تحركات لا تتوقف.. كيف  أكسبت مصر القضية الفلسطينية قوة دافعة جديدة؟

تحركات متسارعة وخطوة تلو أخرى، ومواقف جادة ومسئولة، تعكس مدى حرص مصر على الوصول إلى حل عادل وشامل للقضية الفلسطينية، لا سيما بعد الأحداث الأخيرة في القدس وقطاع غزة، والتي أعادت الأوضاع المأساوية التي يعانيها الشعب الفلسطيني إلى الواجهة من جديد، وتحمل التحركات المصرية الأخيرة، والانخراط المكثف؛ العديد من الدلالات التي تؤكد ثبات الموقف المصري تجاه القضية الفلسطينية، فما هي منطلقات التحركات المصرية ودوافعها، لا سيما بعد الحرب الأخيرة على غزة 2021؟

لعله في أكثر من مناسبة أكد الرئيس “السيسي” على استمرار مصر في جهودها الدءوبة بالتنسيق الوثيق مع الأشقاء الفلسطينيين والشركاء الدوليين، لبلورة رؤية واضحة خلال الفترة المقبلة، سعياً لدفع جهود عملية السلام من أجل حل القضية الفلسطينية وفق القرارات والمرجعيات الدولية، ولأجل هذا المسعى اتخذت التحركات المصرية عدة مسارات.

مسارات متوازية:

عقب اندلاع المواجهات بين جنود الاحتلال الإسرائيلي والفلسطينيين في القدس، أجرت مصر اتصالات مكثفة بالأطراف المعنية، وقامت وزارة الخارجية المصرية بتحركات دبلوماسية، لوقف الاعتداءات الإسرائيلية على الفلسطينيين، ومع تصاعد الاشتباكات بين الجانبين، واندلاع الحرب على غزة، وحتى انجاز التهدئة تحركت مصر في عدة مسارات متوازية، تشمل ما يلي:

(*) أرسلت مصر وفدا أمنيا إلى فلسطين وإسرائيل فى 13 مايو 2021، لحث الجانبين على وقف العنف والتصعيد المتبادل، ومحاولة تهدئة الموقف، والوصول إلى مخرج للأزمة المتصاعدة.

(*) قررت مصر فتح معبر رفح بداية من يوم 14 مايو 2021، ولأجل غير مسمى؛ لاستقبال الجرحى الفلسطينيين، وتكليف المستشفيات في سيناء بالاستعداد لاستقبال الجرحى والمصابين لتلقي العلاج، كما أرسلت الحكومة المصرية مساعدات طبية وإنسانية عاجلة إلى قطاع غزة.

(*) تأكيد الرئيس “السيسي”، خلال زيارته إلى فرنسا منتصف مايو 2012، ولقائه مع كلٍ من الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، والملك عبد الله الثاني بن الحسين، ملك الأردن، إنه لا سبيل من إنهاء الدائرة المفرغة من العنف المزمن واشتعال الموقف بالأراضي الفلسطينية، إلا بإيجاد حل جذري للقضية الفلسطينية، يفضي إلى إقامة الدولة الفلسطينية وعاصمتها القدس.

(*) خلال قمة باريس، أطلق الرئيس “السيسي” مبادرة لتخصيص (500) مليون دولار لإعمار غزة، ودعا المجتمع الدولي لتقديم المساعدة في عمليات الإعمار، كما وجه بإرسال المزيد من المساعدات العاجلة إلى الشعب الفلسطيني.

(*) تأكيد وزير الخارجية “سامح شكرى”، أمام جلسة طارئة لمجلس الأمن فى 16 مايو2021، عبر جلسة افتراضية، على ضرورة الوصول إلى حل عادل وشامل للقضية الفلسطينية.

(*) وصول وفدين أمنيين مصريين إلى إسرائيل والأراضي الفلسطينية في 20 من مايو 2021، للعمل من أجل وقف إطلاق النار، الذي تم الإعلان عنه، وقبله بساعات، تلقى الرئيس “السيسي” اتصالا هاتفيا من نظيره الأميركي “جو بايدن”، للاطلاع على جهود التهدئة، والتوافق على احتواء التصعيد ووقف إطلاق النار.

(*) بعد إنجاز التهدئة ووقف إطلاق النار، توجه وزير الخارجية المصري “سامح شكري”،  في 24 مايو 2021 إلى رام الله وتل أبيب، في إطار التحركات المصرية المتواصلة للبناء على وقف إطلاق النار، ومناقشة سبل إعادة الانخراط في المسار التفاوضي.

(*) استقبلت القاهرة وزير الخارجية الأمريكي “أنتوني بلينكين في 26 مايو2021، للتشاور مع القيادة المصرية، حول سبل تثبيت وقف إطلاق النار بين إسرائيل وفصائل المقاومة الفلسطينية.

(*) خلال يومي30/31 من مايو 2021، أرسلت مصر وفدا أمنيا رفيع المستوى، برئاسة رئيس جهاز المخابرات العامة اللواء “عباس كامل” إلى فلسطين وإسرائيل، أجرى خلالها عدة لقاءات، في رام الله، وتل أبيب وقطاع غزة، لمتابعة إجراءات استمرار التهدئة والوصول إلى تهدئة ممتدة، والإجراءات التي من شأنها الحفاظ على استقرار الأوضاع بصورة دائمة، فضلا عن مناقشة سبل إتمام المصالحة الفلسطينية، وإنهاء الانقسام الفلسطيني، إلى جانب بحث ملف إعادة إعمار غزة. في الوقت نفسه استقبلت القاهرة وزير الخارجية الإسرائيلي “غابي اشكنازي”،  في زيارة هي الأولى لوزير خارجية إسرائيلي لمصر منذ ثلاثة عشر عاما، للتباحث، حول كيفية تثبيت وقف دائم لإطلاق النار مع حركة “حماس” وإقامة آلية خاصة بتقديم المساعدات الإنسانية وإعادة إعمار قطاع غزة.

تأسيساً على ما سبق، يمكن القول لقد عكست التحركات المصرية خلال أزمة الحرب على غزة 2021، مدى فاعلية ومحورية الدور المصري في مساعي حل القضية الفلسطينية، إذا كانت القاهرة مركز التحركات الرئيسية لإنهاء تلك الأزمة، باعتبارها وسيطا مقبولا لدى كل الأطراف، ولديه القدرة على تقريب وجهات النظر وطرح حلول دون ممارسة ضغوط.

دلالات التحركات المصرية:

لا شك أن التحركات المصرية بشأن القضية الفلسطينية، رغم أنها تؤكد نهجا مصريا ثابتا باتجاه دعم حقوق الشعب الفلسطيني، إلا أنها هذا التوجه يؤسس لفلسفة مصرية مغايرة فى التعامل مع هذه القضية على عكس الأطراف الإقليمية الأخرى، جوهرها أن القاهرة لديها من الوسائل والإمكانات، ما يمكنها من إدارة هذا الملف  بصورة فاعلة ومؤثرة، وذلك من خلال ما تقدمه من حلول على الأرض، والذي يعكس دلالات مهمة، منها:

(&) أن مصر تتحرك استنادا إلى ما تملكه من خبرة في التعامل مع الملف الفلسطيني،  باعتبار ما لديها  من قنوات اتصال وتأثير لدى الجانبين الإسرائيلي والفلسطيني، الأمر الذي بإمكانه المساعدة في خلق مناخ مواتي لاستقرار الأوضاع على الأرض، مما يساعد على إيجاد أرضية مشتركة يمكن الانطلاق من خلالها لإعادة عملية السلام إلى مسارها من جديد، وقد دعت مصر ممثلين عن إسرائيل وحركة حماس لإجراء مفاوضات مباشرة بشأن تسوية الوضع في قطاع غزة، يتوقع لها أن تتم في الأيام القادمة، بحضور أمريكي.

(&) سعي مصر إلى دفع الأطراف الفلسطينية إلى الانخراط الجاد في الحوار البناء نحو المصالحة الوطنية الشاملة، وحث جميع الأطراف إلى إنهاء الانقسام، باعتباره من أخطر التحديات التي تواجه مسار القضية الفلسطينية، خاصة وهناك تغيير كبير في المشهد العربي والدولي، تجاه القضية الفلسطينية، يجب استثماره بشكل جيد في تحقيق المصالحة وإنهاء الانقسام.

(&) الرغبة المصرية الحثيثة في استثمار مخرجات الحرب الأخيرة على غزة، وتجاوز مرحلة التهدئة، وصولا إلى إطلاق عملية سياسية جادة وشاملة بين إسرائيل والفلسطينيين، والشروع في مفاوضات سلام جادة وحقيقية، بالتعاون مع القوى الدولية، وعلى رأسها الولايات المتحدة، للوصول إلى حل دائم وعادل للقضية الفلسطينية، ولعل من أهم تلك المخرجات:

  • استشعار الرغبة الأمريكية في “كسر حلقة العنف المفرغة” التي لا تنهي بين إسرائيل والفلسطينيين، بحسب تصريح وزير الخارجية الأمريكي “بلينكين”، والذي أعرب عن أن “واشنطن ترى أن التعايش بين دولتين – إسرائيل وفلسطين- هو أفضل طريقة لتحقيق السلام في المنطقة”، مما يعد متغيرات حاسمة في الموقف الأمريكي تجاه القضية الفلسطينية، إذ يلاحظ تغير نبرة الولايات المتحدة تجاه إسرائيل، حيث حثت الأخيرة على الكف عن استخدام القوة ضد الفلسطينيين، وزيادة الاتصالات الأمريكية مع الفلسطينيين، واتخاذ إجراءات مغايرة للإدارة السابقة، مثل استئناف الدعم لوكالة غوث وتشغيل اللاجئين، وإعادة افتتاح القنصلية الأمريكية في القدس الشرقية بعد إغلاقها عام 2018، وتقديم مساعدات فورية لقطاع غزة، هذا فظلا عن تزايد معارضة الأمريكيين للسياسات الإسرائيلية، انعكست في سعي نواب بالكونجرس الأمريكي إلى منع صفقة بيع أسلحة أمريكية دقيقة التوجيه إلى إسرائيل.
  • تزايد الزخم العالمي الداعم لحل الدولتين، وحق الشعب الفلسطيني في إقامة دولته المستقلة، وفق قرارات الشرعية الدولية، يستطيع أن يعيش ويتمتع بداخلها بكامل حقوقه المشروعة كسائر شعوب العالم، وقد ظهر ذلك بقوة من خلال التعاطي العالمي مع القضية الفلسطينية خلال الحرب الأخيرة على غزة، والمطالبات الدولية لإسرائيل بوقف تلك الحرب، مما شكل ضغط مكثف على إسرائيل، فضلا عن قرار مجلس حقوق الإنسان في 17 مايو2021 بتشكيل لجنة تحقيق دولية في الجرائم التي ارتكبتها إسرائيل خلال حرب غزة.

لقد تبين من رصد وتحليل التحركات المصرية أنه ليس الهدف منها فقط، هو تحريك عملية السلام، بقدر الرغبة في حث المجتمع الدولي على التحرك الفاعل لأجل طرح حل جدي للقضية الفلسطينية، والعمل الجاد لإقرار السلام، والتأكيد على أن تسوية القضية الفلسطينية سيغير حال المنطقة إلى الأفضل، لكن من الأهمية أن يأتي ذلك بخطوات فاعلة وملموسة، وعلينا تجاوز مرحلة إطلاق التصريحات وإصدار القرارات، إلى مرحلة تشهد تنفيذا ماثلا على الأرض، فإذا كانت هناك إرادة دولية فاعلة باتجاه حل القضية الفلسطينية، فما الذي يمنع التوجه الجدى نحو الحل؟ وإذا كان هناك توافقا دوليا حول حل الدولتين، ما الذي يمنع فرض مثل هكذا حل؟

بالنهاية، يمكن القول: أن القاهرة تحرص على مواصلة مساعيها واتصالاتها مع كافة الأطراف المعنية سعيًا للتوصل إلى حل الدولتين، باعتباره السبيل الوحيد لتحقيق السلام العادل والدائم والأمن والاستقرار المنشوديّن في المنطقة، وإذ يؤكد الرئيس “السيسي”، أهمية توحيد الجهود العربية والدولية للتحرك بفعالية خلال الفترة القادمة لإعادة تنشيط الآليات الضالعة في مفاوضات السلام بين الطرفين، وتجاوز تحديات الفترة الماضية، وذلك بالتوازي مع جهود مسار المصالحة الوطنية وبناء قواعد الثقة بين الأطراف الفلسطينية، تعزيزاً للمسار الأساسي المتمثل في تحقيق السلام المنشود.

 

 

 

د. عبد الناصر سعيد

خبير مشارك- حاصل على درجة الدكتوراه في العلوم السياسية , حاصل على في ماجستير الإعلام ,حاصل على ماجستير في العلوم السياسة , باحث مشارك في عدد من المراكز البحثية السياسية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى