هل تحتاج فرنسا لعقد اجتماعي جديد؟

تعاني فرنسا خلال السنوات الأخيرة من اضطرابات داخلية على أصعدة مختلفة، ظهرت نتائجها في حالة الاستقطاب العالية التي شهدتها الانتخابات الأخيرة بشقيها البرلماني والرئاسي، وأثرت حتى على سياسة فرنسا الخارجية، كما جعلت من فرنسا موطنا للاحتجاجات بشكل متكرر، ورمزا للأساليب العنيفة التي تتعامل بها الحكومة وتحديدا جهاز الشرطة مع المحتجين، وتحولت على إثره فرنسا إلى مسرح لأعمال عنف متكررة.

تأسيسا على ذلك، يناقش هذا التحليل أهم الأزمات التي عاني منها المجتمع الفرنسي خلال السنوات الأخيرة، وكيفية علاجها لاستعادة الهدوء في الداخل.

مقدمات هامة:

عانت فرنسا خلال السنوات الأخيرة من عدة أزمات داخلية، على المستوى السياسي والاقتصادي والاجتماعي، جعلت المواطن غير راضي عن سياسة الحكومات السابقة، ولعل هذا هو السبب الرئيسي في نجاح ماكرون وحزبه الجديد خلال الولاية الأولي، رغم وجود عدد كبير من الساسة البارزين بمختلف انتماءاتهم.

ومؤخرا عاشت فرنسا حالة من الفوضى الداخلية بعد مواجهات بين المحتجين والشرطة، بعد مقتل الشاب الفرنسي من أصل جزائري نائل مرزوق برصاص شرطي فرنسي في إحدى ضواحي العاصمة، أسفرت عن خسائر مادية وبشرية كبيرة، من أعمال سلب ونهب، إلى جانب عشرات الضحايا من معتقلين وقتلى ومصابين، وامتد الأمر إلى مدن وضواحي جديدة.

وقد استدعت الاحتجاجات بعد حادثة مقتل الشاب نائل والعنف الذي مارسته الشرطة الفرنسية تجاه المحتجين على الحادثة، من الذاكرة احتجاجات أخرى في ظروف مشابهة شهدتها فرنسا من قبل في عام 2005 في عهد ساركوزي، دفعت الحكومة حينها لإعلان حالة الطوارئ للمرة الأولى منذ حرب الجزائر، ومنها أصبحت الاحتجاجات في فرنسا أشبه بعادة، مع الأخذ في الاعتبار اختلاف ظروف وأسباب كل منها ومدتها ومدي قوتها.

وكان أبرزها تظاهرات السترات الصفراء التي استمرت لأشهر وتصدرت عناوين الصحف المحلية والعالمية، ولم يوقفها سوى انتشار فيروس كورونا في البلاد،بضغوطه الاقتصادية والاجتماعية، وقواعد الإغلاق التي أثارت غضب الشارع، وما إن تجاوزت فرنسا هذه المرحلة أيضا، حتى بدأت الحرب الروسية الأوكرانية في فبراير من العام الماضي، وما ترتب عليها من ارتفاع أسعار الطاقة والوقود والمحروقات والمنتجات الغذائية وارتفاع معدلات التضخم، بالتزامن مع الدعم الذي تقدمه فرنسا لأوكرانيا في الحرب الذي ضاعف أيضا من الضغوط الداخلية. وأعقب ذلك أيضا، الاحتجاجات على تعديل قانون التقاعد( حيث أرادات الحكومة رفع سن التقاعد وزيادة مدة المساهمات في الصندوق التقاعدي ) الذي تم إقراره دون الحصول على موافقة البرلمان الفرنسي.

ظواهر سلبية:

من الملاحظ خلال السنوات الأخيرة انتشار عدد من الظواهر السلبية، التي أثارت تداعياتها القلائل في الداخل الفرنسي أكثر من مرة،مما يجعلها تحتاج إلى اهتمام أكبر من قبل الحكومات المتعاقبة من أجل التوصل إلى حل جذري لاستعادة الاستقرار، ومن أبرز هذه الأزمات:

(*) عنف الشرطة: فحادثة نائل لم تكن الأولى في هذا الشأن _ وقد لا تكون الأخيرة _فقد سبقها حوادث مشابهة لقتل مواطنين على يد الشرطة الفرنسية بسبب مخالفات مرورية أو غيره. ففي عام ٢٠٠٥ طاردت الشرطة ثلاثة لصوص اختبطئوا في محطة تابعة لشركة الكهرباء الفرنسية، فتوفي منهم اثنان وأُصيب الثالث إصابات خطيرة، وتم توجيه تهمة عدم مساعدة شخص في خطر إلى اثنين من رجال الشرطة.

كما شهدت الاحتجاجات على إصلاح قانون التقاعد على عمليات قمع واعتقالات واشتباكات عنيفة بين الشرطة والمحتجين، حتى لجأت الحكومة أخيرا إلى إقرار القانون دون موافقة البرلمان الفرنسي والنقابات. تلك الأزمة التي كشفت عن ضعف الهياكل النقابية في السنوات الأخيرة، سوى نتيجة لأسباب هيكلية ذاتية أو نتيجة لإضعاف متعمد من الحكومة الفرنسية، التي لم تنجح أيضا في التصالح مع النقابات حتى الآن.

وفي حادثة سابقة، قام موريس بابون رئيس جهاز الشرطة الفرنسية في الستينيات بفرض حظر تجول في فرنسا، فقام نحو ٣٠ ألف جزائريا _ عندما كانت الجزائر خاضعة للاحتلال الفرنسي _  بخرق حظر التجول، فقام موريس بابون بقتل أكثر من ١٠٠ ألف جزائريا وألقاهم في نهر السين مكبلي الأيدي والأرجل، في حادثة غير مسجلة، لأنه كان يمنع الصحافة من تغطية الحادثة والاحتجاجات، حتى أنه حوكم في الثمانينيات ولكن ليس على هذه الجريمة، وإنما بتهمة ترحيل 1690 يهوديا خارج فرنسا، حتى أنه تولى وزير داخلية بعد ذلك، ولم يحاكم حتى وفاته على جريمته.

يذكر أن حوادث إطلاق النار القاتلة ضد المركبات قد زادت بمقدار خمسة أضعاف، وقتل في العام الماضي 13 شخصاً بالرصاص في سياراتهم، وغالبية الضحايا من ذوي البشرة السوداء أو أصول عربية.

ولكن العنف الذي تمارسه الشرطة الفرنسية لم يكن تجاه المهاجرين فقط بل والفرنسيين الأصليين أيضا، كما حدث إبان مظاهرات السترات الصفراء التي استمرت قرابة عام ولم ينهيها سوى انتشار فيروس كورونا، ولم يكن من أسبابها العنصرية تجاه المهاجرين أو غيره، وإنما تعبيرا عن الغضب حيال الظروف الاقتصادية حينها.

واستنادا إلى ذلك، فقد بدأت هذه الأحداث تتكرر بشكل كبير منذ تولي ماكرون الحكم،نتيجة للتضييق الذي تفرضه الحكومة بوجه عام من اعتقالات وقوانين تعسفية، مثل قانون الشرطة الجديد وقانون الصحافة وكلها تعطي جهاز الشرطة صلاحيات واسعة وتجعله بعيدا عن رقابة الرأي العام.

وقد ترجع طريقة التعامل العنيفة من قبل قوات الشرطة مع المحتجين بوجه عام إلى عدة أسباب، أهمها:

  1. الشرطة الفرنسية رأت أنها لم تستطع السيطرة على الأمن، وتحديدا في الضواحي، ولهذا تتعامل معهم بأساليب عنيفة وفقا لأهوائها إلى حد ما، أي كإجراءات انتقامية نتيجة لأحداث ٢٠٠٥.
  2. في رغبة واضحة من الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون للسيطرة على البلاد، سمح بانضمام أعداد كبيرة من المواطنين إلى جهاز الشرطة، وازدادت نسبة القبول بها، مقارنة بأي دولة أوروبية.
  3. قلة مدة التدريب التي تحصل عليها قوات الشرطة الفرنسية، والتي تصل إلى ثماني أشهر تقريبا، وهي مدة قليلة جدا مقارنة بمدة التدريب في ألمانيا على سبيل المثال التي تستمر لحوالي ثلاث سنوات، مما يجعل الشرطة الفرنسية غير مدربة بدرجة كافية، وليست على دراية كافية بالقوانين،مما يجعل أفرادها غير مدربين على التعامل مع المواقف الطارئة.

(*) أزمة الضواحي: تشهد فرنسا موجات متكررة من الاحتجاجات العنيفة على مدار سنوات من قبل سكان الضواحي النائية في باريس وليون وروان ونيس ونانتير، والتي يقيم فيها مهاجرون عرب وأفارقة. ولهذا أعادت أزمة مقتل الشاب نائل إشكالية الضواحي من جديد إلى الواجهة، باعتبارها من أبرز المشكلات الأزلية تقريبا التي تؤثر على الاستقرار في فرنسا.

وترجع أزمة الضواحي إلى حقبة ما بعد الحرب العالمية الثانية وبدء مرحلة إعادة البناء في الدول المتحاربة، حينها جمعت فرنسا عمالا من الدول الإفريقية والعربية التي كانت تحتلها في ذلك الوقت، وقامت الحكومة الفرنسية ببناء مساكن لهؤلاء العمال، وهو ما أدى إلى بناء أحياء كاملة من دون تخطيط عمراني. الأمر الذي جعل أزمة الضواحي الفرنسية أشبه بقنبلة موقوتة، أدت إلى مشاكل اقتصادية واجتماعية عديدة في الإسكان والصحة وفرص العمل وغيرها، جعل منها محركا لاحتجاجات متكررة في أى وقت.

حتى أن مظاهرات السترات الصفراء كان وقودها أبناء الأحياء المتوسطة والفقيرة والتي كانت تعاني نقصا من الخدمات الاجتماعية من صحة وتعليم وفرص عمل. وأيضا في خضم الاحتجاجات على حادثة الشاب نائل قام المتظاهرون في الضاحية بمهاجمة منزل محافظ باريس وحرقه أثناء تواجد أسرته، وهذا إن دل على شيء فهو يدل على أن الفجوة ازدادت بين السكان عامة، وقاطني الضواحي بالتحديد، والحكومة.

ولهذا أجرت الحكومة بعض التعديلات على القوانين في ٢٠١٧، وقررت فرض أساليب جديدة في رقابة الضواحي، والتي يسكنها في الغالب العرب وأصحاب البشرة السمراء، لدرجة أن بعض الفرنسيين من أصول عربية يرون أن من تبدو على ملامحه الطابع العربي تكون فرصه في النجاة من قوات الشرطة الفرنسية منخفضة.  وهذا يتضح إذا ما قارنا بين قتلى الشرطة في فرنسا بغيرها من الدول الأوروبية.

ووفق متخصصين، فإن مشكلة الضواحي تثار منذ 30 عام بشكل متكرر، باعتبارها أزمة اجتماعية تجسد حالة اللامساواة المتجذرة ونمط الحياة والثقافة المختلفين. وأبرز من يعانون من مثل هذا الوضع هم المواطنون من أصول عربية أو أفريقية، خاصة وأن نظرة المجتمع الفرنسي عموما لهؤلاء المهاجرين تحكمها خلفيات تاريخية واجتماعية ودينية، حتى أن غالبية الفرنسيين الأصليين يعتبرونهم أصل المشكلة الاقتصادية والاجتماعية التي تعانيها فرنسا.

وجدير بالذكر، تشير تقديرات لمعهد ” إنسي ” في فرنسا، إلى أن نحو 20 مليون شخص يعيشون في ضواح موزعة على أكثر من 3300 بلدية.

(*) التجاذبات الحزبية: حيث وصل المشهد السياسي الفرنسي لدرجة عالية من الاحتقان السياسي بين الأحزاب بمختلف تياراتها، بل وبين الأحزاب التي تنتمي إلى التيار ذاته، كما هو الحال بين مارين لوبان وإيريك زمور.

مما دفع بعض الشخصيات نتيجة للاحتجاجات الأخيرة مثل مارين لوبان إلى الدعوة لانتخابات مبكرة واعتقال ماكرون، والتعهد بحجز مكانة جديدة وهامة لفرنسا في النظام العالمي الجديد، مما يشير إلى أنها تدرك أن الحرب الأوكرانية ستدخل تعديلات على النظام العالمي وترتيب القوى الموجودة فيه، في استغلال مبالغ فيه في مثل هذه المواقف الحرجة في الداخل.

أضف إلى ذلك، تهميش دور النقابات والمجتمع المدني عموما في ظل هذه الاضطرابات، الأمر الذي يجعل من المجتمع المدني خصما إضافيا للحكومة، وليس وسيطا بينها وبين المواطنين أو الأحزاب، وأقوى مثال على ذلك فشل الحكومة في التوصل إلى حل وسط مع النقابات العمالية بشأن إصلاح نظام التقاعد.

كل هذه الأحداث صبت في صالح زيادة شعبية اليمين المتطرف في فرنسا، الأمر الذي من شأنه أن يزيد من درجة الاحتقان السياسي والاجتماعي بشكل أكبر، خاصة حال نجح اليمين في الوصول إلى الحكم خلال الانتخابات المقبلة.

تدابير ضرورية:

في وقت عانت فيه فرنسا من اضطرابات داخلية منذ قرون،طرح المفكر جان جاك  روسو فكرة العقد الاجتماعي في ظروف اجتماعية وسياسية ودينية متخبطة نوعا ما _ وإن كانت أشد قسوةمن الوضع الراهن _لإعادة بناء مجتمع سياسي فاضل يقوم على مبادئ العقد الاجتماعي، الذي يؤسس لنظام قائم على الحرية والرضا تسيرها لإرادة العامة.

 وكانت أفكار جان جاك روسو محركة للثورة الفرنسية التي غيرت الكثير في المجتمع الفرنسي على الصعيد السياسي والاجتماعي والديني، وانتقلت منها إلى أوروبا بعد ذلك. وتقوم فكرة العقد الاجتماعي عند روسو على ضرورة الخروج من حالة الطبيعة الأولى الفوضوية والمتوحشة إلى مجتمع عقلاني وأخلاقي ومتحضر، وذلك من خلال عقد يتنازل بموجبه المواطنين عن حقوقهم مقابل أن تقوم السلطة العليا ممثلة في القانون بحمايته، أو ما يسميها رسو” الإرادة العامة”، مع الأخذ في الاعتبار ملائمته للأوضاع والتوقيت في فرنسا.

واستنادا للوضع الراهن في فرنسا،يبدو أن باريس تشهد أزمة متعددة الجوانب، أزمة بين الشرطة وسكان الضواحي، وأزمة بين الحكومة في الأصل وبين الفئات الفرنسية برمتها، وأزمة بين المجتمع الفرنسي عامة وبين المهاجرين العرب والأفارقة، والمسلمين تحديدا، وأزمة بين النقابات والحكومة، مما خلف أزمة ثقة بين جل فئات المجتمع تقريبا والحكومة، الأمر الذي يؤكد أن فرنسا أصبحت في حاجة لعقد اجتماعي جديد بين الحكومة والجماهير، تكون ممثلة فيها الإرادة العامة بشكل أفضل وبشكل يتوافق مع المبادئ الفرنسية الديمقراطية والمنفتحة نوعا ما.

وذلك من خلال تبني خطاب أولا مناهض للعنصرية يعمل على بناء الثقة ومحاولة إشراك المجتمع المدني في هذا الشأن لقربه نوعا ما إلى الشارع، وحتى إن وصل الأمر إلى إشراك اليمين المتطرف في هذا الحوار المجتمعي أيضا. وأيضا إعادة ترميم الثقة بين الفرنسيين عموما وجهاز الشرطة، من خلال مراجعة إجراءاتها وفرض رقابة عليها من خلال المؤسسات والقوانين، وفي الوقت نفسه إعادة تأهيل جهاز الشرطة من جديد. فمن شأن هذه الإجراءات أن تمهد لعلاقات سليمة وصحية بين الدولة والمواطنين.

في النهاية، يمكن القول إن فرنسا بحاجة إلى وضع خطة شمولية تقوم على تحقيق الانسجام بين كافة أطياف المجتمع الفرنسي، سواء كانوا أفراد أو مؤسسات، مهاجرين أو سكان أصليين.

وردة عبد الرازق

رئيس برنامج الدراسات الأوروبية و الأمريكية ، حاصلة على بكالوريوس علوم سياسية، جامعة بنى سويف، الباحثة مهتمة بدارسة الشأن التركي ومتابعة لتفاعلاته الداخلية والخارجية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى