أزمة سكك حديد مصر.. بين إهمال الماضي والتطوير الجذري الحالي
أعادت حادثة تصادم قطارين في منطقة الصوامعة الواقعة بين مركزي المراغة وطهطا بمحافظة سوهاج فى السادس والعشرين من مارس 2021، والتى أسفرت عن وفاة 32 مواطن وإصابة 165 شخص نتيجة انقلاب عربتي أحد القطارين- إلى الأذهان حوادث القطارات المتعددة التى كانت تشهدها مصر قبل التطوير الجذرى الذى تقوم به الحكومة المصرية الحالية، والتطور الكبير الذى شهدته البنية التحتية للسكك الحديد والقطارات خلال السنوات الأخيرة.
لقد تسبب الوقوع المفاجئ لهذا الحادث رغم توقف حوادث القطارات في مصر منذ فترة طولية- في إثارة العديد من التساؤلات بين الناس، وهي: متى تنتهي أزمة السكك الحديد في مصر؟، وأين نتائج الخطط الحكومية لتطوير تلك المنظومة التى عانت من الإهمال لسنوات طويلة قبل عام 2014؟.
وتأسيسا على ما سبق، وللإجابة المعمقة لتلك التساؤلات، سنستعرض واقع وتطور أزمة سكك حديد مصر قبل عام 2014، والجهود الحكومية المبذولة لتنمية ذلك القطاع، ومدى تأثيرها على واقع سكك حديد مصر.
أزمة سكك حديد مصر قبل عام 2014:
كانت السمة المميزة لسكك حديد مصر قبل عام 2004، هى حوادث القطارات المتكررة سواء لأسباب فنية أو بشرية. فخلال الفترة (2002-2013) تراوح عدد حوادث القطارات بين 447 و1577 حادثة، بمتوسط بلغ 997 حادثة.
وكانت أسوء حوادث القطارات التى شهدتها مصر خلال هذه الفترة، هى حادثة قطار الصعيد التي وقعت بالعياط، وراح ضحيتها أكثر من 800 شخص، نتيجة اشتعال النيران بعربات القطار بسبب انفجار موقد بوتاجاز في بوفيه إحدى العربات.
المصدر: إعداد الباحثة، بالاعتماد على احصائيات الجهاز المركزى للتعبئة العامة والإحصاء.
كما كان ملاحظ انخفاض عدد القطارات العاملة بشكل كبير خلال الفترة (2000-2012)، فعلى مستوى القطارات الخاصة بنقل الركاب، نجد أنها انخفضت من 452.02 ألف قطار عام 2000 إلى 400.1 قطار عام 2012، وكذلك انخفض عدد قطارات البضائع من 20.7 ألف قطار إلى 5.5 ألف قطار.
المصدر: إعداد الباحثة، بالاعتماد على إحصائيات الجهاز المركزى للتعبئة العامة والإحصاء.
وكان لهذا التراجع فى أعداد قطارات البضائع مروده السلبى على حجم البضائع المنقولة بالسكك الحديدية، والتى انخفضت بنسبة 74% خلال الفترة (2000-2012).
المصدر: إعداد الباحثة، بالاعتماد على إحصائيات الجهاز المركزى للتعبئة العامة والإحصاء
كذلك تقلص عدد الركاب نتيجة إلى انخفاض معدلات الأمان والسلامة لخدمات النقل عبر السكة الحديد، وكان ذلك الانخفاض بنسبة 46.02% فقط منذ عام 2004/2005 حتى عام 2015/2016.
المصدر: إعداد الباحثة، بالاعتماد على احصائيات الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء.
وقد تعددت أسباب تدنى كفاءة سكك حديد مصر إلى الحد الذى أدى إلى وصفها بالأزمة المستمرة قبل عام 2014، والتي مازال البعض القليل منها مستمرا حتى يومنا هذا، وتتمثل أهم تلك الأسباب فيما يلى:
(*) تهالك البنية التحتية والأساسية:
تعد سكك حديد مصر، هى ثانى أقدم سكة حديد فى العالم، وأكبر شبكة فى الشرق الأوسط والعالم العربى، ومع مرور الزمن تهالكت البنية التحتية لها ( العربات-القضبان-أجهزة التتبع-انتهاء العمر الافتراضي للجرارات- عدم توافر قطع الغيار)، والتى لم تشهد تطويراً جوهريا وجذرياً منذ إنشاءوها عام 1851.
ويمكننا النظر إلى احصائيات عام 2016، للاستدلال على هذا، والتى تعبر عن توزيع أعداد حوادث القطارات حسب سبب الحادث:
(&) اصطادم المركبات ببوابة المنافذ (المزلقانات)، أى اصطدام القطار بالمركبات عند تقاطع السكة الحديد، وطريق عبور المشاة أو السيارات والتى كان سبباً لـ 73 حادثة.
(&) السقوط على الطوالى، وغير الطوالى، والمخازن، وهو يعنى سقوط عجلة من القطار على الخط الرئيسى، والخط الفرعى والمخازن والأحواش)، والتى كانت سبباً فى 112 حادثة.
(&) اصطدام القطار بالمركبات على غير المنافذ، والتى كانت سبباً فى 18 حادثة.
(&) انفصال القطارات عن بعضها على طول الخطوط، وكانت سبباً فى 35 حادثة.
(&) مخالفى أعمال خلوات السكك، تسببت فى 730 حادثة.
(*) عدم وجود العمالة المؤهلة والكفء:
عانت سكك حديد مصر لفترة طويلة من غياب العمالة المؤهلة والمدربة والكفء للقيام بالمهام المختلفة المتعلقة بها، سواء من السائقين للقطارات والجرارات، والعمال بالمحطات والإشارات. فعلى سبيل المثال حدث 730 حادثة قطار عام 2016 بسبب مخالفى أعمال خلوات السكك، وهو خطأ بشرى يرجع إلى عامل التحويلة. أما عن تجاوز السيمافورات (الإشارة العلوية التى توجه القطارات) والدسكات ( إشارات أرضية توجه القطار إذا كان القطار بالمخازن) بأنواعها، فقد كان ذلك سبباً فى 128 حادثة قطار عام 2016.
والجدير بالذكر أن، حادثة محطة رمسيس بالقاهرة فى 27 فبراير 2019، والتى أسفرت عن وفاة 24 شخصاً، وإصابة نحو 50 آخرين بعضهم في حالة خطرة، كانت نتيجة خطأ بشرى ناتج عن ترك السائق للجرار وهو يسير على أعلى سرعة له وهى 120 كم/ س، على الرغم من أن أقصى سرعة من المفترض أن يسير بها السائق كانت يجب ألا تزيد عن 8 كم/س.
(*) استمرار نزيف الخسائر للهيئة العامة لسكك حديد مصر:
لم يتوقف الجانب المظلم بسكك حديد مصر قبل عام 2014 عند حوادث القطارات والبنية التحتية المتهالكة، بل كانت هناك أزمة كبرى تعيق من عمليات التطوير، والتى تمثلت فى نزيف الخسائر الذى كانت تتعرض له الهيئة القومية لسكك حديد مصر، نتيجة تراكم الديون لبنك الاستثمار على مدار سنوات عديدة، وانخفاض ثمن التذاكر عن تكلفة الخدمة، حتى حققت الهيئة خسائر قدرها 12.3 مليار جنيه فى العام المالى 2018/2019، مقارنة بخسائر بلغت 1.8 مليار فى 2012/2013.
المصدر: إعدادا الباحثة بالاعتماد على بيانات وزارة المالية المصرية.
تطوير جذرى وجهد متواصل منذ عام 2014:
شهدت سكك حديد مصر تطوير جذرى منذ عام 2014، والذى وقف على كافة أسباب الأزمات المتكررة التى كانت تشهدها سكك الحديد، شملت تعديل التشريعات للسماح بدخول القطاع الخاص فى عملية التطوير، ورفع أسعار تذاكر القطارات لوقف نزيف هيئة السكك الحديد، بالإضافة إلى التعاقد مع شركات دولية لاستيراد قطارات جديدة واستبدال المتهالك منها وتطوير نظم الإشارات والمزلقانات، وخطوط السكك الحديد، ويمكن إيجاز أهم هذه الجهود الحكومية فيما يلى:
(*) وضع خطة تطوير شاملة: حيث تم وضع خطة شاملة لتخطيط ولتنفيذ مشروعات سكة حديد بإجمالي 80 مشروع، وبإجمالي تكلفة 142 مليار جنيه حتي عام 2024. وقد تم الانتهاء من تنفيذ مشروعات بإجمالى قيمة40 مليار جنيه حتى يونيو 2020، وجاري تنفيذ أعمال منها بقيمة 46 مليار جنيه.
(*) تطوير نظم الإشارات علي خطوط السكك الحديدية: فقد تم التخطيط إلى تنفيذ مشروعات تطوير نظم الإشارات لعدد 14 مشروع بإجمالي تكلفة 46.8 مليار جنيه، وجاري تنفيذ 5 مشروعات بإجمالي تكلفة 9.4 مليار جنيه تشمل إنشاء 86 برج رئيسي و74 برج ثانوي بإجمالي أطوال 971 كم.
(*) تطوير المزلقانات ونظم التحكم: حيث تم الانتهاء من التطوير الشامل لـ 479 مزلقان، وتطوير نظم التحكم بعدد 437 مزلقان.
(*) إعادة التأهيل: حيث تم الانتهاء من إعادة تأهيل وتطوير 90 عربة إسبانية و97 عربة درجة ثالثة عادية.
(*) التعاقد على عربات وجرارات جديدة: حيث تم التعاقد على صفقة توريد 1300 عربة مجري روسي بنحو أكثر من مليار يورو، وصل منها حتى تاريخه 173عربة سكك حديدية جديدة، وتم توريد 100 جرار سكة حديد حديث من إجمالي 110 جرارات، بالإضافة إلى التعاقد على توريد 6 قطارات ركاب جديدة مع شركة تالجو الإسبانية.
(*) الاهتمام بتطوير العنصر البشرى: حيث تم إنشاء معهد وردان للنهوض بالعنصر البشري، وتخريج كوادر جديدة فنية قادرة على التعامل مع المعدات الحديثة وصيانتها وتأمين. وفى 23 نوفمبر 2020 تم توقيع اتفاقية إطار عمل لإنشاء مركز تدريب مهني مصري صيني مشترك لتكنولوجيا السكك الحديدية بين الهيئة القومية لسكك حديد مصر ممثلة فى المعهد الفني لتكنولوجيا السكك الحديدية ومعهد ناجينغ لتكنولوجيا السكك الحديدية (NIRT) وشركة أفيك الصينية في مجال التدريب ونقل المعرفة وتبادل الخبرات في مجال السكك الحديدية، هذا بالإضافة إلى توقيع بروتوكول تعاون بين وزارتى النقل والتخطيط فى 26 نوفمبر 2020.
وقد هدف هذا الاتفاق إلى إنشاء محاكي متطور مماثل لأحدث أنظمة الإشارات المستخدمة عالميا داخل مركز تدريب وردان (المعهد الفني لتكنولوجيا السكك الحديدية)، مع توفير الموارد المطلوبة لدعم التدريب الذاتي في هذا المجال، بما يعمل على تنمية وتأهيل الكوادر الفنية والموارد البشرية العاملة في قطاع السكك الحديدية، ومساعدتها على تحقيق أعلى معدلات الكفاءة للعمليات التشغيلية، والترويج للتوظف والدخل المستدام للعاملين.
(*) تطوير المحطات وتدشين خطوط جديدة: فقد تم تحديث وصيانة 15 محطة ليصبح إجمالي المحطات التي تم تطويرها 176 محطة بنهاية عام 2020، وتم تدشين محطة بشتيل، والتي بلغت تكلفتها الإجمالية نحو 4.7 مليار جنيه، وتتراوح قدرتها الاستيعابية ما بين 120 ألف إلى 165 ألف راكب يومياً، بينما تبلغ مساحة الأرض المقام عليها مبنى المحطة 30 ألف متر مربع، كما يجرى إقامة شبكة قطار سريع مكونة من ثلاثة خطوط كهربائية بإجمالي 1800 كيلو تقريباً، بتكلفة إجمالية تصل إلى 360 مليار جنيه.
(*) رفع أسعار التذاكر: حيث أعلنت هيئة سكك حديد مصر فى يونيو 2020، زيادة أسعار تذاكر بعض القطارات، بنسب تتراوح بين 25% و150%، وذلك بزيدة أسعار تذاكر الدرجة الأولى في قطارات الـVIP بنسبة 25%، والدرجة الثانية بنسبة 40%، بينما زادت الدرجة الأولى في القطارات الإسباني والفرنساوي بنسبة 30% والدرجة الثانية بنسبة 83%، أما بالنسبة للقطارت المطورة والمميزة فقد زادت بنسبة 150%.
(*) تعديل تشريعى: حيث تم تعديل قانون إنشاء هيئة السكك الحديدية رقم 152 لسنة 1980 (منشور بالجريدة الرسمية الصادرة 3 أبريل 2018) بشكل يسمح للقطاع الخاص بإنشاء وإدارة وتشغيل خطوط السكة الحديد وصيانتها من خلال عقود إلتزام لا تتعدى 30 عاما. كما يعطى القانون للهيئة القومية لسكك حديد مصر أو غيرها من الأشخاص الطبيعيين أو الاعتباريين حقوق إنشاء وتشغيل خطوط السكك الحديدية على الجمهورية وتطويرها وإدارتها وصيانتها، وتنفيذ أى مشروعات لازمة لتقديم هذه الخدمة وتطويرها فى كافة أنحاء الجمهورية، على أن يكون منح إلتزام إنشاء وإدارة وتشغيل وصيانة خطوط السكك الحديدية للأشخاص الطبيعيين أو الاعتباريين بموجب قانون لمدة أقصاها ثلاثين عاما، ويتم إختيار الملتزم فى إطار من المنافسة والعلانية.
انعكاس إيجابي:
ظهرت النتائج الإيجابية للجهود الحكومية المبذولة فى تطوير سكك الحديد، فى تراجع عدد حوادث القطارات والمتوفين والمصابين جراء هذه الحوادث عام 2019، حيث شهد عدد حوادث القطارات تراج بنسبة 9% مقارنة بعام 2018.
كذلك تراجعت أعداد المتوفين نتيجة هذه الحوادث، ليبلغ 50 متوفى عام 2019، مقارنة بمتوسط بلغ 90 حالة وفاة فى الفترة (2012-2014)، وبلغ أعداد المصابين 118 حالة إصابة، مقارنة بمتوسط 141 إصابة فى الفترة (2012-2014).
كما تراجعت أعداد حوادث القطارات الناتجة عن أسباب فنية بالمقارنة بين عامى 2017 و2019، حيث أصبح عدد الحوادث الناتجة عن السقوط الطوالى وغير الطوالى صفرا بعد أن كان 74 حادثة عام 2017. كذلك انخفض عدد الحوادث الناتج عن اصطدام القطارات بالمركبات سواء على المنافذ أو غير المنافذ إلى 13 حادثة، مقارنة بـ 103 حادثة، وبلغ عدد الحوادث الناتجة عن انفصال القطارات عن بعضها على جميع الخطوط حادثة واحدة فقط مقابل 20 حادثة عام 2017. أما الحوادث الناتجة عن اصطدام المركبات ببوابة المنافذ فقد انخفض بواقع 1211 حادثة، وانخفضت عدد الحوادث الجسيمة بواقع 16 حادثة.
في النهاية يمكن القول، إن قطاع السكك الحديد فى مصر يمر بما يمكن وصفه بالأزمة التى لن تنتهى فى غضون سنوات قليلة، بل تحتاج إلى جهود وخطط متواصلة حتى يمكن أن تظهر نتائج التطوير الجذرى الذى عمدت القيادة السياسية الحالية برئاسة الرئيس “عبد الفتاح السيسى” إلى تطبيقه، والتى ستحدث طفرة فى هذا القطاع المتردى والمتدهور حالته نتيجة الإهمال لسنوات طويلة.