إشكالية التطرف داخل الجيش الأمريكي
على مدى العقود الماضية، وبالرغم من وجود أدلة قوية حول تفاقم مشكلة المتطرفين بين صفوف الأفراد العسكريين الأمريكيين و نجاح العنصريين البيض والمتطرفين من اختراقهم، إلا أن القيادات داخل الجيش تجاهلت معالجة هذه القضية بطريقة منهجية، ولكن هجوم 6 يناير على مبنى الكابيتول الأمريكي، دق ناقوس الخطر داخل وزارة الدفاع الأمريكية البنتاجون حيث سرعان ما أصبح واضحًا أن عددًا من الأشخاص الذين يُزعم أنهم شاركوا في أحداث ذلك اليوم قد خدموا في الجيش أو من المحاربين القدامى و أن أكثر من 13% من المتهمين في أعمال الشغب لديهم خلفيات عسكرية، مما أثار مخاوف من أن المشاعر المناهضة للحكومة والمتطرفين الأخرى قد تجذرت في المجتمع العسكري.
وفي سياق ذلك يسعى هذا التحليل إلى تتبع جذور قضية التطرف داخل الجيش الأمريكي، ورصد البيانات الحديثة حول تزايد أعداد المتطرفين في الجيش، وكيف استجابت وزارة الدفاع الأمريكية إزاء تلك القضية الشائكة، وما هي المعوقات التي قد تحد من جهود وزير الدفاع لويد أوستن في التصدي للتطرف داخل الجيش الأمريكي.
التطرف مشكلة متنامية في صفوف الجيش الأمريكي:
شكل المتعصبون البيض، الموجودون في حركات متعددة متطرفة في الولايات المتحدة، أعظم التحديات للجيش الأمريكي منذ حرب فيتنام من خلال محاولات تجنيد جنود في الخدمة الفعلية وجنود الاحتياط وقدامى المحاربين على النحو التالي:
(*) الفترة منذ 1960- 1970: سجل سلاح مشاة البحرية الأمريكية أكثر من 1000 حادثة عنف عنصري في منشآت في الولايات المتحدة وفيتنام، بما في ذلك المشاجرات العنيفة بين مشاة البحرية السود والبيض في كامب ليجون، نورث كارولينا، في حين أن معظم هذه الأعمال لم تكن أعمالاً إرهابية، إلا أنها لا تزال تساهم في تهيئة بيئة مواتية للأعمال المتطرفة.
(*) الفترة من 1980 -2000: ساهم تنامي نشاط عقيدة تفوق العرق الأبيض في الثمانينيات، إلى انضمام بعض الجنود في الخدمة الفعلية إلى جماعة ” Texas Emergency Reserve “، وهو تشكيل شبه عسكري أنشأته واحدة من أخطر التنظيمات المتطرفة في الولايات المتحدة والتي تعرف ب “Ku Klux Klan “لمضايقة وترهيب الصيادين الفيتناميين المهاجرين، ومن أبرز الحوادث في تلك الفترة التي سلطت الضوء على مخاطر تنامي العرق الأبيض ، كانت في عام 1995 عندما قام جنديان في الخدمة الفعلية متمركزان في فورت براغ كلاهما من أنصار تفوق العرق الأبيض، بإطلاق النار وقتل زوجين أمريكيين من أصل أفريقي في جريمة قتل بدافع الكراهية، و أدى هذا الحادث إلى إجراء تحقيق إزاء مناصري تفوق البيض في قاعدة فورت براج ، نتج عنه تسريح 20 عضوًا من الفرقة الجوية 82.
(*) أبرز قيادات الجيش المنتمية إلى جماعات اليمين المتطرف: خدم العديد من المتطرفين المؤثرين في السبعينيات والثمانينيات والتسعينيات في الجيش الأمريكي، على سبيل المثال يعد “لويس بيم” أحد أبرز تلك الشخصيات، حيث التحق بالجيش عندما كان يبلغ من العمر 19 عامًا وقاتل في حرب فيتنام، و جادل بيم في خطاباته وكتاباته بأن النشطاء بحاجة إلى مواصلة شن الحرب على الأراضي الأمريكية عن طريق حرب العصابات، كذلك “راندي ديوي”، وهو عضو في مجموعة The Order، من المتعصبين للعرق الأبيض، من المحاربين القدامى في القوات الجوية ومحاضراً في قاعدة فيرتشايلد الجوية في سبوكان واشنطن، بالإضافة إلى “راندي ويفر “مهندسًا سابقًا في الجيش الأمريكي ويعتبر من مناصري الهوية المسيحية و يحمل آراء متعصبة للبيض ومعارضة للحكومة، كذلك تم تجنيد “تيموثي ماكفي”، الذي نفذ تفجير أوكلاهوما سيتي عام 1995 والذي أسفر عن مقتل 168 شخصًا وإصابة أكثر من 680 آخرين ، في الجيش الأمريكي في عام 1988 وحارب في العراق خلال عملية عاصفة الصحراء، وهناك عدد من المحاربين القدامى المتورطين في التطرف ، مثل “ويليام بوتر جيل “، و”ريتشارد بتلر”، و” بو جريتز”، و”فرازير جلين ميلر”، و”إريك رودولف”.
(*) الفترة 2008-2011: ازدادت مشاكل التطرف في الجيش مرة أخرى خلال الفترة من 2008-2011 ، مدفوعة بصعود موجة ثالثة من التطرف اليميني الذي مكّن من عودة ظهور حركة الميليشيات بشكل كبير، على سبيل المثال خلال هذه الفترة ظهر جماعة ” Oath Keepers أو حراس القسم” تم تأسيسها مارس 2009 بواسطة إلمر ستيوارت رودس، مظلي سابق بالجيش الأمريكي من أجل استهداف تجنيد عناصر الشرطة والجيش الموجودين في الخدمة والمتقاعدين، وكذلك جماعة FEAR ، التي تم تأسيسها عام 2011من قبل جنود متمركزون في قاعدة فورت ستيوارت في جورجيا و تضم ما بين أربعة إلى أحد عشر فردًا، حيث قام أعضائها بالتخطيط لأعمال إرهابية من خلال استخدام الجيش لتجنيد أعضاءها ، الذين كانوا يضعون وشومًا مميزة تشبه رمز الفوضى.
(*) الفترة الحالية: شهدت حركة تفوق العرق الأبيض في الولايات المتحدة طفرة في الآونة الأخيرة، ويرجع ذلك إلى صعود اليمين البديل، وهو جزء جديد من الحركة جذب العديد من الشباب الذكور البيض الراديكاليين حديثًا إلى الحركة، حيث تم القبض على المتطرفين الذين يخدمون في الخدمة الفعلية أو الاحتياطية لنشرهم معلومات بحيازة المتفجرات، وتوجيه التهديدات ضد المساجد، وانتهاكات المخدرات والأسلحة، ومحاكاة مؤامرات لقتل مسئولين، مثل حركة Asatru Folk Assembly، و Identity Evropa، و Atomwaffen.
أبرز الإحصائيات:
أفادت عدة دراسات حديثة، أن عدد الأعضاء الحاليين والسابقين في الجيش الأمريكي المرتبطين بمؤامرات متطرفة، قد تضاعف ثلاث مرات عن العقد الماضي، على النحو التالي:
(&) ارتفاع أعداد المتطرفين من ذوي الخلفيات العسكرية: أصدر الاتحاد الوطني لدراسة الإرهاب والاستجابات للإرهاب (START) بجامعة ميريلاند في يوليو 2021، دراسة بعد فحص عينة من 354 فردًا من ذوي الخلفيات العسكرية متهمين أو مدانين بارتكاب أعمال إجرامية مرتبطة بالفكر المتطرف، حيث وجدت الدراسة أن متوسط عدد الحالات قفز من ست حالات سنويًا من عام 1990 حتى عام 2010 إلى ما يقرب من 21 حالة سنويًا خلال العقد الماضي، و كانت الزيادة مدفوعة إلى حد كبير بالارتفاعات المفاجئة في 2017 و 2020 و 2021، حيث تميزت كل سنة من هذه السنوات بقضايا حشدت أعدادًا كبيرة نسبيًا من المتطرفين الأمريكيين، على سبيل المثال شمل عام 2017 مسيرة توحيد اليمين في شارلوتسفيل في عام 2017، بينما شمل عام 2020 جائحة كوفيد -19 ، واحتجاجات العدالة العرقية ، والانتخابات الرئاسية الأمريكية 2020، وأخيرا عام 2021 تم اقتحام مبنى الكابيتول، لكن أشارت الدراسة إلى أن من بين 354 عينة الدراسة، هناك 78٪ أي حوالي 277 فرد، لم يعودوا يخدمون في الجيش عندما تحولوا إلى التطرف أو تم القبض عليهم.
المصدر: الاتحاد الوطني لدراسة الإرهاب والاستجابات للإرهاب (START)
(&) قوات سلاح البحرية الأعلى تطرفاً: أكدت نفس الدراسة الصادرة عن الاتحاد الوطني لدراسة الإرهاب والاستجابات للإرهاب (START) بجامعة ميريلاند في يوليو 2021، على أن أكثر من 70٪ من عينة الدراسة خدموا في الجيش الأمريكي أو سلاح مشاة البحرية، مما يجعل مشاة البحرية أعلى معدل للتطرف بالنظر إلى صغر حجم قواتها، وإذا تم إضافة أفراد الاحتياط والحرس الوطني إلى هذا المجموع، فإن الانتماءات إلى الجيش وسلاح مشاة البحرية تمثل 78٪.
المصدر: الاتحاد الوطني لدراسة الإرهاب والاستجابات للإرهاب (START)
(&) ارتفاع ملحوظ في ارتكاب الهجمات الإرهابية: وجدت دراسة أجراها مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية (CSIS) والتي نُشرت في أبريل 2021، زيادة نسبة المؤامرات والهجمات الإرهابية المحلية التي ارتكبها أفراد الجيش في الخدمة الفعلية وأفراد الاحتياط في السنوات الأخيرة، على سبيل المثال ، في عام 2020 تم ارتكاب 6.4 % من جميع الهجمات الإرهابية المحلية والمؤامرات (7 من أصل 110) من قبل واحد أو أكثر من أفراد الخدمة الفعلية أو الاحتياطيين، بزيادة 1.5 % في عام 2019 (1 من إجمالي 65)، و بينما استمرت هجمات 2021 شهرًا واحدًا فقط ، إلا ان الأرقام في يناير 2021 أظهرت أن 17.6 % من المؤامرات والهجمات الإرهابية المحلية (3 من إجمالي 17) ارتكبها أفراد في الخدمة الفعلية أو الاحتياط.
المصدر: مركز الدراسات الإستراتيجية والدولية (CSIS)
كيف استجابت وزارة الدفاع الأمريكية؟:
أعلن وزير الدفاع الأمريكي لويد أوستن، عن إجراءات فورية لمواجهة قضية التطرف بين صفوف الجيش الأمريكي، والتي احتلت الصدارة بعد أحداث اقتحام مبنى الكابيتول في الـ 6 من يناير الماضي، ويمكن التطرق لأبرز تلك الإجراءات في النقاط التالية:
(*) تعليق مؤقت لعمليات الجيش: في فبراير 2021، أعلن المتحدث باسم وزارة الدفاع “جون كيربي”، ان وزير الدفاع أوستن أمر بوقف مؤقت لعمليات الجيش، وأعطى إطاراً زمنياً مدته 60 يوماً ذلك في إطار اجتماعه مع الجنرال مارك إيه ميلي، رئيس هيئة الأركان المشتركة وقادة الخدمة المدنية ورؤساء الأجهزة لمناقشة مشكلة التطرف بين صفوف الجيش.
(*) إنشاء مجموعة عمل لمكافحة التطرف(CEWG): في ال 9 من إبريل 2021، أعلن لويد أوستن تأسيس مجموعة عمل لمكافحة التطرف بقيادة بيشوب جاريسون، كبير مستشاري وزير الدفاع المعني برأس المال البشري والتنوع والإنصاف والشمول، والتي ستشرف على تنفيذ الإجراءات الفورية بالإضافة إلى وضع توصيات متوسطة وطويلة الأجل من أجل استمرار الانخراط في تلك القضية، ويتمثل أحد الإجراءات الرئيسية في توجيه مسئولي وزارة الدفاع لمراجعة وتحديث تعريف التطرف الوارد في تعليمات DOO 1325.06 ، و تحديث التعليمات الانتقالية حيث ستضيف الإدارات العسكرية أحكامًا إلى قوائم المراجعة الانتقالية لأفراد الخدمة تتضمن تدريبًا على الاستهداف المحتمل لأعضاء الخدمة من قبل الجماعات المتطرفة والعمل مع وكالات الإدارات الفيدرالية الأخرى لإنشاء آلية تتيح للمحاربين القدامى الفرصة للإبلاغ أي اتصال محتمل مع جماعة متطرفة إذا اختاروا القيام بذلك، بالإضافة إلى تحديث وتوحيد استبيانات الفحص للحصول على معلومات محددة حول السلوك المتطرف الحالي أو السابق، كذلك ستتابع مجموعة عمل مكافحة التطرف، مدى التزام اللجان الفرعية بأربعة خطوط جهد أولية ، تتضمن العدالة العسكرية والسياسة، الدعم والإشراف على برنامج التهديدات الداخلية، قدرات الفحص، وأخيراً إجراء المراجعات على آليات التعليم والتدريب.
خلاصة القول، تمثل قضية التطرف اليميني بين صفوف الجيش الأمريكي، اختباراً مبكراً لوزير الدفاع الأمريكي لويد أوستن، على الرغم من إعلانه عن العديد من الإجراءات لاقتلاع جذور هذه المشكلة، إلا أن هناك عقبات كثيرة قد تحد من فعالية تلك الإجراءات خلال المرحلة القادمة مما يخلق تحدي أخر أمام إدارة بايدن، منها غموض بعض القواعد واللوائح العسكرية على سبيل المثال بموجب اللوائح العسكرية الحالية التي يعود تاريخها إلى عام 2012، يمكن لعضو الخدمة أن يظل عضوًا في منظمة متطرفة ولكن لا يمكنه المشاركة بنشاط من خلال أنشطة مثل التجنيد وجمع الأموال وتوزيع المواد، كذلك بموجب القانون الموحد للعدالة العسكرية (UCMJ) يتم التمييز بين أنواع الأفراد العسكريين، فينما يخدم أعضاء الخدمة الفعلية بدوام كامل في الجيش، يخدم جنود الاحتياط بدوام جزئي فقط ولا يمكن اتهامهم بموجب القانون الموحد للعدالة العسكرية (UCMJ) عندما يكونون خارج الخدمة، بينما تتمثل العقبة الثانية في التهديد الذي يمثله المحاربين القدامى بفضل خبرتهم التكتيكية وتأثيرهم الضخم بين الجماعات المتطرفة خاصة وأن الجيش يتمتع بسلطة أقل إزاء المحاربين القدامى الذين يتورطون في سلوك متطرف، ومن بين العقبات الأخرى التي تواجه البنتاجون الافتقار إلى الوسائل المركزية لتوثيق وتتبع حالات التطرف في الوحدات العسكرية، و صعوبة وضع تعريف مشترك للتطرف يمكن للمسئولين استخدامه لتتبع الاتجاهات الداخلية، ففي بعض الحالات، قد لا تشكل المعتقدات المتطرفة للفرد تهديدًا للمجتمع ككل، ولكنها قد تعرض النظام والانضباط في الجيش للخطر.