دلالات متنوعة: قراءة في التصريحات التي تلت الهجوم الإسرائيلي علي قطر

في التاسع من سبتمبر 2025، استيقظ العالم على حدث غير مسبوق هزّ التوازنات الإقليمية والدولية. إذ اخترقت الطائرات الإسرائيلية الأجواء القطرية، ونفذت عملية استهدفت قادة المكتب السياسي لحركة حماس في الدوحة.
أهمية الحدث لم تقتصر على طابعه العسكري، بل ارتبطت بالتصريحات السياسية التي صدرت من مختلف الأطراف عقب الضربة. هذه التصريحات حملت في طياتها رسائل متناقضة، وأحيانًا غير منطقية، بخصوص مدى معرفة واشنطن المسبقة بالهجوم وحجم التنسيق مع تل أبيب.
من هذا المنطلق، يسعى هذا التحليل إلى قراءة الدلالات السياسية لهذه التصريحات، وتفكيك أبعادها، وطرح تساؤلات حول حقيقة الموقف الأمريكي، ومدى استقلال القرار الإسرائيلي في هذا السياق.
تصريحات أمريكية:
بعد الضربة مباشرة، أصدر البيت الأبيض بيانًا أشار فيه إلى أن قرار تنفيذ العملية اتخذه رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو منفردًا، وأن واشنطن علمت بالأمر متأخرة جدًا.
ترامب، على منصته “تروث سوشيال”، أكد الرواية ذاتها قائلًا: “كان هذا قرارًا اتخذه نتنياهو، ولم يكن قرارًا اتخذته أنا”.
وفي اليوم التالي، حاول ترامب تثبيت هذه الصورة مجددًا حين صرّح للصحفيين: “لست سعيدًا بالوضع برمته، إنه ليس وضعًا جيدًا، لكننا نريد عودة الرهائن ولسنا سعداء بالطريقة التي جرت بها الأمور”.
إلى جانب ذلك، نقلت شبكة CNN عن مصادر مطلعة أن ترامب أُبلغ بالهجوم قبل دقائق قليلة من بدايته، وأن بعض مستشاريه شعروا بالإحباط لعدم وجود وقت كافٍ لتحذير السلطات القطرية.
هذه السردية تؤكد أن الإدارة الأمريكية تحاول الظهور بمظهر الغائب عن تفاصيل الهجوم، وكأنها لم تكن طرفًا في التخطيط أو التنسيق، مما يترك تساؤلًا حول مدى صدقية هذه الرواية.
تصريحات الإسرائيلية:
كان الإعلام الإسرائيلي، أكثر وضوحًا وصراحة. إذاعة جيش الاحتلال أعلنت أن العملية جرى التخطيط لها منذ عدة أشهر، وأنها كانت جزءًا من استراتيجية إسرائيلية أوسع لملاحقة قادة حماس في الخارج.
مكتب نتنياهو نشر على منصة “إكس” أن “الهجوم عملية إسرائيلية مستقلة تمامًا، وأن إسرائيل بادرت ونفذت وتتحمل كامل المسؤولية”.
في اليوم التالي، صعّد نتنياهو من لهجته موجهًا تحذيرًا مباشرًا إلى قطر: “أقول لقطر وكل الدول التي تؤوي إرهابيين: إما أن تطردوهم أو تقدموهم للعدالة، وإذا لم تفعلوا ذلك فسوف نفعل نحن”.
هذه التصريحات تعكس إصرارًا إسرائيليًا على الانفراد بقرار الهجوم، وتحمل في الوقت ذاته رسالة ردع موجهة لدول المنطقة مفادها أن تل أبيب لن تتردد في استهداف خصومها حتى لو كانوا على أراضي حليفة لواشنطن.
تصريحات قطرية:
على الجانب الآخر، نفت الدوحة بشكل قاطع وجود أي معرفة مسبقة لديها بالهجوم. الناطق باسم وزارة الخارجية القطرية ماجد الأنصاري كتب على منصة “إكس”: “ما يتم تداوله حول أن قطر أُبلغت بالهجوم مسبقًا عارٍ عن الصحة”. وأضاف أن الاتصال الوحيد الذي ورد إلى الدوحة جاء من مسؤول أمريكي خلال وقوع الانفجارات بالفعل.
هذا التصريح يتقاطع مع رواية ترامب الذي قال إنه علم قبل الضربة بدقائق، وإنه طلب من ستيف ويتكوف إبلاغ السلطات القطرية، لكن الوقت كان قد فات.
المحصلة أن الموقف القطري يؤكد عنصر المفاجأة، ويعزز فكرة أن الدوحة تعرضت لهجوم غادر دون سابق إنذار، الأمر الذي يضع العلاقات القطرية الأمريكية على المحك.
تناقض التصريحات:
رغم التوافق الظاهري بين الأطراف الثلاثة على أن الهجوم لم يكن منسقًا مسبقًا مع واشنطن، إلا أن مؤشرات عديدة تثير الشكوك في هذه الرواية، أبرزها:
1. اعتراف إسرائيل بأنها خططت للهجوم منذ أشهر. فكيف يمكن أن تمر هذه الخطة دون علم الولايات المتحدة التي تعتبر الحليف الاستراتيجي الأول لتل أبيب؟
2. وجود معاهدة دفاع مشترك بين قطر وواشنطن، إضافة إلى القواعد العسكرية الأمريكية المنتشرة في الأراضي القطرية، وعلى رأسها قاعدة “العديد” التي تبعد 30 كيلومترًا فقط عن الدوحة وتعد الأكبر في المنطقة.
3. مشاركة نحو 15 طائرة إسرائيلية في العملية، وهو رقم يصعب عدم رصده من الرادارات الأمريكية المتطورة الموجودة في القواعد القطرية.
هذه العناصر مجتمعة، توحي بأن واشنطن كانت على دراية بالهجوم، وربما غضّت الطرف عنه لاعتبارات استراتيجية تتعلق بعلاقتها الخاصة مع إسرائيل.
سيناريوهات محتملة:
بناءً على المعطيات السابقة، يمكن رسم سيناريوهين رئيسيين لتفسير الموقف:
(*) السيناريو الأول،- أن الضربة نُفذت فعلًا بشكل منفرد من قبل إسرائيل، دون تنسيق مباشر مع واشنطن. ويستند هذا السيناريو إلى تطابق التصريحات الأمريكية والقطرية في نفي المعرفة المسبقة، مع تأكيد إسرائيل على تحمل المسؤولية كاملة.
(*) السيناريو الثاني،- أن هناك تنسيقًا أمريكيًا إسرائيليًا غير معلن، وأن واشنطن فضّلت الصمت لتفادي أزمة ثقة مع قطر وبقية دول الخليج. هذا السيناريو يستند إلى استحالة غياب العلم الأمريكي بتحركات بهذا الحجم قرب أهم قواعدها العسكرية، وإلى أن إسرائيل لم يسبق أن نفذت هجومًا بهذا المستوى دون تشاور مسبق مع واشنطن.
دلالات متنوعة وانعكاسات محتملة:
أهمية هذه التصريحات لا تكمن فقط في مضمونها، بل أيضًا في الرسائل غير المباشرة التي تحملها:
(-) بالنسبة للولايات المتحدة: محاولة الحفاظ على توازن دقيق بين علاقتها مع إسرائيل وتحالفها الاستراتيجي مع قطر ودول الخليج.
(-) بالنسبة لإسرائيل: تأكيد استقلالية قرارها العسكري، وتوجيه رسالة ردع لبعض دول المنطقة بأن وجود حلفاء واشنطن لا يحول دون ضربها.
(-) بالنسبة لقطر: تعزيز سردية التعرض لعدوان غادر، ما يمنحها ورقة دبلوماسية لتعبئة الرأي العام الخليجي والعربي ضد إسرائيل، وربما ضد تقاعس واشنطن.
أما بالنسبة للانعكاسات المحتملة. فإنه من المرجح أن الهجوم يترك آثارًا عميقة على موازين القوى في المنطقة، وهذا على النحو التالي:
(*) إضعاف دور قطر كوسيط في المفاوضات بين حماس وإسرائيل، بعد أن باتت الدوحة نفسها ساحة صراع.
(*) تعميق أزمة الثقة بين دول الخليج وواشنطن، ما قد يدفع بعض هذه الدول إلى البحث عن بدائل أمنية جديدة سواء مع قوى إقليمية كتركيا وإيران أو مع قوى دولية كالصين وروسيا.
(*) تعزيز القناعة بأن القواعد الأمريكية في الخليج تخدم بالدرجة الأولى المصالح الإسرائيلية، وليس أمن الدول المضيفة.
في النهاية يمكن القول إن الضربة الإسرائيلية للدوحة لم تكن مجرد عملية عسكرية محدودة، بل شكلت اختبارًا كبيرًا للعلاقات الدولية في المنطقة. فالتصريحات المتناقضة التي صدرت بعدها تكشف عن تعقيدات في شبكة التحالفات، وعن محاولات أمريكية لتخفيف الأضرار الدبلوماسية دون التضحية بعلاقتها الاستراتيجية مع إسرائيل.
في المقابل، فإن قطر ودول الخليج قد تخرج من هذه الأزمة بقناعة جديدة بأن الاعتماد الكامل على المظلة الأمريكية لم يعد خيارًا آمنًا. وهنا تكمن الدلالة الأعمق: أن الضربة لم تستهدف قادة حماس فقط، بل أصابت أيضًا صورة الولايات المتحدة كضامن لأمن المنطقة.