كيف تتعامل فرنسا مع الجاليات العربية بعد مقتل “نائل”؟

لازالت أعمال الشغب والاشتباكات بين قوات الشرطة الفرنسية ومحتجين على حادثة وفاة شاب جزائري على يد أحد عناصر الشرطة الفرنسية مستمرة، الأمر الذي خلف موجه من الانتقادات للحكومة الفرنسية _ وقوات الشرطة على وجه الخصوص_ على إثر تعاملها مع الاحتجاجات، ومع الجاليات العربية بالتحديد.

وانعكست هذه الانتقادات في رفض الأمم المتحدة لطريقة تعامل الحكومة الفرنسية مع قضايا التمييز والعنصرية ضد هذه الجاليات، وغيرها من المواقف الأوروبية والعربية، وتحديدا الجزائر.

وتأسيسا على ذلك، يحاول هذا التحليل الإجابة عن التساؤلات حول كيفية تعامل الحكومة الفرنسية مع الجاليات العربية، ومدى رضا هذه الجاليات عن ذلك، وحدود تأثير ذلك على العلاقات الفرنسية الجزائرية تحديدا.

هزة اجتماعية جديدة:

أدت حادثة مقتل الشاب الجزائري نائل على يد عناصر الشرطة الفرنسية في 27 يونيو الماضي إلى احتجاجات ضخمة في الشارع الفرنسي، تسببت في أعمال شغب واسعة، وأسفرت عن عمليات نهب وسرقة متاجر ومنشآت عامة وخاصة، كان أخطرها سرقة متجر بيع الأسلحة في مدينة مرسيليا، مما دفع الشرطة الفرنسية إلى اعتقال مئات الأشخاص من أجل السيطرة على الوضع الأمني.

وبعد ذلك، دفعت الحكومة الفرنسية بتعزيزات أمنية موسعة من أجل مواجهة الاشتباكات، وتحديدا في الضواحي التي تقطنها هذه الجاليات، الأمر الذي استدعى في الأخير الرئيس ماكرون إلى قطع مشاركته في قمة الاتحاد الأوروبي في بروكسيل وعودته لترأس الاجتماعات.

ومن الواضح تواتر الاحتجاجات الساخنة في فرنسا بين الحين والآخر في ظل حكومة ماكرون، كما بدأ معتادا أن تلجأ الشرطة لأساليب عنيفة لقمع المحتجين، سواء استدعى الأمر أم لم يستدع، حتى أصبحت ظاهرة لافتة للنظر خلال السنوات الأخيرة، وتحديدا منذ تولى ماكرون الرئاسة، حتى أصبح يتم اللجوء إلى العنف بشكل مبالغ فيه، بل واستنادا إلى أساس قانوني. وفي دراسة أجراها منفذ الإعلام الاستقصائي ” باستا “، توضح أنه بينما قُتل 27 شخصاً على أيدي الشرطة في العام 2017، ارتفع هذا العدد إلى 40 في عام 2020، حتى ارتفع إلى 52 في العام 2021.

وقد ترجع مثل هذه الظاهرة إلى تنامي اليمين المتطرف في فرنسا، والذي أثر بدوره بشكل كبير على وضعيات المهاجرين، فقد كان ملف اللاجئين، هو الأبرز خلال الانتخابات الأخيرة، وعمل جميع المرشحين على توظيفه لحصد مكاسب سياسية وانتخابية في البلاد، ووضح هذا جليا في استخدام الخطاب العنصري المتطرف.

ناهيك عن النزعة الاستعمارية التي تتعامل في إطارها الحكومة الفرنسية مع الدول الأفريقية، خاصة المغاربية، سواء فيما يتعلق بسياستها الداخلية أو الخارجية. ووفقا لرويترز، فإن أغلب الحوادث الشبيهة كان ضحاياها من ذوي الأصول العربية والأفريقية. أضف إلى ذلك فشل الحكومة الفرنسية في إدماج المهاجرين ضمن المجتمع، أو تطبيق مبدأ تكافؤ الفرص، مما أدى إلى ظهور ما يشبه بالمجتمع الموازي، وفقا لمحللين.

يذكر أن هذه ليست المرة الأولى التي تتعامل فيه الحكومة الفرنسية بهذه الطريقة الوحشية مع الجالية العربية، ففي 2005 في عهد الرئيس ساركوزي حدثت موجة عنف واسعة أيضا، ووصف على إثرها ساركوزي أفراد الجاليات ممن يقطنون الضواحي بـ ” الحثالة “، وحث على ضرورة تطهير فرنسا منهم.

خيارات الحكومة:

حتى الآن فشلت الحكومة الفرنسية في عمليات إدماج المهاجرين، وتحديدا الشباب منهم، وعليه أصبحت مبادئ الجمهورية الفرنسية الثلاث ” الحرية والمساواة والأخوة ” مجرد شعارات واهية، ولا زالت هناك تفرقة في كافة التعاملات تقريبا بين الفرنسيين الأصليين والفرنسيين من ذوي الأصول العربية، بغض النظر عن اعتبارات الكفاءة. حتى أصبحت حوادث العنصرية والعنف التي تتعرض لها الجاليات العربية في فرنسا معتادة بشكل كبير، بالذات في ظل فشل الحكومة الفرنسية في احتواء الغضب الشعبي المتكرر والمتصاعد في فرنسا أكثر من مرة. ووفقا لمواطنين تونسيين فإنهم يرون أن المشهد الراهن في فرنسا، هو نتيجة تراكمات استمرت حتى الجيل الرابع الحالي بين الحكومة الفرنسية والجاليات.

وعليه، قد يلجأ ماكرون إلى بعض المسكنات لتهدئة الشارع الفرنسي، من خلال القيام بحملة إقالات ومحاكمات في وزارة الداخلية، ومحاولة معاقبة الشخص الذي أطلق النار على الشاب الجزائري في أسرع وقت، ليس إرضاءً للجاليات العربية أو المهاجرين في حد ذاتهم، وإنما من أجل تجنب فتح جبهة جديدة من العنف في فرنسا، خاصة وأنه لم يستطع التقاط أنفاسه بعد من الاضطرابات الأخيرة على إثر إصلاح قانون التقاعد والاحتجاجات التي سبقتها بسبب سوء الأوضاع الاقتصادية في فرنسا، وبالتالي سيعمل ماكرون على إخماد أي عوامل قد تؤدي إلى تأجيج الشارع الفرنسي مرة أخرى.

لذا من المرجح أن تستمر أزمة الإدماج وطريقة تعامل الحكومة مع الفرنسي من ذوي الوصول العربية والإفريقية، حتى وإن تولت حكومة معتدلة، وهذا راجع إلى التجاذبات السياسية في الشارع الفرنسي حول طريقة التعامل مع هذه الجاليات، حتى أن الانتخابات الرئاسية الأخيرة بين ماكرون ومارين لوبان أيقظت المخاوف مرة أخرى في هذا الشأن، باعتباره كان الملف الأبرز في الحملات الانتخابية، وبالتالي ستتخوف الحكومات الفرنسية المقبلة أيا كان انتمائها من استخدامه ضدها، وستظل أيضا متخوفة من اتخاذ أي خطوة جدية تجاه هؤلاء الأشخاص، في ظل تذبذب الوضع الاقتصادي وتصاعد اليمين المتطرف. وبالتالي سيظل هذا الملف معلقا وستتكرر على إثره العديد من حوادث العنف، بعدما بلغت أهمية ملف المهاجرين في فرنسا الدرجة الذي جعلت منه محركا كافيا لأي نقاش سياسي في فرنسا.

جدير بالذكر، أن ماكرون اتجه خلال ولايته الحالية والسابقة إلى التعامل الأمنى والعنف ضد أي احتجاجات منذ أزمة السترات الصفراء، وما تلاها من أزمات اقتصادية واجتماعية، كان آخرها الاحتجاجات على إصلاح قانون التقاعد والظروف المعيشية، وبالتالي فإن طريقة تعامل ماكرون مع الجاليات تعتبر جزء لا يتجزأ من طريقة تعامله وحكومته مع أي احتجاجات، قد تؤثر على الاستقرار في فرنسا طول فترة حكمه.

كما عمل ماكرون التضييق على المنظمات والجمعيات _ وتحديدا الإسلامية _ التي تتعامل معها هذه الجاليات، بما يؤشر إلا أن هذا الملف سيظل عالقا ليس فقط في ظل حكومة ماكرون، وإنما في الحكومات التي تليه على الأرجح.

ماذا عن العلاقات الجزائرية الفرنسية؟:

الخارجية الجزائرية أصدرت بيانا تستنكر فيه مقتل الشاب الفرنسي نائل، ووصفته الحادثة بالقتل الوحشي والمأساوي، الأمر الذي دفع البعض إلى توقع أن الحادثة من شأنها أن تمهد لصفحة جديدة من الخلافات بين الجزائر فرنسا، خاصة بعدما هاجم اليمين المتطرف الفرنسي الحكومة الجزائرية ودعاها للانشغال بمشاكل مواطنيها الداخلية فقط. وكان هذا البيان عقب استنكار ماكرون ووزارة الداخلية للحادثة، واستمرار الاحتجاجات رغم ذلك.

ويمكن قراءة البيان في إطار التوتر التاريخي الناتج عن الحقبة الاستعمارية، والذي لا يزال إرثه قائما ولم تتم تصفيته بعد بين البلدين، حتى أنه خلال العام الماضي تمت أكثر من 22 عملية قتل شبان من أصول مغاربية في فرنسا.

وبالتالي، فإن بيان الخارجية الجزائرية لا يخرج عن كونه بيانا دبلوماسيا من الوزارة المعنية بحماية حقوق رعايا الدولة في الخارج، وعليه فإنه لا يتوقع أن يؤثر على العلاقات الفرنسية الجزائرية بشكل كبير. حتى أن البيان لم ترد فيه أية عبارات تصعيدية، فهو عبارة عن بيان دبلوماسي ليس إلا، ومع ذلك فمن شأنه أن يحرك المياه الراكدة على المستوى الدبلوماسي بين البلدين.

وبالتالي، اختلفت الآراء حول ما إذا كان بيان وزارة الخارجية الجزائرية يحمل توظيفا سياسيا للأزمة، بين من يرى أنها فرضية منطقية وبين من يرى أنها مبالغ فيها. فواقعيا، دائما ما يكون هناك توظيف سياسي أو رسالة سياسية ولو بدرجة محدودة، حتى وإن كان موجها إلى فرنسا، فقد يكون الهدف منها لفت انتباه الشارع الجزائري بأن الحكومة تهتم بقضايا رعاياها ف الخارج، وفي الوقت نفسه كسر الفتور في العلاقات الدبلوماسية بين البلدين.

وهناك بعض المحللين رجحوا أن يكون هذا البيان والرد على مقتل الشاب الجزائري، جاء ردا من الحكومة الجزائرية علي تعامل السلطات الفرنسية مع قضية الناشطة أميرة بوراوي، التي تأجلت على إثرها زيارة الرئيس تبون إلى فرنسا في وقت سابق.

في الختام، يبدو أنه ثمة إشكالية واقعية تتعلق بالممارسات العنصرية التي أضحت متكررة في جهاز الشرطة الفرنسية، وغيرها من القيم الرافضة لكل ما هو أجنبي وخارجي، عززتها مشروعية القمع التي أعطتها إياها الحكومة في صورة قوانين. حتى أن الأزمة الراهنة من قمع وعنف ضد المحتجين أصبحت لا تعكس فقط طريقة تعامل الحكومة الفرنسية مع المهاجرين، وإنما تعبر عن النظام البوليسي في فرنسا.

وفي ظل غياب قنوات التواصل بين الحكومة والفرنسيين الأصليين أنفسهم، وتراجع الثقة في حكومة ماكرون، وخاصة فئة الشباب، يبدو أن الحكومة الفرنسية الحالية لن تنجح في إرضاء المواطنين بوجه عام خلال فترتها الحالية، وعليه فإن أمور الجاليات والوفاء بوعود الإدماج قد لا تكون أولوية بالنسبة لحكومة ماكرون في ظل المشتتات العديدة داخليا وخارجيا.

وردة عبد الرازق

باحثة في الشئون الأوروبية و الأمريكية، كانت تعمل في مركز رع للدراسات رئيسة لبرنامج الدراسات الأوروبية والأمريكية. الباحثة حاصلة على بكالوريوس علوم سياسية، جامعة بنى سويف، الباحثة مهتمة بدارسة الشأن التركي ومتابعة لتفاعلاته الداخلية والخارجية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى