لماذا تأزم اليسار في أوروبا؟

دعا رئيس الوزراء الإسباني بيدرو سانشيز إلى انتخابات تشريعية مبكرة في الثالث والعشرين من يوليو القادم بدلا من نهاية العام، غداة هزيمة قاسية تعرض لها معسكره في الاستحقاق الانتخابي الأخير للحكومات المحلية أمام اليمين المعارض. في حدث جاء استكمالا لسلسلة الهزات التي يتعرض لها اليسار في القارة العجوز. الأمر الذي يفتح باب التكهنات حول أسباب الانتكاسة السياسية التي يتعرض لها اليسار بشكل متكرر في عدة دول أوروبية، وما إذا كان يسير في طريق الاندثار في مواجهة اليمين الشعبوى.
تراجع واضح:
جاءت هزيمة اليسار في إسبانيا في إطار جملة من الأحداث المشابهة التي تمر بها القارة العجوز خلال الفترة الأخيرة، في ظل استفاقة وسيطرة واضحة للأحزاب اليمينية أظهرتها نتائج الانتخابات التي أجريت خلال العامين الماضيين في غالبية العواصم الأوروبية، التي دأبت فيها الأحزاب اليمينية على نسج خطاب قومي جذب مؤيدين كُثر على وقع الأزمات الراهنة.
فإسبانيا لم تكن الدولة الأوروبية الأولى التي يغزوها اليمين الراديكالي، فقد سبق وعاني الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون أمام التيار اليميني وفاز بالانتخابات البرلمانية والرئاسية بشق الأنفس أمام مارين لوبان، حتى أن الحزب الاشتراكي العريق مني بهزيمة غير مسبوقة، بعدما حصلت مرشحته للانتخابات الرئاسية الفرنسية آن هيدالغو على 1,5 % من الأصوات، بما يمثل شبه اندثار للحزب الذي كان يقود البلاد قبل بضع سنوات في عهد الرئيس السابق فرانسوا هولاند. حتى في إيطاليا، عاد مرة أخرى اليمين المتطرف إلى سدة الحكم للمرة الأولى منذ عقود بقيادة جورجيا ميلوني، مما شكل مفاجأة لكثيرين.
والأمر نفسه بالنسبة للسويد التي حقق فيها التيار اليميني بقيادة حزب الديمقراطيين القومي انتصارا مفاجئا في الانتخابات البرلمانية العام الماضي. وهكذا المجر برئاسة فيكتور أوربان، وبريطانيا، التي مني فيها حزب العمال اليساري بخسارة مدوية في انتخابات 2019،وبولندا، ويبدو أن الأمر لن يختلف كثيرا في إسبانيا.
تراجع مبرر:
يمكن إرجاء تراجع نفوذ اليسار في المجتمعات الأوروبية إلي عدة عوامل، أهمها:
الأعباء الاجتماعية: والتي نتجت عن المخاوف الموجودة في الشارع الأوروبي إثر تزايد موجات الهجرة منذ عام ٢٠١٥ وحتى الآن. ونجاح الأحزاب اليمينية في استغلال سقطات اليسار في هذه الدول من خلال الخطابات الشعبوية واستراتيجيات التعبئة الناجحة للجماهير. وأسهم هذا في مجمله في انتقال عدوى اليمين إلى العديد من الدول الأوروبية. إلي جانب أزمة الهوية، وانقسام النخب واختلاف توجهاتهم بين المدن الكبيرة والضواحي.
كما يري البعض أن تراجع نفوذ الأحزاب اليسارية في أوروبا إلى الانتقال من الاقتصاد الصناعي إلى اقتصاد الخدمات، وهو ما أدي _ إلى جانب عوامل أخرى _، إلى تراجع في فرص عمل ووظائف الطبقة العاملة التقليدية، وتراجع نسبي في الأعداد الإجمالية للطبقة العاملة بالنسبة لمجموع السكان.
الاضطرابات الاقتصادية:وتتمثل في الأزمة التي تمر بها الاقتصادات الأوروبية بوجه عام خلال السنوات الثلاث الأخيرة، وبالتحديد منذ جائحة كورونا، ومن بعدها تداعيات الحرب الأوكرانية التي ضاعفت من التحديات الاقتصادية التي واجهها ولا يزال يواجهها القادة الأوروبيين، من أزمات في الغذاء والطاقة، ناهيك عن غلاء المعيشة، وكان لذلك بالغ الأثر في ظهور مشاعر السخط لدى الجماهير تجاه الحكومات، خاصة وأنها _ الحرب _ ساهمت من ناحية أخرى في تنامي المشاعر القومية والهوياتية لدي قطاع كبير من الأوروبيين.
غياب القيادات: وهو من أهم العوامل التي أدت إلي خفوت اليسار الأوروبي خلال السنوات الاخيرة، بسبب عدم وجود القيادات الملهمة والقادرة على الحشد والإقناع، وتحديدا خلال فترة الازمات، وهو ما رأيناه على أرض الواقع خلال الأشهر الأخيرة من تهاوي العديد من الحكومات اليسارية نتيجة لقصور الاستجابة لتداعيات الحرب الأوكرانية، ففي السويد سقطت سان مارين رئيسة الحكومة، وكان من أهم الأسباب لذلك فشل جهود ستوكهولم للانضمام للناتو بسبب الفيتو التركي كمطلب شعبي _ وفقا لاستطلاعات الرأي الداخلية _ خوفا من الأطماع الروسية.
وفي هذا للإطار وفقا لمحللين أوروبيين، فإن أسباب هبوط شعبية اليسار في أوروبا، تعود إلى حقبة الحرب الباردة في أوائل سبعينيات القرن الماضي، حيث لم يظهر زعيم يساري يتمتع بكاريزما حقيقية تستطيع إحداث الفارق في أوروبا منذ ويلي براندت ( الذي حصل على جائزة نوبل لبناء الجسور بين الشرق والغرب تمهيدا لإعادة توحيد ألمانيا ).
قصور في التعامل مع الأزمات: ففي ظل وجود محفزات عديدة خلال الأعوام الثلاثة الماضية لهز الثقة في البديل اليميني، في خضم أزمة فيروس كورونا والحرب الأوكرانية، لم تستطع الأحزاب أو القيادات اليسارية، سواء من كان منها في السلطة أو خارجها أن يقنع المواطنين بقدرته على إيجاد حلول أو التعاطي مع مثل هذه الأزمات والمستقبلية منها، مما حفز الميول اليمينية في الشارع الأوروبي، وهو ما شهدناه في إيطاليا التي عجزت الحكومة السابقة فيها عن التعامل مع جائحة كورونا بالشكل الأمثل، الأمر الذي جعل من إيطاليا من أكثر الدول المتضررة من الأزمة. وهكذا السويد التي فشلت فيها جهود حكومة سان مارين في الانضمام للناتو، مما يجعل دورها محصور فقط في انتقاد الوضع القائم.
مستقبل اليسار:

قد تكمن مشكلة اليسار في أوروبا أنه ليس الأصل على الواجهة الأوروبية منذ الأزل، وبالتالي إن عادت الدول الأوروبية لسيطرة اليمين، فهي بذلك تكون قد عادت إلى أصولها، لأن وجود بعض الواجهات والقيادات اليسارية في سدة الحكم ما هو إلا استثناءا لفترة معينة.
وبالتالي، فإن تراجع الأحزاب اليسارية الأوروبية مؤخرا قد يستمر على المدى القريب، في ظل الهزات المتكررة التي تعرضت لها هذه الأحزاب في العديد من الدول، والتي قد تنبئ أيضا بمزيد من التهاوي لليسار الأوروبي في الاستحقاقات القادمة في مختلف الدول. وذلك بالتزامن مع استفاقة الأحزاب اليمينية وقدرتها على الحشد مع تنامي المشاعر القومية للأوروبيين من نخب ومواطنين.
كما أن فكرة اليسار التقليدي يبدو أنها لم تعد محببة لدي الأوروبيين خلال الفترة الراهنة، بل إلي الوسطية أكثر، وقد يكون هذا ما أدركه كير ستارمر رئيس حزب العمال البريطاني، الذي يحاول استغلال الأزمات الأخيرة التي يمر بها حزب المحافظين، بالذات بعد أزمة اختيار رئيس الوزراء الأخيرة، ومحاولة السير على خطي تونى بلير رئيس الوزراء البريطاني الأسبق الذي كان أقرب إلي الوسط منه إلي اليسار حتى يتماشى مع الظروف الراهنة.
إلا أن الأمور قد لا تسير في طريق الاندثار تماما، فمن الممكن أن تكون مجرد استراحة محارب لليسار الأوروبي، في ظل تواجد أمثلة لازالت تقود دول كبري داخل القارة العجوز، مثل ألمانيا التي نجح فيها الحزب الاشتراكي الديمقراطي في تشكيل الإتلاف الحاكم في ألمانيا، بعد سيطرة لليمين ممثلا في الحزب المسيحي الديمقراطي دامت لعشرين عاما.
حتى أن عددا من استطلاعات الرأي أظهرت أن فئة الشباب تميل نحو اليسار وليس اليمين المتطرف، في ظل وجود شخصيا يسارية نجحت في التعبئة، مثل جون لوك ميلونشون زعيم اليسار الفرنسي، الذي كاد أن يقلب الطاولة على الجميع في الانتخابات الأخيرة، وكان يفصله عن خوض جولة الإعادة حوالي 400 ألف صوت فقط لتجاوز مارين لوبان، كما نجح في الحصول على عدد غير مسبوق لحزبه من المقاعد، وكان غالبية المصوتين له من فئة الشباب، بفضل شعارات العدالة الاجتماعية والاهتمام بالتعليم وفرض رقابة على ثروات الأغنياء، وغيرها من الشعارات الجذابة بالنسبة لفئة الشباب.
وعليه فإن الأيديولوجية اليسارية في أوروبا لم تنته بعد، إلا أن الأمر يحتاج فقط لتحسينات في جوهر هذه الحركات، من الاهتمام بلغة الخطابات وسرعة التعاطي مع الأزمات وغيرها، خاصة وأنها تواجه تحديات تفرضها الحركات اليمينية التقليدية التي لا تريد وصول قيادات بفكر اشتراكي للسلطة، لأنها تعتبر هذا الأمر تهديدا لها. ومثال على ذلك، جيرمي كوربن الذي كان مرشحا للفوز برئاسة الوزراء البريطانية في 2019، إلا أن كل مؤسسات الدولة تعاونت جميعها لإفشاله، وأولها الإعلام.
وبالتالي، فإن الحل لمشكلة اليسار في أوروبا ليس الاقتصار على مطاردة أصوات ناخبيهم السابقين، ولا تصيد أخطاء اليمين، بل بالتفات اليساريين إلى أنفسهم، والعودة إلى برنامجهم وقيمهم الأساسية التي جذبت مؤيديهم من الأساس.
وفي الختام، قد يكون السبب في مثل هذا المشهد الملتبس هو تغير مزاج الناخبين واضطراب الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية، جعلت اليمين واليسار يتناوبان على السلطة. وبالتالي لم تعد أفكار اليمين واليسار على حد سواء تهتم بالمزاج السياسي للناخبين ولا الحالات السياسية التي تشهد تناقضات عديدة، ولم تعد قادرة على التسبب بتغيرات جذرية في المشهد الداخلي على كافة الأصعدة، وبالتالي فإن بروز اليمين على المشهد السياسي الأوربي حاليا ليس سببه نجاح للنخب اليمينية أو أفكارها في حد ذاتها، وإنما فقط قصور الحكومات اليسارية التي كانت موجودة على تقديم حلول أو حتى تطمين الرأي العام في ظل التحديات الداخلية والخارجية القوية خلال الآونة الأخيرة.
وعليه، قد تظل الأحزاب اليمينية واليسارية تتناوب القيادة فيما بينها، فيما أشبه بالدوران في دائرة مفرغة مالم تجد طرقا إبداعية لإقناع الناخبين _ في ظل الانشقاق الواضح في صفوفهم حول تأييد أي من التيارين _ بقدرتها على حل المشكلات.