سيناريوهات محتملة.. هل يتجدد الصراع الصيني-الهندي؟

تمثل الحدود الهندية الصينية التي تمتد إلي ما يقرب من أربعة ألاف كيلو متر مربع واحدة من أخطر مناطق التوتر في العالم، فرغم الهدوء النسبي الذي تشهده تلك المساحة الجغرافية، إلا أنها تشهد توترا يتجدد بين الحين والآخر، حيث كان أخر تلك التوترات في التاسع من ديسمبر الجاري، وهي مهددة بإشعال المنطقة بأسرها بل والعالم. تجدر الإشارة أن هذا التوتر  الصيني-الهندي، سيبقي مستمراً طالما بقيت أسبابه.

تأسيسا على ما سبق، يحاول هذا التحليل، قراءة واقع الأزمة الهندية-الصينية، متطرقا إلى أسباب الصراع بين الطرفين، وتداعياته وسيناريوهاته المستقبلية.

توتر تاريخي:

في عام 1826 ضمت شركة الهند الشرقية البريطانية (أسام ) بشكل تدريجي الإقليم الشمالي الشرقي من الهند وفي عام 1912 أصبح الإقليم الذي يطلق عليه الآن “أروناتشال براديش” وحدة إدارية ضمن أسام وأطلق عليه منطقة الحدود الشمالية الشرقية، وفي عام 1914 تفاوض ممثلين عن الصين والتبت وبريطانيا وتوصلوا إلى معاهدة سميت- اتفاقية سيملا لترسيم الحدود بين التبت الداخلية والخارجية، وكذلك بين التبت الخارجية والهند البريطانية، ووقتها رفضت الصين ترسيم حدود التبت الخارجية وانسحب مندوبها احتجاجاً، رفضاً أن يكون للتبت إدارة مستقلة، تزعم أن التبت جزء منها، وعليه أرفق مفاوضو بريطانيا والتبت مذكرة تحرم الصين من أي امتيازات تنتج عن هذا الاتفاق وأصبحت اتفاق ثنائي.

وبعد أن نالت الهند استقلالها عن بريطانيا عام 1946 بدأت عام 1950 في المطالبة بالمناطق المتنازع عليها علي أساس اتفاق سيملا، في حينه رفضت الصين المطالب الهندية علي أساس أن التبت لم تكن في يوماً من الأيام دولة مستقلة حتي توقيع معاهدة نيابة عن الصين لترسيم حدودها الدولية. وفي عام 1959 زادت  حدة الخلافات بين الصين والهند بعد استقبال الهند للزعيم الروحي الدلاي لاما الذي فر هارباً من الصين.

وفيما بعد اجتمع مسئولون من الصين والهند، لمناقشة تسوية الصراعات بين البلدين بناءاً علي اتفاق رئيسي وزراء كلاً من الهند جواهر لال نهرو، ومن الصين تشو إن عام 1960، وفي هذا التوقيت اختلف البلدان علي مستجمعات المياه الرئيسية في القطاع الغربي من الحدود. وفي عام 1962، احتلت الصين أجزاء من ولاية أرونا تشال براديش واندلعت الحرب بين الصين والهند، وتعرضت الهند لهزيمة قاسية، وبالرغم من ذلك احتفظت بالولاية بعد انسحاب الصين نتيجة الضغوط الدولية.

وبالرغم من الخسائر البشرية التي قدرت ب 1200 جندي من الطرفين، بسبب الحرب العالمية الثانية، إلا أنها كانت محدودة وبعد هذه الحرب اتفق الطرفان علي عدم استخدام السلاح في قضية الحدود وتم تجريد حرس الحدود في الطرفين من الأسلحة القاتلة. وفي عام 1986 حدثت اشتباكات حدودية، ودخل الطرفان في مفاوضات لحل الخلافات بينهم وتحديد الخط الحدودي وانتهت المفاوضات دون التوصل لاتفاق.

وفي عام 1987 تجددت الاشتباكات مرة أخري، بسبب قيام الحكومة الهندية بإطلاق اسم ولاية علي منطقة أرونتشال براديش لتصبح الولاية رقم (29) من الولايات الهندية، وهو ما أغضب بكين وأنذر بنشوب حرب بين البلدين قبل أن يتوصلا إلي حل دبلوماسي حال دون نشوبها .

وفي منتصف يونيو 2017 قامت الصين بإرسال جنود لحماية أعمال البناء في منطقة دوكلام المتنازع عليها، وذلك لشق طريق حدودي، فقامت الهند بنشر قوات عسكرية حالت دون استكمال المشروع، وذلك بحجة أن الطريق حال اكتماله، يجعل الوصول إلي مناطق هامة في الهند سهلا، وهو ما يجعل وضع الصين أمنياً أفضل في حالة نشوب حرب بين الدولتين، في الوقت الذي اتهمت الصين القوات الهندية، بأنها اجتازت الحدود الصينية وطالبت بسحب تلك القوات مؤكدة قدرتها علي الدفاع عن سيادة الصين.

لقد تجدد التوتر الصيني الهندي بقوة عام 2013، حين اتهمت الهند الصين، بإنشاء معسكراً علي بعد عشرة كيلومتر من حدودها الشرقية، وكذلك توغل مروحيات عسكرية صينية داخل المجال الجوي الهندي، في الوقت الذي نفت بكين ذلك، وعليه استمرت مواجهة قوات البلدين لبعضهما شهر كاملاً قبل أن يتم انسحاب متبادل.

ثم في عام 2015 تواجهت مرة أخرى القوات الهندية والصينية في منطقة بورتسه شمال لاداخ، وذلك بعد تفكيك القوات الهندية لبرج مراقبة أنشأته الصين بالقرب من خط الدوريات العسكرية المتفق عليه بين البلدين، وعليه قام الجانبان الهندي والصيني بزيادة قوتهما الحدودية إلي ثلاثة ألاف جندي بعد اعتراض جنود هنود علي قيام الجيش الصيني ببناء طريق في منطقة متنازع عليها. وفي الأسبوع الأول من مايو عام 2020 شهدت المنطقة الحدودية بين حرس حدود البلدين مناوشات بسبب إعتراض الجيش الصيني علي قيام القوات الهندية بتسير دورية في منطقة لاداخ الحدودية، وفي التاسع من ديسمبر الحالي وقعت أخر التوترات دون حدوث أية خسائر بشرية سوي عدد من الجرحي بين الطرفين، حيث تبادل البلدان الاتهامات، فالجيش الصيني اتهم الجنود الهنود في بيانه الجنود الهنود بعبور الحدود المتنازع عليها بشكل غير شرعي، بينما أعلن وزير الدفاع الهندي، أن القوات الهندية منعت قوات صينية من الدخول إلي أراضيها.

مناطق ملتهبة:

هناك عدة مناطق متنازع عليها بين الطرفين الصيني والهندي، وتشكل صراع دائم يتجدد بين الحين والأخر، هي كالتالي:

(*) هضبة أروناتشال بردايش: منطقة حدودية تقع عند مفترق طرق بين الصين ومملكة بوتان وولاية سيكيم التي تقع شمال شرق الهند، وتطلق بوتان والهند علي المنطقة اسم هضبة دوكلام، في حين تطلق الصين عليها جنوب التبت، وتؤكد أنها جزء من أراضيها، وتدعم الهند مطالب بوتان بالسيادة عليها.

(*) أكساي تشين: منطقة متنازع عليها بين الطرفين، تقع غرب جبال الهمالايا، وتبلغ مساحتها 38 ألف كيلومتر مربع، وهي خالية من السكان تقريباً، وتحتوي علي العديد من البحيرات، وتخضع لسيطرة الصين التي تعتبرها جزء من إقليم شنجيانج، وتطالب الهند بها، وتعتبرها جزء من منطقة لاداخ الواقعة في إقليم جامو وكشمير .

(*) ممر سري جورو: تطلق الهند على هذا الممر، عنق الدجاجة، ويعد موقعاً هاما من الناحية الإستراتيجية، حيث يمثل الرابط البري الوحيد بين شمال وشرق الهند وهضبة شامبيه الواقعة غرب بوتان وشرق ولاية سكين الهندية التي تربط بين الأراضي الصينية والهندية والبوتانية.

تداعيات ومستقبل الصراع:

في البداية، يجب الإشارة أن الصين تدعي حقها في السيادة في المناطق المتنازع عليها، بدعم من مجموعة الوثائق تعود إلي اتفاقية حدودية وقعتها مع بريطانيا في مارس عام 1890 والمعروفة باسم اتفاقية “سيكيم التبت”، بالإضافة إلي وثائق صادرة من السفارة الهندية في بكين عام 1960، تؤكد اعتراف وقبول الهند ببنود تلك الاتفاقية. كما تعتبر مملكة بوتان، وهي دولة (صغيرة تقع في الطرف الشرقي من جبال الهمالايا، ليست لديها أية علاقات دبلوماسية مع الصين وتتواصل معها عن طريق السفارة الصينية في الهند)، أن دوكلام منطقة متنازع عليها، وأن هناك اتفاق مكوب بينهما وتطالب بالحفاظ علي السلام والهدوء في المنطقة في الوقت الذي يشار فيه أن القوات الهندية تقوم بدور حيوي في مساعدة قوات بوتان، حيث يمثل العنصر الأمني أحد أهم عناصر التعاون بين الهند وبوتان.

أما الهند فليس لها أية مطالب في منطقة دوكلام، ولا تطالب بها ولا تعتبرها جزء منها، وفي نفس الوقت تؤكد الهند أن بوتان طلبت منها التدخل نيابة عنها، وتعتبر المنطقة ذات أهمية إستراتيجية للأمن القومي الهندي حيث أن من شأن سيطرة الصين عليها أن تسهل للقوات الصينية الوصول إلي ممر سيليجوري الذي يربط بين ولايات الهند الشمالية والشرقية وباقي البلاد .

ويتمحور الخلاف الرئيسي بين الصين والهند حول عدم ترسيم حدودهما الممتدة ويعتبر مصير هضبة أروناتشال براديش أخطر نقاط المواجهة، فقد ضمت إلي الأراضي الهندية خلال فترة الاستعمار البريطاني للهند وبعد حصولهما علي الإستقلال أواخر الأربعينات من القرن الماضي طالبت كل منهما بالسيادة عليها .

وتأسيسا على ما سبق، يمكن القول إن تزايد التحركات الصينية في المنطقة خصوصاً عمليات إنشاء الطرق المسندة بالمعدات والقوة العسكرية، أثار قلق وحفيظة الهند، ودفعها إلي التقارب العسكري مع الولايات المتحدة الأمريكية، وإن لم يرق إلي التحالف، حيث أجرت الهند في نوفمبر الماضي مناورات عسكرية مشتركة مع الولايات المتحدة الأمريكية، استمرت أسبوعين في ولاية أوتارخوند المحازية للصين، كما قلصت التعاملات التجارية مع الصين، بالإضافة إلى سعيها لعقد صفقات تجارية مع أستراليا والإتحاد الأوروبي، كذلك الصفقات العسكرية مع فرنسا مثل صفقة طائرات الرفال الأخيرة، كما أن اللقاءات بين زعيمي البلدين أصبحت شحيحة منذ توتر الحدود عام 2020، حيث لم يلتقيا خلال الثلاث سنوات الماضية سوي في لقاء عابر علي هامش مؤتمر بالي لمجموعة العشرين.

وتسعي الولايات المتحدة الأمريكية في إطار التنافس مع الصين إلي رفع مستوي العلاقات مع الهند إلى مستوي التحالف وتزويدها بأسلحة متطورة، كي تواجه الصين، حيث أن معظم السلاح الهندي حاليا روسي وقد أضعفت العقوبات المفروضة علي روسيا بسبب الحرب في أوكرانيا مبيعات السلاح الروسي.

وعلي الرغم من عدم إعتراف نيودلهي بالعقوبات الفردية- أي التي تفرض خارج أطار الأمم المتحدة، إلا أن قدرة الهند علي المناورة ستصبح محدودة أمام قدرة الولايات المتحدة علي تطبيق العقوبات، ومعاقبة البلدان التي تبيع أو تشتري السلاح الروسي بموجب قاتون كاتسا الأمريكي الذي يعاقب أي دولة تتعامل في السلاح (بيعً/شراء) مع روسيا وإيران وكوريا الشمالية وفنزويلا. بالتالي مخالفة الهند لقانون كاتسا، قد يصيب الدفاعات الهندية لأنها تحرمها من الأسواق العالمية وخاصة صناعات حاملات الطائرات الهندية “أي أن أس فيكرانت”، حيث تعاقدت الهند مع شركة “نفسكوي” الروسية المشمولة بالعقوبات الأمريكية.

وبالتالي، قد يستخدم السلاح الهندي ضد الصين، التي هي حليف روسيا، وهو ما قد يدفع بروسيا إلي الامتناع عن تزويدها بالسلاح وارتبط الصراع بين الصين والهند بالأزمة الأمريكية الصينية، حيث تنسق الهند مع اليابان واستراليا لمواجهة السياسات الصينية في المنطقة، وتلعب دوراً هاماً في الاستراتيجية الأمريكية لاحتواء الصين ووقف زحفها في الوقت الذي تحاول الصين توجيه رسالة، بأنها لا تتردد في استهداف حلفاء الولايات المتحدة، وتستعرض قواها العسكرية ليس أمام الهند فقط، بل أما العالم أجمع، وخاصة منافسيها في الساحة العالمية مثل أمريكا أو ساحة شرق أسيا مثل اليابان وتايوان وكوريا الجنوبية التي تعارض جميعها سيطرة الصين علي بحر الصين الجنوبي. وتعاني الهند أيضاً من التحالف الصيني الباكستاني خصوصاً الشق الاقتصادي، حيث استثمرت الصين ستين مليار دولار في مشاريع البنية التحتية في باكستان، من ضمنها الممر الاقتصادي الصيني الباكستاني، كما تمد الصين باكستان بالتكنولوجيا النووية وصناعة الصواريخ، مما يعزز موقف باكستان في صراعها مع الهند علي إقليم كشمير .

تأسيسا على ما سبق، يمكن القول إن الغموض هو سيد الموقف بين الصين والهند، حيث من الممكن أن تتفاقم العلاقة بينهما في ظل التوتر الحالي، وبالتالي يرجح ندرة فرص تحسن العلاقات بين الصين والهند، بسبب التأزم واشتداد الصراع الصيني الأمريكي علي زعامة العالم، فأمريكا تريد استمرار المشكلة لاستغلالها في كبح جماح التقدم الصيني، كذلك الدولتين (الصين والهند) تمران بمرحلة من التقدم الاقتصادي والعسكري، مما يجعلهما ترغبان في تأجيل حسم النزاع بينهم لحين تغير موازين القوي لصالح إحداهما لأنهما يرفضان أية تسوية تتضمن تنازلات.

ختاماً إن الصراع بين الصين والهند يمثل قنبلة موقوتة قد تنفجر في أي لحظة، حيث الدولتين تمثلان ما يقرب من نصف سكان العالم مع انضمام الدول المتحالفة إلي أي من الدولتين، كما حدث في الحرب العالمية الأولي والثانية علاوة علي قواتهما العسكرية العادية والنووية. وعلي الرغم من ذلك، فإن المخاوف المتبادلة بينهما تجعلهما يعملان علي احتواء كل مواطن التوتر والنزاع، خصوصاً أن البلدين أصبحا الأقرب إلي تحقيق توازن متكافئ، فلم تعد كفة الصين مرجحة تماماً علي الرغم من التفوق الملحوظ مثلما كان في الستينات من القرن العشرين حيث عملت الهند علي تطوير البنية التحتية علي حدودها كما قامت بعقد تحالفات إقليمية ودولية.

د. حسام البقيعي

رئيس وحدة دراسات العالم، الباحث حاصل على درجة الدكتوراه في العلوم السياسية من جامعة القاهرة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى