رسائل الدوحة

لم يكن استهداف الطيران الإسرائيلي لقادة حماس في الدوحة في التاسع من الشهر الجاري عملًا عسكريًا بالمعنى التقليدي، وإن بدا كذلك للوهلة الأولى، بل كان عملًا سياسيًا بامتياز بكل ما تحمله الكلمة من دلالات.
يمكن العودة إلى نوفمبر 2023، أي بعد شهر واحد من عملية طوفان الأقصى، حين صرّح بنيامين نتنياهو بأنه أعطى قادة الموساد والشاباك تعليمات بالإعداد لاغتيال قادة حماس أينما وجدوا، في إطار سعيه لتحقيق هدفه المعلن بالقضاء على الحركة. وبعد أسابيع قليلة اغتيل صالح العاروري، نائب رئيس الحركة ومسؤول ملف الضفة الغربية، في ضاحية بيروت الجنوبية، على الرغم من تحذير الأمين العام لحزب الله، حسن نصر الله، إسرائيل من المساس بأي مسؤول فلسطيني في لبنان.
كان نتنياهو بذلك يكسر الحاجز المعنوي لاستهداف قادة حماس خارج غزة. ولم يتوقف الأمر عند لبنان، بل امتد إلى قلب طهران باغتيال إسماعيل هنية. وقد نُفّذت هذه الاغتيالات بشكل معلن، إذ تولى الجيش الإسرائيلي أو الشاباك تنفيذها، وأعلن المستوى السياسي مسؤولية إسرائيل عنها بشكل واضح.
وإذا كان اغتيال العاروري في لبنان هدف إلى كسر حاجز استهداف قادة حماس خارج غزة، فإن اغتيال هنية في طهران حمل رسالة مفادها أن إسرائيل قادرة على الوصول إلى قادة الحركة في أي مكان، بغض النظر عن الدولة التي يقيمون فيها. وعليه، فإن محاولة الاغتيال في الدوحة جاءت محملة برسائل سياسية عديدة، لم تكن موجهة لقطر وحدها، بل للشرق الأوسط كله، وفي القلب منه العالم العربي، إضافة إلى تركيا وإيران والولايات المتحدة وحتى الداخل الإسرائيلي.
فما الرسائل التي أرادت إسرائيل إيصالها من هذه العملية؟
ما الجديد في استهداف الدوحة؟
يختلف استهداف قادة حماس في الدوحة عن استهدافهم في بيروت أو طهران. فدولة قطر تُعد من القلائل القادرين على لعب دور الوسيط بين إسرائيل وحماس، وهي تقوم بهذا الدور بالتنسيق مع مصر منذ اندلاع الأزمة في أكتوبر 2023. كما أن قطر شريك استراتيجي للولايات المتحدة، ووسيط موثوق لدى دوائر القرار في واشنطن، وقد تولّت وساطات عديدة معقدة، منها:
(*) التوسط بين إدارة ترامب الأولى وحركة طالبان، ما أسفر عن الاتفاق على انسحاب القوات الأمريكية من أفغانستان.
(*) لعب دور رئيسي في المفاوضات غير المباشرة بين واشنطن وطهران بشأن الملف النووي.
(*) استضافة قاعدة العديد التي تضم مقر القيادة المركزية للجيش الأمريكي (CENTCOM)، إضافة إلى القوات الجوية الأمريكية والسرب 83 البريطاني.
(*) استضافة قواعد عسكرية تركية مثل قاعدة طارق بن زياد وقاعدة الريان.
ولذلك، فإن استهداف الدوحة يحمل رمزية خاصة، كونها أول عاصمة خليجية تتعرض لهجوم إسرائيلي مباشر.
أهداف إسرائيل من العملية:
سعى نتنياهو من وراء الاعتداء على الدوحة إلى تحقيق جملة من الأهداف، أهمها:
(١) إفشال المفاوضات: إذ اعتبر أن موافقة حماس على مقترح المبعوث الأمريكي ستيف وايتكوف في 18 أغسطس دون تحفظات مثّلت ضغطًا عليه أمام الرأي العام الدولي والإسرائيلي، الذي اتهمه بالتعنت والتسبب في إضاعة فرصة وقف الحرب والإفراج عن الرهائن. فجاءت العملية محاولة لقطع الطريق على أي اتفاق لوقف إطلاق النار.
(٢) إضعاف دور الوساطة القطرية: قطر تمتلك خبرة متراكمة وعلاقات متوازنة مع أطراف النزاع، وهي حليف استراتيجي للولايات المتحدة. وهذا ما جعلها هدفًا للانتقاد من اليمين الإسرائيلي، الذي اتهمها بدعم حماس وعدم الضغط عليها.
(٣) تسويق “النصر”: بعد اغتيال قيادات حماس في غزة وبيروت وطهران، كان من الممكن أن يُشكل اغتيال قيادتهم السياسية في الدوحة نصرًا سياسيًا وأمنيًا لنتنياهو، يسوقه داخليًا وخارجيًا باعتباره خطوة حاسمة نحو إنهاء ملف حماس.
(٤) إرسال رسائل إقليمية: تنفيذ العملية في وضح النهار، باستخدام الطيران الحربي وفي قلب الدوحة، لم يكن فقط استعراضًا للقوة، بل رسالة إلى المنطقة كلها بأن إسرائيل تملك اليد الطولى وستستهدف أي دولة دون قيود جغرافية.
رسائل للشرق الأوسط:
أبرزت العملية التناقض بين نهج دول الخليج، التي تعطي الأولوية للوساطة وخفض التصعيد، ونهج إسرائيل، التي تفرض رؤيتها عبر التدخلات العسكرية. وجاءت العملية في وقت يشهد فيه الشرق الأوسط تحولات جذرية مع تراجع الهيمنة الأمريكية، ما أفسح المجال لتنافس القوى الإقليمية على رسم ملامح نظام جديد.
بينما تسعى دول الخليج إلى استقرار ونمو اقتصادي استعدادًا لمرحلة ما بعد النفط، تدفع إسرائيل بسياسة توسعية عدوانية، من تنفيذ عمليات عسكرية في عدة دول، إلى إنشاء مناطق عازلة بحكم الأمر الواقع في لبنان وسوريا، وصولًا إلى ضربات الدوحة. والنتيجة المتوقعة هي مزيد من الفوضى وعدم الاستقرار، مع تهديد مباشر للسلم والأمن الدوليين.
رسائل لتركيا:
تزامنت العملية مع تصاعد التوتر التركي–الإسرائيلي. ورغم أن تقرير “الأكاديمية الوطنية للاستخبارات التركية” لم يتوقع مواجهة مباشرة، فإنه حذّر من ضرورة الاستعداد لكل الاحتمالات، خاصة بعد الحرب بين إيران وإسرائيل.
تعتبر إسرائيل النفوذ التركي المتزايد في سوريا تهديدًا مباشرًا لأمنها القومي، وتحاول منعه عبر عمليات عسكرية وتكتيكات استخباراتية. وقد أوصى خبراء إسرائيليون بضرورة الاستعداد لمواجهة مع تركيا، معتبرين أن التحالف التركي–السوري أخطر على إسرائيل من التهديد الإيراني.
في المجمل، حمل استهداف قادة حماس في الدوحة رسائل متعددة:
١. إلى قطر ودول الخليج، كعقاب على ربط التطبيع بالقضية الفلسطينية.
٢. إلى الولايات المتحدة، مفادها أن إسرائيل تعمل حتى بجوار أكبر قواعدها العسكرية.
٣. إلى تركيا وإيران، بأنها مستعدة للذهاب بعيدًا في ما تعتبره “أمنها القومي”.
٤. إلى الداخل الإسرائيلي والمعارضة، بأن لا حل عبر التفاوض، وأن التوسع في العمق العربي خيار إستراتيجي، ولو على حساب الرهائن.
إنها ليست سياسة نتنياهو وحده، بل توجه غالبية اليهود الشرقيين (السفارديم) والمستوطنين، الذين يسعون لتجاوز سياسات النخب “العلمانية” من اليهود الغربيين (الأشكناز).