إلى أين تذهب العلاقات الفرنسية الجزائرية بعد تصريحات ماكرون؟
بضع كلمات أطلقها الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون تسببت في أزمة دبلوماسية عميقة مع الجزائر؛ حيث تهجم فيها على السلطات الجزائرية في الرئاسة والجيش، وأساء إلى تاريخ الجزائر، وطعن في ذاكرة شهداء حرب التحرير، كما حاول إثارة الشكوك حول علاقة الرئيس تبون برئاسة الأركان، الأمر الذي تسبب في أزمة دبلوماسية غير مسبوقة بين البلدين.
وفي أول رد فعل لها قرّرت الجزائر استدعاء سفيرها في باريس محمد عنتر داوود للتشاور حول ما اعتبرته قضية غير مقبولة. وأصدرت الرئاسة الجزائرية السبت 02 أكتوبر 2021 بيانا اعتبرت فيه أن تصريحات ماكرون بعيدة عن اللياقة الدبلوماسية ومن شأنها إلحاق الضرر بالتعاون الجزائري- الفرنسي في مجال الذاكرة. كما تعد هذه التصريحات إهانة لذاكرة 5.63 مليون شهيد (منذ 1830) ضحوا بحياتهم من أجل استقلال الجزائر.
وقبل ذلك استدعت الخارجية الجزائرية السفير الفرنسي بالجزائر “فرانسوا غويات” الأربعاء الماضي للاحتجاج على قرار باريس خفض عدد التأشيرات الممنوحة للجزائريين إلى النصف دون استشارة الطرف الجزائري.
والسؤال الذي يثور هنا هو لماذا اختار الرئيس ماكرون هذا التوقيت بالذات لإطلاق هذه التصريحات؟ وهل لها علاقة بالانتخابات الرئاسية المقبلة؟ وما هي أبعادها الداخلية والخارجية؟
الظروف المحيطة بالتصريحات وسياقها:
كل المؤشرات توحي بأن تصريحات الرئيس الفرنسي لم تكن زلة لسان أو خروجاً عن اللباقة الدبلوماسية، بل كانت عملية مدروسة بعناية فائقة، تم التحضير لها واختيار كلماتها وجملها بدقة شديدة. ويكفي معرفة نوع الوسيلة الإعلامية واسم الصحفي الذي اختير لنقل تصريحات الرئيس الفرنسي ليتضح الغرض من ورائها.
تجدر الإشارة في البداية إلى أن صحيفة لوموند ليست صحيفة عادية بل تعد أحد الأذرع الإعلامية لجهاز المخابرات الخارجية في فرنسا، والسياسة الخارجية الفرنسية عموماً. كما أن اختيار الصحفي الذي نقل تصريحات الرئيس الفرنسي لم يكن اعتباطيا، يدعى مصطفى كسوس وهو فرنسي من أصل مغربي، وسبق له أن اعد برنامجاً وثائقياً حول الحراك في الجزائر، بثته قناتا LCI وفرانس 5 بتاريخ 27 مايو 2020. وقد تسبب في أزمة دبلوماسية بين البلدين جعلت الجزائر تستدعي سفيرها للتشاور بتاريخ 27 مايو 2020. والأدهى في الأمر أنه صحفي متخصص في الشأن الرياضي وله عديد المؤلفات حول الألعاب الأولمبية.
أبعاد تصريحات الرئيس الفرنسي ودوافعها:
(*) الأبعاد الداخلية.. تهيئة الظروف للفوز بولاية رئاسية ثانية: تأتي تصريحات الرئيس الفرنسي في لقاء جمعه بقصر الاليزيه الخميس 30 سبتمبر 20212، بثمانية عشرة شابا وشابة من أحفاد “الحركى”؛ أي أبناء من تعاونوا مع الجيش الفرنسي إبان حرب التحرير، وأحفاد المجاهدين. لقد أراد الرئيس ماكرون من وراء هذا اللقاء توجيه الرأي العام الداخلي واستمالته، وكسب دعم وتأييد دوائر فرنسية في النظام الفرنسي معادية لكل ما هو جزائري.
ويتمثل مضمون رسالة ماكرون إلى الداخل الفرنسي في أنه يمكن تجاوز جروح الذاكرة بين الجزائر وفرنسا، كما حاول الظهور بمظهر الطبيب الذي بمقدوره تضميد جروح التاريخ العميقة والذاكرة .
بيد أنه لا يمكن فصل تصريحات الرئيس الفرنسي عن الانتخابات الرئاسية القادمة والتي يفصلنا عنها خمسة أشهر كاملة، خصوصاً وأنها تأتي وشعبية الرئيس ماكرون في أدنى مستوياته، بسبب إخفاق الحكومة الفرنسية في ملفات كالملف الاقتصادي وإدارة أزمة كوفيد-19، إلى جانب إخفاقات دبلوماسية وأمنية في أفريقيا وتحديداً في منطقتي الساحل وغرب أفريقيا. ومن هذا المنطلق، يُمني ماكرون النفس بالفوز بولاية رئاسية ثانية مستغلاً ملف “الحركى”، والسعي إلى افتكاك تعويضات مادية لهم ولأبنائهم. واستناداً إلى إحصائيات رسمية فرنسية، يبلغ عدد الحركى الذين جندتهم فرنسا خلال حرب الجزائر (1954-1962) 150 ألف مجند، منهم 90 ألف عاشوا في فرنسا بعد استقلال الجزائر، بينما بقي ما بين 55 ألف و75 ألف في الجزائر بعد أن تخلت عنهم فرنسا. ومن ثمة، يحاول الرئيس ماكرون استمالة هذه الفئة قصد الظفر بأصواتها في الانتخابات الرئاسية القادمة، كما حصل في انتخابات 2017.
وفي هذا السياق، فقد طلب الرئيس ماكرون منذ أيام العفو من الحركى، وكان يأمل في تحقيق انجاز لم يسبقه إليه الرؤساء السابقون. لكن الجزائر رفضت إصدار عفو عنهم، واعتبرت تصريحات الرئيس ماكرون شأن فرنسياً داخلياً.
أما بالنسبة للوبي الصهيوني – المغربي المعادي للجزائر، فقد غازله الرئيس الفرنسي بالقول إن الجزائر غداة الاستقلال قد تم بناءها على تاريخ مزور، برعاية نظام سياسي وعسكري هو المسئول عن كل حقد في الجزائر تجاه فرنسا. وأكد بأنه يحتفظ بعلاقات ودية مع الرئيس عبد المجيد تبون، لكن الرئيس الجزائري رهينة نظام متحجر للغاية، مؤكداً أن الرئيس تبون لا يتحمل مسؤولية ما آلت إليه العلاقات الثنائية بين البلدين، وان قيادة الجيش هي المسئولة عن هذا الوضع.
وترى أوساط جزائرية أن الرئيس الفرنسي قد فضح نفسه من حيث لا يدري حيث كرّر ما ذهبت إليه افتتاحية لوموند في شهر جوان الماضي حيث تهجمت على رئيس أركان الجيش الفريق سعيد شنقريحة وحملته مسؤولية حرب الذاكرة بين البلدين، وهو ما يؤكد أن افتتاحية لوموند يقف وراءها الرئيس ماكرون.
وبالرجوع إلى تصريحات مسئولين سابقين كالسفير السابق في الجزائر برنار باجولي تؤكد حقيقة ثابتة مؤداها أن ما قاله الرئيس الفرنسي هو نفسه ما يعتقده كبار المسئولون في الدولة الفرنسية، وهي جزء من خارطة طريق يريد الطرف الفرنسي فرضها على الجانب الجزائري كنوع من المساومة والابتزاز. فالغرض من وراء قضيتي والذاكرة التأشيرات هو إحراج السلطات الجزائرية والضغط عليها قصد دفعها إلى الإفراج عن مصالح فرنسية معطلة أو لم تلقى الاستجابة من قبل الحكومة الجزائرية.
(*) الأبعاد الدولية.. انزعاج من تنامي التمدد الاقتصادي التركي في الجزائر: لقد تعمد الرئيس ماكرون إثارة ملف الذاكرة في تصريحاته الخميس الماضي، بالقول إنه كان هناك استعمار سابق عن الاستعمار الفرنسي وهو الاحتلال العثماني، لكن الأتراك نجحوا في جعل الناس ينسون ذلك، داعياً إلى إعادة كتابة تاريخ الجزائر الذي تعرض للتضليل تحت تأثير الدعاية التركية. كما لم يخف إعجابه بالدور التركي في هذا الاتجاه.
غير أن الزج بتركيا في أتون التوتر بين البلدين يخفي في ثناياه عدم ارتياح فرنسي من التمدد الاقتصادي لتركيا في الجزائر. كما يتضمن رسالة إلى السلطات الجزائرية مفادها أن أي تحسن في العلاقات الثنائية مرهون بإبعاد أنقرة عن السوق الجزائرية، التي ارتفعت حصتها في السوق الجزائرية إلى 5 مليار دولار منذ انتخاب الرئيس تبون في 2019. وقد انتقلت الشركات التركية في الجزائر من مستوى الإنتاج إلى مستوى التصدير وجلب العملة الصعبة. في مقابل تراجع حصص فرنسا في السوق الجزائرية؛ حيث فقدت باريس عديد الامتيازات والفرص الاقتصادية والتجارية، نذكر منها على سبيل الذكر لا الحصر قرار السلطات الجزائرية فسخ عقد الشراكة مع شركة المياه الفرنسية، وكذا مؤسسة تسيير مطار الجزائر الدولي، إلى جانب وقف استيراد المنتجات الفرنسية الصناعية، الزراعية والخدماتية.
تداعيات تصريحات ماكرون:
(&) التداعيات العسكرية والأمنية: أولى تداعيات تصريحات ماكرون على العلاقات الفرنسية- الجزائرية ذات طبيعة عسكرية وأمنية، فقد أعلنت وزارة الدفاع الجزائرية الأحد 02 اكتوبر 2021، غلق المجال الجوي أمام الطائرات الحربية الفرنسية المشاركة في عملية برخان في مالي، التي يشارك فيها نحو 5000 عسكري فرنسي ينتشرون في منطقة الساحل الأفريقي. وبذلك ستضطر الطائرات الحربية الفرنسية إلى عبور الأجواء المغربية والموريتانية. ويأتي هذا القرار، حسب الخبراء العسكريين الفرنسيين، في لحظة لوجستية حرجة، حيث شرعت رئاسة الأركان الفرنسية منذ أسابيع في إعادة تنظيم قواتها في منطقة الساحل الأفريقي. كما أن هذا القرار من شأنه أن ينعكس سلباً على التعاون الاستخباراتي بين البلدين في في منطقة الساحل الأفريقي.
(&) التداعيات الاقتصادية والتجارية: استنادا إلى عديد المصادر الجزائرية فقد شرعت السلطات الجزائرية في مراجعة شاملة لعلاقاتها الاقتصادية والتجارية مع الجانب الفرنسي. ومن هذا المنطلق، وإذا تم ذلك فسيتم إعادة توجيه الحصص في السوق الجزائرية نحو شركاء آخرين يولون أهمية بالغة لسيادة الجزائر. وستكون لهذا القرار اضرار بليغة على الشركات الفرنسية في الجزائر. وفي 2020 كانت فرنسا ثاني شريك تجاري للجزائر بصادرات بلغت قيمتها 3.6 مليار دولار، وبلغة حصتها في السوق الجزائرية 10.6%، وراء الصين التي تبلغ صادراتها 5.7 مليار دولار، وحصة في السوق الجزائرية تقدر 16.81 %.
ختاماً، يمكن القول إن تصريحات ماكرون كانت بمثابة رصاصة الرحمة على العلاقات الجزائرية الفرنسية التي توجد منذ سنوات في غرفة الإنعاش، وتحديداً منذ تراجع نفوذ باريس في المؤسسة العسكرية وملحقاتها الأمنية. كما تعكس توجها عاما في السياسة الخارجية الفرنسية حين يتعلق الأمر بالجزائر، مهما تباينت المرجعية الفكرية للمسئولين الفرنسيين، حيث يتبنى هؤلاء الفكرة ذاتها والتي تتمثل في كون جيل الثورة في الجزائر عقبة كؤود في طريق تطور العلاقات الجزائرية – الفرنسية.