن يندثر، على إثر انفصال “جبهة النصرة” عنه عام ٢٠١٦، والتي أصبحت “هيئة تحرير الشام” بعد ذلك، وبقي من لم ينفصل عن “القاعدة” وأطلقوا على أنفسهم جماعة “حراس الدين”، فأصبح فرع “القاعدة” الجديد في سوريا من حينها إلى الآن في أضعف حالاته، بفعل ضربات الولايات المتحدة وهيئة تحرير الشام له، فضلًا عن الاعتقالات التي طالت أغلب قادة وعناصر التنظيم، ففي بداية فترة الانفصال كان عدد عناصر جماعة “حراس الدين” لا يتعدى ألفين عنصر، ثم أصبح في أضعف مراحله الآن، فلم يبق منه ثلث هذا العدد، ويختبأ عناصر التنظيم وسط المدنيين بعد التنسيق الذي تم بين الولايات المتحدة والهيئة للقضاء عليه، تزامن هذا مع ضعف قوة تنظيم “القاعدة”الفرع المركزي في أفغانستان بعد مقتل زعيمه “أيمن الظواهري” في ٣١ يوليو ٢٠٢٢ وعدم تنصيب زعيم للقاعدة بعده حتي حينه مما انعكس على ارتفاع أعداد المنشقين عن التنظيم.
حسابات برجماتية:
من مجمل المعطيات السابقة؛ قد يبدو لمتابع الشأن السوري أن “الجولاني” قد يسعى إلى فصل محافظة “إدلب” عن سوريا، وإعلان حكومته رسميًا عليها، فهل تمكنه الأوضاع الدولية من ذلك؟، ليتمكن “الجولاني” من فصل محافظة “إدلب” عن سوريا، وهل يتمكن من الحصول على موافقة الفواعل الدوليين في المنطقة؟، حتى يطمح بعد ذلك في الحصول على اعتراف دولي.
قراءة المشهد السوري وانعكاسات الضغوط الدولية على الفواعل في الأزمة السورية، يمكن أن يساعد في الإجابة على التساؤلات السابقة، وهو ما يفرض علينا وضع السيناريوهين التاليين، وهما:
(&) السيناريو الأول،- دعم محاولات الجولاني-” مسار الانفصال”، ربما تساعد التخوفات الأوروبية من عدم توقف قطار الهجرة رغم قوانينها الصارمة الصادرة في الفترة الأخيرة إلى محاولة دعمها ولو بطريقة غير مباشرة لمسار “الجولاني”، وما يدعم هذا المسار رغم تحدياته الكثيرة، هو رغبة أوروبا الملحة في التخلص من كابوس المهاجرين السوريين، الذين يتوافدون إليها بسبب الأوضاع الإنسانية السيئة، فربما ترى بعض الدول الأوروبية أن استمرار سيطرة الجولاني على “إدلب” يساعد على استقرار تلك المنطقة، خاصة بعد انتصاره على باقي التنظيمات المسلحة. وعليه، يمكن القول إن الدول الأوروبية وأعداء روسيا قد يدعمون الجولاني، حتى وإن لم يؤمنوا بتخلي الهيئة تمامًا عن سياسات التشدد، وهذا ما فعلته الولايات المتحدة مع “حركة طالبان” بأفغانستان. كما أن ما يدعم هذا السيناريو، هو قدرة الهيئة على مجابهة التنظيمات المسلحة في المنطقة، خاصة”تنظيم داعش” التي حيدت أغلب قادة الصف الأول والثاني في التنظيم خلال العامين الأخيرين، هذا بالإضافة إلى قدرة الهيئة على توفير الدعم المالي الذي يمكنها من استمرار نشاطها والسيطرة على السكان المحليين بفعل استمرار القدرة على تقديم الخدمات، وهذا قد يرجع إلى قدرتها المالية بعد تمكنها من الحصول على أغلب المساعدات الإنسانية التي دخلت من مختلف الدول الداعمة لمتضرري زلزال ٦ فبراير ٢٠٢٣ عبر معبر “باب الهوى” لمتضرري زلزال ٦ فبراير ٢٠٢٣. هذا بالإضافة إلى أن “الجولاني” قد يجد رغبة أمريكية في التخلص نهائيًا من “تنظيم داعش” الذي انحصر تواجده بشكل ملموس في “إدلب”، وتقلص نشاطه في المناطق المجاورة بفعل هجمات الهيئة ضده وقدرتها على السيطرة عليه بالتعاون مع “واشنطن” في تحقيق هذا الهدف المشترك.
(&) السيناريو الثاني،- تعرض حلم “الجولاني” لصدمة البقاء، وانهيار فكرته- فقد يدعم هذا السيناريو، التغيرات في البيئة الدولية، واصرار روسيا على رفض أي تدخلات من قبل أعداءها سواء من الولايات المتحدة الأمريكية أو من الدول الأوروبية، كما أن مصالحات بشار الأسد مع الأطراف العربية وتركيا، قد تقوى من شوكة “الأسد” في مواجهة هذه التنظيمات الإرهابية، وبالتالي قد يحصل “الأسد” خلال الأيام المقبلة على دعم عربي، يساعد في إعادة تموقع الحكومة السورية على بعض من المناطق المضطربة. بناءا على ما تقدم ، يمكن القول إن مبررات هذا السيناريو، قد تحد من استمرار تنفيذ المسار الأول، الذي يرجح نجاح محاولات الجولاني، ودعم الدول المتخوفة من استمرار قطار الهجرة له.
خلاصة القول؛ بقراءة المعطيات السابقة، نجد أن الأوضاع السياسية والآمنة والاجتماعية مهيأة من الناحية الواقعية لتحقيق رغبة “الجولانى” في الاستقلال بمحافظة “إدلب”، بناء عليه فإن تحقق هذا الهدف المحتمل، متوقف على مدى توافقه مع مصالح الفواعل الدولية في المنطقة، واعتراف المجتمع الدولي بها وحتى إن تعامل المجتمع الدولي وفق هذا الوضع دون اعتراف صريح بشرعيته.