خطوات محسوبة: محددات موقف الجزائر من الحرب في أوكرانيا
اختارت الجزائر موقف الحياد تجاه العملية العسكرية الروسية الخاصة في أوكرانيا، واكتفت بالدعوة إلى التهدئة وضبط النفس واعتماد الحوار والمفاوضات سبيلاً لحل النزاع بين موسكو وكييف، دون الإعلان بشكل واضح وصريح عن تأييدها لهذا الطرف وذاك، بالرغم من العلاقات الإستراتيجية التي تربطها بروسيا. ويبدو أن الجزائر ترغب في النأي بنفسها عن هذا الصراع، والحفاظ على علاقاتها مع الغرب وروسيا في آن واحد. وهو ما يفسر تعاملها المرن والبرجماتي مع الحرب الأوكرانية من أجل تلافي أيّة ارتدادات سلبية على مصالحها الإستراتيجية.
تأسيساً على ما سبق، نحاول في هذا التقرير قراءة الموقف الجزائري تجاه الحرب في أوكرانيا، في ضوء التطور التاريخي لعلاقات الجزائر بأطراف الصراع، وذلك عبر ثلاثة مستويات أو أبعاد وهي، البعد التاريخي، البعد الاقتصادي، وأخيراً البعد المتعلق بمبادئ السياسة الخارجية الجزائرية.
السياق التاريخي:
يمكن تفسير موقف الجزائر المحايد من الأزمة الأوكرانية بالعلاقات التاريخية التي تربطها بروسيا وريثة الاتحاد السوفييتي السابق، وحجم المصالح التجارية والاقتصادية والعسكرية التي تربط البلدين على مدى ستة عقود. فالاتحاد السوفييتي السابق، هو أول دولة في العالم أقامت علاقات دبلوماسية مع الجزائر المستقلة، ومن ثمة لا يمكن تصور الجزائر ضمن أي اصطفافات دولية ضد روسيا. فالجزائر وموسكو تربطهما اتفاقية شراكة إستراتيجية تم توقيعها في موسكو عام 2001 من قبل الرئيسين عبد العزيز بوتفليقة وفلاديمير بوتين، وتعد الأولى من نوعها مع بلد عربي وأفريقي. ولما زار الرئيس الروسي “بوتين” الجزائر عام 2006 أعلن عن إلغاء ديون الجزائر لدى روسيا والمقدرة بـ4.7 مليار دولار، ووقع على حزمة من الاتفاقيات وتحديداً في مجال التسلح، حيث اقتنت الجزائر أسلحة روسية بقيمة 7.5 مليار دولار. لتصبح الجزائر، بذلك ثالث زبون لروسيا في مجال العتاد العسكري (بعد الصين والهند) وتستحوذ على نصف صادرات السلاح الروسية نحو أفريقيا. وفي 2014 وقع البلدان على اتفاق أخر لا يقل أهمية ويتعلق بالتعاون في مجال الطاقة النووية لأغراض سلمية. كما يتقاسم البلدان الرؤية ذاتها فيما يتعلق بقضية الصحراء الغربية. ومن هذا المنطلق، فالجزائر ليست مستعدة للتضحية بهذه الشراكة والوقوف مع الغرب ضد روسيا.
ثوابت السياسة الخارجية الجزائرية:
تقوم السياسة الخارجية الجزائرية على جملة من المبادئ صارت سمة ملازمة للدبلوماسية الجزائرية، كالتزام الحياد في وقت الأزمات الدولية، والمرافعة لصالح الحلول السلمية وتغليب لغة الحوار لتخفيف حدة التوترات، كما جاء في كلمة ممثل الجزائر في الأمم المتحدة. ومنذ اندلاع الحرب الأوكرانية تحاول الجزائر النأي بنفسها عن هذا الصراع، بالرغم من التداعيات الخطيرة التي أفرزتها العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا. لذلك تفضل الجزائر الخيار الدبلوماسي لتسوية النزاعات الدولية، بعيداً عن سياسة استخدام القوة، وتتمسك باحترام مبدأ سيادة الدول ورفض كل أشكال الاحتلال ودعم حق الشعوب في تقرير مصيرها.
ومنذ إعلان الرئيس “بوتين: عن بدء العملية العسكرية في أوكرانيا، لم تصدر الجزائر أي بيان سياسي يخصّ الحرب الروسية في أوكرانيا، باستثناء ثلاثة بيانات تتعلق بوضع الرعايا الجزائريين في أوكرانيا والجهود الدبلوماسية المبذولة لترحيل 76 جزائرياً قادمين من رومانيا، دون الخوض في تفاصيل الحرب على أرض المعركة، واكتفت بوصف العملية العسكرية الروسية “بالتطورات الحاصلة في أوكرانيا”، و”تدهور الحالة الأمنية”.
وفي الجلسة الطارئة للجمعية العامة للأمم المتحدة التي انعقدت في الثاني من مارس الجاري، امتنعت الجزائر إلى جانب السودان والعراق عن التصويت على قرار غير ملزم يُدين العملية العسكرية الروسية الخاصة في أوكرانيا، ويطالب موسكو بسحب قواتها من أوكرانيا، بينما صوتت 15 دولة عربية لصالح القرار.
ويمكن الاستدلال بحادثة أخرى لفهم الموقف الجزائري إزاء العملية العسكرية الروسية الخاصة في أوكرانيا، ويتعلق الأمر بمنشور لسفارة أوكرانيا في الجزائر على صفحتها على الفيسبوك، حيث أعلنت فيه عن فتح باب التطوع لتجنيد مقاتلين في صفوف الجيش الأوكراني للدفاع عن أوكرانيا ضد ما أسمته “غزاة القرن الحادي والعشرين”. وهو ما استدعى تدخل وزارة الخارجية الجزائرية التي طلبت من السفارة الأوكرانية سحب المنشور فورا، وهو ما تم في الحال. واعتبرت الجزائر المنشور فعلاً خطيراً ينتهك اتفاقية فيينا للعلاقات الدبلوماسية بين الدول.
البعد الاقتصادي كمحدد:
تحفظت الجزائر على التعليق عن الخوض في كل النقاشات الدولية حول التبعات الاقتصادية الناجمة عن الحرب الأوكرانية، على الرغم من امتلاكها فرص لتحقيق مكاسب كبيرة من وراء تجديد عقود الغاز لضخ كميات إضافية نحو أنابيب أوروبا. فضلاً عن ذلك، تصطدم الرغبة الأوروبية والأمريكية بصعوبات فنية وتقنية، وهو ما يجعل من هذا الفكرة غير قابلة للتجسيد. لكن بالرغم من ذلك، يواصل الأوروبيون والأمريكان الضغط على الجزائر لضمان تزويد أوربا بالغاز في حالة ما إذا قررت روسيا وقف إمداد أوربا بالغاز، أو في حالة ما إذا طال أمد الحرب. وهذا ما يفسر زيارة وزير الخارجية الإيطالي لويجي دي مايو، الاثنين الماضي، لطلب زيادة الإمدادات. ثم زيارة نائبة وزير الخارجية الأمريكي ويندي شيرمان التي حظيت باستقبال من قبل الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون، وكانت الأزمة الأوكرانية وانعكاساتها على الأمن الطاقوي لأوربا في صلب المحادثات بين الجانبين.
بيد أن الجزائر ولحد الساعة ترفض أن تكون بديلاً من روسيا في ما يتعلق بزيادة إمدادات الغاز نحو أوربا. وقد كادت صحيفة محلية محسوبة على التيار الفرانكفوني أن تتسبب في أزمة سياسية مع روسيا عقب نشرها تقريراً بعنوان “الجزائر مستعدة لتزويد الأوروبيين بالغاز”، وهو ما يعني استعداد الجزائر لأن تكون بديلاً من روسيا في تزويد أوروبا بالغاز. لكن السلطات الجزائر سارعت إلى تفنيد هذه المعلومات، وأصدرت مجموعة سوناطراك النفطية بياناً في 28 فبراير الماضي أعلنت فيه أنها ستقاضي الصحيفة. وهو ما يفهم منه أن الجزائر حذرة في ما يتعلق بالموقف من العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا، وتبدو خطواتها محسوبة بدقة متناهية. فهي تفضل أن تقف على مسافة واحدة من طرفي النزاع، بالرغم من أن دورها كفاعل طاقوي في أوربا، باعتبارها ثالث ممون لأوربا بالغاز بعد روسيا والنرويج.
ختاماً، يمكن القول إن الجزائر تبنت موقف الحياد الايجابي حيال الأزمة الأوكرانية، وتقوم رؤيتها للصراع الروسي الأطلسي على الخيار الدبلوماسي. فالجزائر لا يمكن أن تقف ضد روسيا بحكم العلاقات التاريخية والشراكة الإستراتيجية، لكنها تتفهم المخاوف الأمنية الروسية وترى أن الأمن كل لا يتجزأ. كما لا يمكنها أن تقف ضد الغرب، بالنظر إلى أن ما قامت به موسكو يمثل عدوانا على دولة ذات سيادة، وهو ما ترفضه الجزائر.