تأثير الشعوب.. ما مصير قانون التقاعد الفرنسي؟

أصبح وضع الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون حرجا جدا بسبب المعارضة الشديدة التي لاقاها مشروع قانون التقاعد الجديد الذي اقترحته الحكومة من قبل الرأي العام الفرنسي والنقابات العمالية، وأيضا داخل البرلمان الفرنسي نفسه يواجه القانون معارضة عارمة لدى أحزاب اليسار واليمين المتطرف، وحتى داخل حزب الرئيس ماكرون نفسه.وعليه سيناقش هذا التحليل مدى إمكانية تمرير مشروع قانون التقاعد الجديد بالنظر إلى موقف المعارضة، وما إذا كان الرئيس ماكرون سيصر على تمرير القانون أم أنه سيرضخ لضغوطات الشارع والبرلمان؟.

 قانون مثير للجدل:

عرضت الحكومة الفرنسية برئاسة إليزابيث بورن مشروع قانون لتعديل نظام التقاعد في يناير الماضي، وتم طرحه لمناقشته في البرلمان الفرنسي للمرة الأولى في 6 فبراير الماضي، في محاولة لتمريره من المرة الأولى،إلا أنه واجه معارضة شديدة من قبل الأحزاب المعارضة، والتي طالب بعضها بإجراء تعديلات على القانون، وطالب البعض الآخر بإلغاء الفكرة من الأساس.

وتهدف الحكومة من خلال القانون إلى رفع الحد الأدنى لسن التقاعد من ٦٢ إلى ٦٤ عاما، كما سيحتاج العمال للعمل لمدة ٤٣ عاما حتى يتمكنوا من الحصول على راتب تقاعدي كامل. وجاءت فكرة المشروع استنادا إلى تقرير صدر عن لجنة من الخبراء تابعة للحكومة الفرنسية توقعت ارتفاع مدفوعات الحكومة من المعاشات التقاعدية من ١٣,٨ ٪ إلى ١٤,٧ ٪.

يذكر أن قانون التقاعد الفرنسي المعمول به الآن هو نظام تضامني، كان قد أسسه شارل ديجول بعد الحرب العالمية الثانية، وينص على أحقية العمال في الحصول على معاش تقاعدي كامل بعد أن يبلغ 62 عاما، وبعد أن يكون قد ساهم في صندوق التقاعد لمدة 42 عاما، وبالتالي كان يتحدد الراتب التقاعدي للعامل وفقا للسن وفترة مساهمته في الصندوق. بمعنى أن العاملين الحاليين والشركات هم من يدفعون معاشات المتقاعدين، من خلال النسبة التي تقتطع من الرواتب ونسبة أخرى تدفعها الشركات لكل عامل.

بينما ينص قانون التقاعد في العديد من الدول الغربية وخاصة للولايات المتحدة الأمريكية، على أن يضع العامل جزء من راتبه في صندوق استثماري، ثم بعد ذلك يتكفل هذا الصندوق بمنح العامل راتبا شهريا بعد التقاعد، أي أن العامل هو من يتكفل براتبه التقاعدي، وهذا النظام يرفضه الفرنسيون، نظرا لأنه ينطوي على مخاطر عالية، خاصة إذا أفلست الصناديق الاستثمارية، وهو أمر تكرر فعلا خلال الأزمات المالية السابقة.

وعلى إثر قانون التقاعد الجديد، شهدت باريس العديد من الاحتجاجات المليونية الرافضة للمشروع، بالإضافة إلى ثلاث موجات من الإضرابات الشاملة في قطاعات مختلفة، والتي شملت قطاع السكك الحديدية ووسائل النقل العام ومصافي البترول وقطاع التعليم، مما يقود البلاد إلى حالة من الشلل والجمود في قطاعات حيوية في الداخل الفرنسي، بلومن المنتظر أن تتجدد مرة أخرى.كما قدمت المعارضة أكثر من 7 آلاف طلب تعديل لمشروع القانون، خاصة خلال مناقشته بالبرلمان في ٦ فبراير الماضي، بهدف إفراغه من مضمونه وتأجيل البت فيه.

محاولات مستميتة:

فاستنادا للوضع الراهن في فرنسا، سواء على مستوى الشارع أو البرلمان، سيتحدد مصير القانون وفقا لأحد السيناريوهين:

الأول؛ ألا يتم إقرار القانون: ويستند هذا الطرح إلى تعدد الاحتجاجات الرافضة لإقرار القانون، وتزايد الإضرابات العمالية المعرقلة لسير الحياة اليومية في فرنسا. هذا إلى جانب ان القانون يواجه معارضة برلمانية واسعة من قبل أحزاب اليسار واليمين المتطرف، والذين أصبح ماكرون في أشد الحاجة إلى أصواتهم، خاصة بعدما خسر الأغلبية البرلمانية وأصبح مضطرا للوصول إلى توافقات مع الأحزاب الأخرى لتمرير أي مشروع لا يحظى بأغلبية مناسبة. حتى أن هذه الأحزاب قد لا توافق على القانون حتى مع وجود توافقات مع حزب ماكرون، وذلك خوفا من أن ينعكس عليها بالسلب في الانتخابات القادمة.

حتى أن اقتراح اليمين المتطرف بأن يتم طرح المشروع للاستفتاء الشعبي قد يزيد من صعوبة الأمر أكثر، لأن موافقة الجمعية الوطنية على ذلك غير مضمونة، ولا حتى موافقة حزب ماكرون في ظل الرفض الشعبي الكبير للقانون.

والثاني؛ أن يتم إقرار القانون: لأن سن التقاعد في فرنسا يعتبر هو الأقل مقارنة بنظيراتها من الدول الأوروبية، ففي ألمانيا وإيطاليا وهولندا يبلغ سن التقاعد 67 عاما، وفي بريطانيا 66 عاما، كما أجريت عدة تعديلات على سن التقاعد ليصل إلى 67 عاما في إسبانيا في عام ٢٠٢٧، وفي بلجيكا كذلك بحلول عام ٢٠٢٥. وعليه قد يصر الرئيس ماكرون على تمرير القانون، خاصة وأنه نجح في وقت سابق في تنفيذ قانون الأمن الشامل رغم معارضة الرأي العام الشديد له وتعدد الاحتجاجات الرافضة للقانون، ممن اعتبروا القانون يقيد حرية الصحافة والمواطنين ويجعل قوات الشرطة فوق أي انتقاد.

وقد يصبح هذا الاحتمال مرجحا بشكل أكبر، إذا لجأت الحكومة لإجراء بعض التعديلات على القانون _ وهي أبدت استعدادها لذلك بالفعل _ لحشد عدد مؤيدين أكبر في صفوف اليمين، كأن يتم تحديد سن التقاعد عند 63 عاما بدلا من 64 عاما. وهو ما أكده زعيم الجمهوريين إريك سيوتي بأن ” هذا التعديل على المشروع سيؤمن له أغلبية كبيرة من أصوات نواب الحزب “.

وكانت أولى التنازلات التي قدمتها رئيسة الحكومة الفرنسية لكسب بعض الأصوات اليمينية، أن أعلنت بور أن الذين باشروا العمل في سن 20 أو 21 عاماً، سيكون بإمكانهم التقاعد عند بلوغهم ٦٣ عاما. وهو تمديد لقانون الخدمة الطويلة، استجابة لطلب نواب حزب الجمهوريين الذين سيكون تصويتهم أساسياً لإقرار الخطة. إلا أن هذا التنازل قد لا يكون كافيا لتمرير القانون، لأن بعض النواب الجمهوريين طالبوا بالمزيد. لذا أكد النائب الجمهوري أورليان برادييه أن ” هذه البادرة لن تكون كافية “، كما دعا لأن يضاف إليها الذين انتهوا من تسديد مساهماتهم في الصندوق في سن مبكرة.

كما أضافت بورن بعض التنازلات، منها تحسين الشروط للأشخاص الذين باشروا العمل في سن مبكرة جدا، والأمهات اللواتي توقفن عن العمل لرعاية أطفالهن، والمواطنين الذين استثمروا في التعليم. لكنها أكدت من جهة أخرى أن قرار رفع سن التقاعد ” غير قابل للتفاوض ” حوله.

أضف إلى ذلك، أن هذا القانون يعتبر شديد الأهمية بالنسبة للرئيس ماكرون، الذي لا يزال يعمل مع حكومته على قدم وساق من أجل تمرير القانون، وإجراء توافقات مع الأحزاب المعارضة في البرلمان من أجل الحصول على الأغلبية المطلوبة. ولا يرجح أن يتراجع ماكرون عن المشروع الذي اعتبره بمثابة انجازه الحقيقي خلال عهدته الثانية، مما قد يفقده ثقة الشارع والبرلمان معا،إلى لدرجة التي دفعت مراقبين لوصف المدة المتبقية من ولاية ماكرون الثانية _ حال تراجع عن المشروع _ بأنها ستكون شبه ميتة إكلينيكيا. لأن ذلك قد يعني عجزه عن تطبيق أي سياسات جديدة. خاصة وأنه مقبل على جدل آخر بسبب قانون جديد للهجرة يواجه اعتراضات كثيرة في الداخل الفرنسي أيضا.

وجدير بالذكر أن الرئيس الفرنسي أكد مرارا خلال حملته الانتخابية على ضرورة تعديل سن التقاعد من 64 إلى 65 عاما، وزيادة فترة المساهمة في صندوق التقاعد إلى 43 عاما، واعتبر أن هذا التعديل سيكون بمثابة الإصلاح الرئيسي لفترة رئاسته الثانية، وهو ما يعارضه الفرنسيون.

وختاما، لايزال ماكرون وحكومته يأملان في الحصول على الأغلبية الكافية لتمرير القانون، بإقناع ٢٠ نائبا من اليمين، لكي لا يضطر ماكرون لإقرار القانون بأي شكل كان، حتى ولو باللجوء للمادة ٤٩.٣ من الدستور للمرة ال ١١ خلال شهرين فقط، والتي تسمح بتمرير القانون دون تصويت برلماني، وهي فرضية أصبحت متوقعة إلى حد كبير في ظل الرافض الحاضر بقوة حتى الآن في المشهد الفرنسي،ولكنه سيظل الحل الأخير أيضا، لأنه قد يكلف ماكرون المخاطرة باستكمال المتبقي من ولايته دون غطاء شعبي أو برلماني.

 

وردة عبد الرازق

رئيس برنامج الدراسات الأوروبية و الأمريكية ، حاصلة على بكالوريوس علوم سياسية، جامعة بنى سويف، الباحثة مهتمة بدارسة الشأن التركي ومتابعة لتفاعلاته الداخلية والخارجية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى