التداعيات الاقتصادية المحتملة لسد النهضة على مصر

منذ بدأت إثيوبيا عمليات بناء سد النهضة على نهر النيل الأزرق قُرب الحدود الإثيوبية- السودانية في 11 أبريل 2011، وإعلانها مؤخراً أن عملية الملء الثاني لسد النهضة ستتم في موسم الأمطار المقبل ما بين يوليو وأغسطس 2021. ومنذ ذلك الحين تتخوّف مصر من تأثيره على كميات المياه المتدفقة إليها؛ لاسيّما وأن النهر يُمثّل شريان الحياة بالنسبة لها. الأمر الذي تنفيه أديس أبابا وتؤكّد أن السد يخدم خطط التنمية لكافة الأطراف. ومن منطلق الحديث عن المخاطر المتعلقة بسد النهضة، يتناول هذا التحليل أهم المخاطر الاقتصادية لسد النهضة على مصر، والتي لا تمثل فقط مصالح الاقتصاد المصرى، بل تمثل مسألة أمن قومى، وهو ما سيتم تناوله فى النقاط التالية :-
الأثر على الأمن المائى فى مصر:
تحصل مصر على 90٪ من مياه الري والشرب من نهر النيل، حيث يعتمد نظام الموارد المائية في مصر على ِاستخدام الموارد المائية غير التقليدية (مثل المياه الجوفية، ومياه الصرف الزراعي والصرف الصحي) كما هو موضح بالشكل رقم (1).
هذا فى الوقت الذى تتناقص فيه نصيب الفرد من المياه فى مصر، حيث بلغ متوسط نصيب الفرد من مياه الشرب نحو 550 متر مكعب سنوياً لعام 2020، بعد أن كان 2526 متر مكعب سنويا في عام 1947، وانخفض إلى 700 متر مكعب عام 2013 كما هو موضح بالشكل رقم (2).
وتحصل مصر سنوياً على حصتها المحددة باتفاقية تقاسم مياه النيل لعام 1959 بينها وبين السودان والتي تبلغ 55.5 مليار متر مكعب، والتي لم تتغير منذ أكثر من نصف قرن. ومن المتوقع أن يتسبب سد النهضة فى فقدان مصر نحو ربع حصتها المائية. حيث أن العجز المائي الذي تعانيه مصر حاليا يبلغ حوالي 22 مليار متر مكعب سنويا، وهو ما يمثل حوالي 40% من حصتها المقررة. إضافة إلى أن المنتجات الغذائية المستوردة تتضمن مياها افتراضية تقدر بنحو 33 مليار متر مكعب؛ وبالتالى فإن إجمالي العجز المائي يقدر بنحو 55 مليار متر مكعب، وعليه فإن إجمالي الاستهلاك المائي المصري يصل إلى 110مليارمتر مكعب.
ومن المتوقع أن تنخفض مصر أكثر إلى ما دون خط الفقر المائي للأمم المتحدة الذى يقدر بنحو (1000 متر مكعب سنويا )، بسبب النمو السكاني المتزايد بالإضافة إلى الانخفاض المتوقع لتدفق مياه النيل إلى البلاد بعد بناء سد النهضة. وبحلول عام 2022، ستنخفض حصة الفرد إلى 409 أمتار مكعبة، ومن المتوقع أن يزداد إجمالي استهلاك المياه بأكثر من 20٪ في السنوات القليلة المقبلة مع التزايد السكانى فى مصر، كما يتوقع أن يتضاءل هذا النصيب الى 330 متر مكعب عام 2050؛ مما يجعل مصر تصل إلى نقطة ندرة المياه وما دون خط الفقر المائى بعد بناء سد النهضة، خاصة فى ظل زيادة الإجهاد المائي من خلال زيادة الاحتياجات المائية للاستهلاك المحلي وزيادة استخدام مياه الري لتلبية الطلب المتزايد على الغذاء.
الأثر على السد العالى:
توقعت العديد من الدراسات أن مخزون السد العالي سيعاني نقصاً شديداً أثناء ملء وتشغيل سد النهضة مما سيؤثر بداية على توليد الكهرباء من السد العالي، لتصل قيمة الخسارة لـ100ميجاوات بسبب انخفاض مستوى المياه والتخزين ببحيرة ناصر؛ وبالتالى على عمل التوربينات الكهرومائية المصاحبة للسد العالي لمدة سنوات أثناء الملء وتكرار ذلك أثناء التشغيل، وقد تتزايد النسبة لنحو 25 % إلى 40 % من إجمالى الطاقة الكهرومائية المنتجة من قبل السد العالى. وهو ما يعني أيضًا التأثير على مشروع استصلاح الأراضي الذي يعتمد بشكل أساسي على مياه بحيرة ناصر. كما سيكون لسد النهضة آثار سلبية على السد العالي أثناء فترة الجفاف، وسوف يتسبب بعجز كبير فى إمدادات المياه في حال الفيضانات المتوسطة، وذلك إذا تم تشغيل السد دون التعاون مع دول المصب، ومع التغيرات المناخية المتوقعة، وهى زيادة نسبة حدوث مستويات الحد الأدنى للمياه فى خزان السد العالي.
تأثير سد النهضة على الزراعة:
تعتبر من أكبر المشكلات الاقتصادية التى تواجه مصر فى حالة استكمال وملء سد النهضة هو تصحر الأراضي الصالحة للزراعة، حيث تشير التقديرات والدراسات إلى تصحر حوالي 2 إلى 4 ملايين هكتار وتمتد إلى من 8 إلى 10 ملايين هكتار من الأراضي الصالحة للزراعة، وسيؤثر ذلك بشكل كبير على قطاع الزراعة المصرى بشكل خاص والاقتصاد ككل بشكل عام، حيث يمثل القطاع الزراعي عصب الاقتصاد المصري، ويساهم فى الناتج المحلي الإجمالي بنحو 15% وفي الصادرات بنحو 20%، ويبلغ عدد المشتغلين بها 30% من إجمالي قوة العمل المصرية، ويعيش في الريف نحو 60% من السكان الاقتصاد المصري بشكل عام.
ويؤدي ملء بحيرة سد النهضة إلى انخفاض كميات المياه الواردة إلى مصر بما يعني تبوير 4.6 ملايين فدان- أي أكثر من 51.5% من الرقعة الزراعية الحالية؛ وبالتالي خفض حصة الزراعة من المياه مما سيؤثر على النشاط الزراعي بشكل كبير. وأكدت الدراسات الى أن مصر ستفقد 51 % من أراضيها الزراعية إذا جرت تعبئة الخزان الاثيوبي خلال ثلاث سنوات. وأوضحت أن عملية التعبئة البطيئة (ست سنوات) ستكلف مصر 17% من أراضيها المزروعة، وقدّرت دراسات حكومية أن 200 ألف فدان من الأراضي الزراعية ستختفي مع كل بليون متر مكعب اقل من المياه، وتتضرر سبل معيشة مليون شخص، بمعدل عيش خمسة أشخاص فى كل فدان.
أما بالنسبة إلى التوزيع الجغرافي للمساحة الزراعية المفقودة فيتوقّف على أيّ المناطق أكثر تضرّراً من غيرها نتيجة لنقص المياه سواء في الأراضي القديمة أو الجديدة. فقد يحدث الفقد بصورة رئيسية في أراضي محافظات شمال الدلتا. وسوف تتضرّر الأراضي القديمة بشكل أكبر من الأراضي الجديدة، نظراً لأن الأولى تستخدم طريقة الري بالغمر والثانية تستخدم طُرق الري الحديثة.
أما بالنسبة إلى الإنتاجية الزراعية وتأثيرات سدّ النهضة عليها فيتوقّع أن تنخفض نتيجة لقصور المياه عن استيفاء الاحتياجات المائية للمحاصيل، كذلك تدهور نوعية المياه بسبب زيادة درجة الملوحة، وزيادة معدّل تدوير المياه. وهو ما يؤثر بشكل كبير على إنتاج الغذاء فى مصر خاصة انتاج الحبوب بشكل خاص نظرا احتياجه لكميات كبيرة من المياه، كذلك تمركز زراعته فى منطقة الدلتا التي ستضرَّر أكثر من غيرها من المناطق. وتشير الدراسات إلى انخفاض الإنتاج الكلي من القمح من نحو 9.6 مليون طن إلى 6.7 مليون طن سنويا- أي أن انخفاض إنتاج القمح سيصل إلى 2.9 مليون طن سنويا خلال فترة الملء.
كما أنه من المتوقع انخفاض الإنتاج الكلي للأرز من نحو 5.5 مليون طن إلى 3.8 مليون طن سنويا بانخفاض يصل إلى نحو 1.7 مليون طن سنويا، وهكذا لبعض المحاصيل الحقلية الأخرى مثل إنتاج قصب السكر وغيره من المحاصيل التى تحتاج إلى كميات كبيرة من المياه أثناء زراعتها؛ ويرجع ذلك في جزء منه إلى تقليص زراعة العديد من المحاصيل كإجراء احترازي منذ أدركت الحكومة أننا بصدد أزمة حقيقة في المياه، ولعل الأرز هو المحصول الأبرز على الإطلاق في هذا الصدد . فحتى عام 2015، كانت مصر مصدراً صافياً للأرز، إلى أن قررت وزارة الري تقليص المساحة المزروعة بالأرز من مليون و300 ألف فدان عام 2015 إلى 724 ألف فدان فقط في 2017، بسبب كثرة استهلاكه للمياه.
شكل رقم (3) تطور إنتاج الأرز فى مصر خلال الفترة (2006 الى 2019) – بالمليون طن
شكل رقم (4) تطور إنتاج قصب السكر فى مصر خلال الفترة (2006 الى 2019)
مليون طن
وبشكل عام ستصل قيمة الخسائر في مجمل المحاصيل الحقلية إلى نحو 28 مليار جنيه سنويا خلال فترة الملء، وفي محاصيل الخضر ستصل الخسائر إلى نحو 6.1 مليار جنيه سنويا، وفي محاصيل الفاكهة ستصل الخسائر إلى نحو 6.1 مليار جنيه سنويا ؛ وبالتالي فإن إجمالي خسائر الإنتاج النباتي ستصل إلى نحو 43.8 مليار جنيه سنويا خلال فترة الملء.
وسيؤدى تبوير الأراضي الزراعية، وتراجع إنتاج العديد من المحاصيل إلى تزايد الفجوة الغذائية فى مصر، وحاجتها الى مزيد من الاستيراد من الخارج لتغطية حاجة السكان من الغذاء؛ وبالتالي من المتوقع أن تزيد بشكل كبير بعد ملء السد مما سيؤثر على فاتورة الواردات الغذائية، كذلك سوف تقل الصادرات المصرية من المحاصيل الغذائية للخارج ؛ وكل ذلك يصب فى شكل زيادة عجز الميزان التجاري. كما سوف تمتد الآثار السلبية فى شكل ارتفاع فى أسعار الغذاء، وتزايد البطالة خاصة فى الريف، وزيادة الهجرة من الريف الى الحضر .
وكل تلك التداعيات ستؤثر حتما على خريطة الاستثمارات الزراعية في مصر، خاصة فيما يتعلق بالمحاصيل الاستراتيجية مثل القصب والأرز، ما يعنى موت هذه الزراعات لو نقصت المياه. أما بالنسبة للشركات العاملة فى مجال تصدير الخضروات والفواكه، فسوف تتعرض لخسائر كبيره نتيجة لتبوير معظم الأراضي ما سيؤدى إلى تقليل حجم محاصيلهم المحصول بنسبة تتعدى ال40%.
وخلاصة القول، يتبين لنا مما سبق إن السدّ سوف يُنشئ ظروفاً غاية في الصعوبة، وتتعدد الجوانب والآثار السلبية للسد على الأمن المائي والغذائي لمصر، حيث أن المساس بحصة مصر من مياه النيل ما هو إلا مساس بحياة مواطنيها ومصالح اقتصادها وأمنها القومى، وهو ما لا تسمح به القيادة السياسية المصرية على الإطلاق. حيث أن ملف السد دخل مرحلة حاسمة، ما دام ظلت المفاوضات متعثرة، نظرا لانعكاساته المصيرية ليس فقط على مصر، بل على دولة السودان أيضاً ومنطقة حوض النيل ككل.