تقارب الضرورة: أبعاد زيارة “ماكرون” إلى الجزائر
سيحل الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بالجزائر هذا الخميس في زيارة رسمية تدوم ثلاثة أيام، حيث سيلتقي السلطات الجزائرية في العاصمة، ثم يتوجه إلى محافظة وهران بالغرب الجزائري. وهي الزيارة التي يرجح أن تكون أخر فرصة للجانب الفرنسي لترميم العلاقات الثنائية المتصدعة بفعل محاولات فرنسا التدخل في الشأن الداخلي الجزائري وفي محيطها الإقليمي وتحديداً مالي.
ترميم علاقات متصدعة:
ترمي زيارة الرئيس ماكرون، حسب بيان الرئاسة الفرنسية، إلى إعادة بعث الشراكة الثنائية بين البلدين، وتعميق العلاقات الثنائية، والتحول نحو المستقبل وطي صفحة الخلافات، بما يعود بالفائدة على الشعبين. وستكون الزيارة فرصة للرئيس الفرنسي لتعزيز التعاون الفرنسي الجزائري في مواجهة القضايا الإقليمية، ولتهدئة التوتر في ملف الذاكرة، بعد فترة توتر شديد في العلاقات الثنائية. ويبدو أن الرئيس ماكرون يسعى إلى الحفاظ على العلاقات الثنائية بين البلدين المبنية على الثقة والاحترام المتبادل، خصوصاً في ظل إصرار الرئيس الجزائري على علاقات مع فرنسا قائمة على مبدأ “الند- للند”.
وتكتسي الزيارة طابعاً هاماً بالنظر إلى أهمية الملفات المطروحة على طاولة النقاش بين الجانبين الجزائري والفرنسي؛ وهي ملفات الذاكرة، التأشيرات، إمدادات الطاقة والغاز، الوضع في مالي والساحل الأفريقي، والاهم من ذلك استمرار الحرب في أوكرانيا.
كما تأتي زيارة ماكرون بعد أقل من عام على أزمة عنيفة هزت العلاقات الفرنسية الجزائرية الخريف الماضي. فبين زيارة ماكرون الأولى للجزائر كرئيس للجمهورية الفرنسية في 1 ديسمبر 2017، وبين زيارة الخميس 25 أوت 2022، لم يتوقف الرئيس الفرنسي عن إطلاق تصريحات مثيرة للجدل، ومؤججة للعلاقات بين البلدين، حيث أثارت غضب الجانب الجزائري. لكنه سرعان ما يعود إلى تبرير تلك التصريحات وإبداء الندم بشأنها.
وعقب انتخاب عبد المجيد تبون رئيساً للجمهورية في ديسمبر 2019، أدلى الرئيس الفرنسي بتصريحات أقل ما يقال عنها أنها تدخل سافر في الشأن الداخلي للجزائر. فقد صرح بأن النظام الجزائري أنهكه الحراك الشعبي، وبأن الرئيس تبون عالق في نظام جامد للغاية. وفي سبتمبر 2021 قدم ماكرون اعتذار بلاده لما يسمى بـ “الحركى” من الجزائريين الذين تعاونوا مع الجيش الفرنسي ضد ثورة التحرير الجزائرية. لكنه بعد ذلك مباشرة اعترف بجرائم الشرطة الفرنسية ضد الجزائريين سنة 1961.
وأثناء لقائه بأبناء “الحركى” مطلع أكتوبر 2021، وصف ماكرون النظام الجزائري بالنظام العسكري الذي يقتات على ريع الذاكرة. مؤكداً بأن التاريخ الذي يوظفه النظام الجزائري كمصدر للشرعية التاريخية لا يقوم على حقائق، متسائلاً: هل كانت هناك أمة جزائرية قبل الاستعمار الفرنسي؟ وهي التصريحات التي وصفها الرئيس الجزائري بالخطيرة للغاية، ثم أعقبها استدعاء السفير الجزائري في فرنسا للتشاور، وحظر تحليق الطائرات الحربية الفرنسية في الأجواء الجزائرية في إطار عملية برخان في الساحل الأفريقي.
هذه التصريحات دفعت المؤرخين من الجانبين للخروج عن صمتهم وتفنيدها جملة وتفصيلاً، حيث أكدوا بأن وجود الأمة الجزائرية سابق عن الأمة الفرنسية. لأن وجود قنصل فرنسي في الجزائر سنة 1830 معناه أن الجزائر كانت في ذلك الوقت دولة.
وقد استبق الرئيس الفرنسي هذه التصريحات المثيرة للجدل، بإعلان باريس عن فرض قيود صارمة على عدد التأشيرات الممنوحة للمواطنين الجزائريين، وذلك رداً على رفض الجزائر إصدار تصاريح قنصلية لترحيل المهاجرين الجزائريين المقيمين في فرنسا بطريقة غير شرعية.
لكنه في نوفمبر الماضي عبّر عن أسفه للجدل وسوء الفهم الذي أثارته تصريحاته، وعن تمسكه الشديد بتطوير العلاقات بين بلاده والجزائر بما يخدم مصلحة الشعبين. ثم بدء الدفء يعود للعلاقات مطلع السنة الجارية، لكن دون عودة العلاقات الثنائية إلى سابق عهدها بسبب استمرار الخلافات المتعلقة بالذاكرة وتنقل الأشخاص، وعدم احترام فرنسا لسيادة الجزائر، واستقلالها ولدورها في محيطها الإقليمي.
الحفاظ على حد أدنى من المكاسب:
تشعر باريس أن الأمور تتغير في الجزائر في ظل “الجزائر الجديدة” برئاسة الرئيس تبون، وفي ضوء استدارة السياسة الخارجية شرقاً، باتجاه تعزيز التقارب مع إيطالياً، روسيا والصين. وهو ما يعني تعزيز مصالح هذه الدول في الجزائر خصوصاً في المجالات الاقتصادية والتجارية، على حساب المصالح الفرنسية.
ومن هذا المنطلق، فستكون الملفات الاقتصادية والقضايا الإقليمية وملف الذاكرة في صلب المحادثات بين الجانبين. بيد أن هناك عديد العقبات التي تنتظر الرئيس الفرنسي في الجزائر، لأن الإرادة السياسية لن تكفي أمام قوة الشواهد الميدانية على انحياز فرنسا لأطراف إقليمية أخرى، وتحركها ضد المصالح الإستراتيجية العليا للجزائر. وفي ظل هيمنة اللوبي اليهودي المعادي لأي تقارب فرنسي – جزائري في إطار احترام سيادة الجزائر واستقلالها. ومن ثم فمن المستبعد أن تحقق هذه الزيارة نجاحاً يكون فيه الجميع رابحاً.
ومن بين المؤشرات على فشل زيارة ماكرون هو وجود أكبر حاخام يهودي ضمن الوفد الفرنسي المرافق له، والذي يتكون من 90 شخصية فرنسية. وهي خطوة رأى فيها مراقبون رغبة الجانب الفرنسي في جس نبض الجزائر اتجاه القضية الفلسطينية، أو على الأقل دفعها إلى تعديل موقفها من هذه القضية في ضوء التحولات التي يشهدها الإقليم في هذا الجانب. كما أنها محاولة فرنسية خفية لتضمين الزيارة صفقة جديدة في العلاقة الثنائية بين البلدين، ونوع من المساومة والابتزاز للجزائر لدفعها للتخلي عن موقفها الثابت اتجاه ما تعتبره الجزائر قضايا عادلة. ولعل وجود الحاخام الفرنسي ضمن الوفد المرافق لماكرون، يؤكد بما لا يدع مجالاً للشك أن الجانب الفرنسي يهوى استفزاز الجزائر في قضاياً السيادة الوطنية وفي ثوابت سياستها الخارجية.
زيارة في ضوء تراجع النفوذ الفرنسي في أفريقيا:
تأتي زيارة الرئيس ماكرون للجزائر هذا الخميس في سياق إقليمي ودولي حساس. فعلى الصعيد الدولي تستمر العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا، وفشل العقوبات الاقتصادية الغربية عن تحقيق أهدافها وعلى رأسها إخضاع روسيا للهيمنة الغربية. وبعبارة أخرى، فان الرئيس الفرنسي سيزور الجزائر في ضوء فشل التحالف الغربي وحلف النيتو في الحفاظ على موازين القوى الدولية الموروثة منذ نهاية الحرب الباردة. وهو ما يعني كذلك، تفوقاً استراتيجياً لحلفاء الجزائر التقليديين : الصين وروسيا التي تحتفل بمرور ستة عقود على علاقاتها الإستراتيجية مع الجزائر. هذه المعطيات ستعزز، بلا شك، موقف الطرف الجزائري في مباحثاته مع نظيره الفرنسي. أما على الصعيد الداخلي، فتأتي الزيارة في ظل تراجع نفوذ اللوبي الفرنسي في مقابل تنامي قوة أنصار التنويع في علاقات الجزائر الخارجية، بعيداً عن الوصاية الفرنسية.
وعلى الصعيد الإقليمي، سيأتي ماكرون إلى الجزائر والسلطات الجزائرية تدرك جيداً انحيازه إلى التحالف العسكري المغربي – الإسرائيلي، ودعمه للموقف المغربي من الصحراء المغربية. وهو ما سيحول دون أن تحقق هذه الزيارة أهدافها.
أما على الصعيد القاري، سيزور ماكرون الجزائر في ضوء تراجع نفوذ بلاده في أفريقيا جنوب الصحراء والساحل، بما في ذلك مستعمراتها القديمة. وفشل العمليات العسكرية الفرنسية برخان وسرفال في تحقيق أهدافها ومكافحة الإرهاب. وفي ظل تنامي مشاعر العداء للوجود الفرنسي في القارة. في مقابل تنامي نفوذ الروسي والصيني في القارة، وهو ما سيتيح للجزائر موازنة الضغوط الفرنسية والأوروبية، ويُعزز مكاسبها الإستراتيجية.
ختاماً، يمكن القول إن الإرادة السياسية للجانبين لا تكفي للعودة بالعلاقات الثنائية بين الجزائر وفرنسا إلى سابق عهدها، في ضوء وجود لوبي يهودي معادي لإقامة علاقات ثنائية تحترم سيادة الجزائر واستقلالها، وفي ضوء كذلك إصرار باريس على تبني سياسة فرنسية تستهدف المصالح الإستراتيجية للجزائر في محيطها الإقليمي، وإضعافها من خلال زعزعة الاستقرار في عمقها الاستراتيجي. في مقابل ذلك، فان هذه الزيارة في ضوء الظروف الإقليمية والدولية الحالية فرصة للمسئولين في الجزائر لإعادة صياغتها على قاعدة احترام استقلال الجزائر وسيادتها، وانطلاقاً من مبدأ “الند – للند”.