صدقات على ورق: لماذا تعود ظاهرة الجمعيات الوهمية في مصر؟

تُعتبر الجمعيات الخيرية من أهم أدوات التكافل في أي مجتمع، فهي تسعى إلى مساعدة الفقراء وتحسين مستوى المعيشة من خلال التبرعات والمبادرات المجتمعية. غير أن ظهور جمعيات مجهولة الهوية أو غير خاضعة للرقابة الرسمية فتح الباب أمام إشكاليات كبرى، إذ تحولت بعض هذه الكيانات إلى قنوات لجمع أموال هائلة بطرق مشبوهة. خطورة الأمر لا تكمن في وجودها فحسب، بل في طريقة عملها التي تقوم على سلسلة مترابطة من المخاطر تبدأ من غياب الهوية وتنتهي بتهديد الأمن القومي.
ظاهرة خطرة:
تظهر هذه الجمعيات بأسماء براقة، مثل “نسيم الجنة” و”بصمة خير”، لكنها غير واضحة الوضع القانوني. هذا الغموض في الهوية يرتبط مباشرة بالمشروعات التي تعلن عنها، مثل وصلات مياه أو بناء مساجد، وهي في الأصل مشروعات تقوم الدولة بتمويلها وتطويرها عبر “حياة كريمة”. ومع ذلك تستغل هذه الجمعيات جهل الناس بالتفاصيل لتظهر وكأنها البديل الوحيد، وبذلك يتحول الغموض الإداري إلى أداة للتضليل.
دعاية مضللة:
التضليل بدوره لا يقف عند حد المشروعات، بل يمتد إلى أسلوب الدعاية. هذه الجمعيات تختار قنوات هامشية وإذاعات جماهيرية، وتبث إعلانات مطولة في أوقات تستهدف ربات البيوت والموظفين بعد انتهاء أعمالهم. وتُغلف الرسائل بآيات قرآنية وأحاديث نبوية، مستثمرة التدين الفطري للمصريين لتوجيه عاطفتهم نحو التبرع. هنا يصبح الخطاب الديني وسيلة ضغط نفسي، يُربط بالغموض التنظيمي، ليعطي انطباعًا كاذبًا بالشرعية.
وحتى عملية التبرع نفسها تُدار بطريقة تجارية؛ فالجمعيات لا تترك المجال مفتوحًا بل تحدد أسعارًا ثابتة: 3000 جنيه لوصلة مياه، أو 3500 إلى 5000 جنيه لزراعة نخلة. هذا التسعير يحول الفعل الخيري إلى معاملة مالية واضحة العائد. وإذا جمعت الجمعية مائة تبرع في يوم واحد فقط لوصلات مياه، يصبح الحصاد 300 ألف جنيه. الأموال الضخمة تتناسب مع حجم الدعاية المكثفة، ما يثير تساؤلات حول وجهتها الحقيقية، خاصة وأن هذه الحملات تتكرر يوميًا بشكل منتظم.
الجغرافيا المستهدفة:
اختيار المناطق المستهدفة يعمّق الشبكة أكثر. القرى النائية في الصعيد أو الدلتا أو الواحات تُصوَّر وكأنها بلا خدمات أساسية، بينما الواقع أن مبادرات الدولة غطت معظم احتياجاتها. البعد الجغرافي وقلة اطلاع المتبرعين يجعل من الصعب التحقق من صحة هذه الادعاءات، فيتحول البُعد المكاني إلى عامل يُضاف إلى الاستغلال الديني والإعلامي.
هذه العوامل المترابطة تفتح الباب أمام شكوك كبرى. وقائع محددة أثبتت كذب الادعاءات مثل قرية “البدالة” في الدقهلية التي جُمعت لها تبرعات لتركيب وصلات مياه رغم أن الخدمة موجودة بالفعل، أو مركز “يوسف الصديق” في الفيوم الذي رُوِّجت له حملات بعد أن تم تطويره بالكامل ضمن “حياة كريمة”. مثل هذه الأمثلة تكشف أن الأمر لا يقتصر على أخطاء فردية، بل يشير إلى منظومة تعمل بمنهجية، قد يكون هدفها الاحتيال المالي أو غسيل الأموال أو حتى تمويل أنشطة غير مشروعة.
المحصلة أننا أمام شبكة مغلقة: غياب الرقابة يولد هوية غامضة، والهوية الغامضة تُستخدم لإطلاق مشروعات وهمية، وهذه المشروعات تُسوَّق بخطاب ديني مضلل، والإعلانات المكثفة تدر أموالًا هائلة، والأموال بدورها قد تُستغل لأهداف تتجاوز ظاهر العمل الخيري. وبذلك يصبح النشاط في ظاهره خيريًا، لكن في عمقه منظومة استغلال اقتصادي واجتماعي وأمني.
مخاطر محتملة:
إذا استمرت هذه الجمعيات في العمل دون ضبط أو رقابة خلال السنوات المقبلة، فإن المجتمع قد يواجه مخاطر أعمق، هي كالتالي:
(*) اجتماعيًا: تآكل الثقة في العمل الخيري الشرعي، وضعف روح التكافل.
(*) اقتصاديًا: خلق اقتصاد خفي قائم على أموال التبرعات، قد يتحول إلى أداة لغسل الأموال.
(*) أمنيًا: احتمالية تمويل جهات غير مشروعة أو جماعات منظمة بغطاء خيري.
(*) على المدى الطويل: ظهور شبكات مالية وإعلامية جديدة تتحكم في الرأي العام وتوظف الدين كأداة ضغط.
مقارنات دولية:
هذه الظاهرة متكررة، فقد حدثت في بعض دول العالم، منها ما واجهها وقفل أبوابها، ومنها ما تأخر في المواجهة، وهو ما جعل هذه الجمعيات تتحول إلى مؤسسات مهددة. وهذا كالتالي:
(*) المغرب: فرضت السلطات منذ سنوات قوانين صارمة تلزم الجمعيات بإشهار مصادر التمويل والمصروفات، مع رقابة مباشرة من وزارة الداخلية ووزارة التضامن، للحد من استغلال الدين في التبرعات.
(*) باكستان: واجهت الدولة جمعيات مشبوهة استغلت العمل الخيري في تمويل جماعات متطرفة، فأصدرت قوانين تجمد أرصدة الجمعيات غير المرخصة وألزمت البنوك بعدم التعامل معها إلا بعد موافقة حكومية.
(*) لبنان: واجهت أزمة مشابهة مع جمعيات استخدمت خطابًا دينيًا لجمع الأموال، وتم كشف استخدامها كغطاء لتحويلات مالية غير مشروعة، ما دفع الدولة لإعادة تسجيل الجمعيات وإغلاق المجهول منها.
هذه التجارب تؤكد أن المشكلة ليست محلية فقط، بل ظاهرة عالمية تستغل الدين والعمل الخيري كأداة تمويلية. وما يميز مصر أن الدولة بالفعل أطلقت مبادرات شاملة مثل “حياة كريمة”، ما يجعل أي جمعية تدّعي تنفيذ مشروعات بنية تحتية خارج هذه المظلة موضع شك مباشر.
في النهاية، يمكن القول إن الحفاظ على نقاء العمل الخيري ضرورة اجتماعية وأمنية، فترك الجمعيات المجهولة دون رقابة يفتح ثغرات قد تتحول إلى تهديدات عابرة للمجتمع والدولة. والتجارب الدولية تُثبت أن المواجهة الفعّالة تقوم على ثلاث ركائز: تشريع واضح، رقابة صارمة، توعية مجتمعية. إذا تم تطبيق هذه الركائز محليًا، يمكن حماية المجال الخيري من الاستغلال، وضمان أن يصل العطاء إلى مستحقيه الفعليين بدل أن يتحول إلى أداة للنصب أو التمويل غير المشروع.