حدود الدور: كيف تنشط فرنسا في الإقليم والعالم؟

في ظل التحديات الجيوسياسية المتزايدة، يسعى الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى تعزيز دور فرنسا كلاعب رئيسي على الساحة الدولية. من خلال سلسلة من التحركات الدبلوماسية والاجتماعات مع قادة عالميين، يهدف ماكرون إلى تعزيز الاستقرار الإقليمي وتعميق التعاون الدولي.

تعزيز السلام في أوكرانيا:

في 24 فبراير 2025، التقى الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بنظيره الأمريكي دونالد ترامب في البيت الأبيض لمناقشة الصراع المستمر في أوكرانيا. ,أعرب ماكرون وقتها عن رغبته في مشاركة أوروبا بشكل أكبر في محادثات السلام، مؤكدًا أن السلام لا يعني استسلام كييف. من جانبه، أبدى ترامب اهتمامه بالتوصل إلى وقف لإطلاق النار، لكنه أشار إلى أن القوات الأوروبية، يمكن أن تُنشر كقوات حفظ سلام بشرط تأمين وصول الولايات المتحدة إلى المعادن الحيوية في أوكرانيا.

وأكد ماكرون على ضرورة تحقيق “سلام دائم وقوي” في أوكرانيا، مشددًا على أهمية تقديم ضمانات أمنية حقيقية لكييف. وأشار إلى أن السلام لا يعني بأي حال من الأحوال استسلام أوكرانيا، بل يجب أن يتضمن ترتيبات تضمن سيادتها وسلامة أراضيها. من جانبه، أبدى ترامب اهتمامه بالتوصل إلى وقف لإطلاق النار في أقرب وقت ممكن، لكنه أشار إلى أن القوات الأوروبية، يمكن أن تُنشر كقوات حفظ سلام بشرط تأمين وصول الولايات المتحدة إلى المعادن الحيوية في أوكرانيا.

اتفاقيات استراتيجية:

في 7 أبريل 2025، قام ماكرون بزيارة رسمية إلى القاهرة، والتقى بالرئيس المصري عبد الفتاح السيسي. ورغم المناخ الإقليمي المتقلب، إلا أنهما وقّعا عدد من الاتفاقيات الاستراتيجية التي تغطي مجالات حيوية مثل الصحة، النقل، الطاقة، والمياه. وتعهدت فرنسا بتقديم 260 مليون يورو من القروض والمنح لدعم هذه المبادرات، في خطوة تعكس التزام باريس بدعم استقرار مصر وتعزيز حضورها في المنطقة.

وتهدف هذه الاتفاقيات سابقة الذكر إلى تعزيز التعاون بين البلدين في مجالات حيوية، مما يسهم في تحسين البنية التحتية وتطوير الخدمات الأساسية في مصر. كما تأتي هذه الخطوة في إطار سعي فرنسا لتعزيز حضورها في المنطقة ودعم استقرار حلفائها. بالإضافة إلى ذلك، دعا ماكرون والسيسي إلى وقف إطلاق النار في غزة وإطلاق سراح الرهائن الإسرائيليين، مما يعكس التزام البلدين بالعمل معًا لتحقيق الاستقرار في الشرق الأوسط.

تعزيز القدرات الدفاعية الأوروبية:

في إطار سعيه لتعزيز القدرات الدفاعية الأوروبية، ناقش وزراء المالية في الاتحاد الأوروبي مقترحًا لإنشاء “آلية دفاع أوروبية” تهدف إلى تمكين الدول الأعضاء من شراء وامتلاك المعدات الدفاعية بشكل مشترك. ويهدف هذا الصندوق إلى تعزيز الاستقلالية الاستراتيجية لأوروبا وتقليل الاعتماد على الحلفاء الخارجيين، خاصة في ظل التوترات المتزايدة مع روسيا وتراجع الدعم العسكري من الولايات المتحدة.

ويأتي هذا المقترح في وقت تواجه فيه أوروبا تحديات أمنية متزايدة، مما يستدعي تعزيز التعاون الدفاعي بين الدول الأعضاء. فمن خلال إنشاء هذه الآلية، يمكن لأوروبا تحسين قدراتها الدفاعية وتطوير صناعاتها العسكرية، مما يسهم في تعزيز الاستقلالية الاستراتيجية وتقليل الاعتماد على الحلفاء الخارجيين.

 الشرق الأوسط في الحسابات الفرنسية:

في 7 أبريل 2025، أجرى ماكرون مكالمة مشتركة مع الرئيسين ترامب والسيسي والعاهل الأردني الملك عبد الله الثاني، لمناقشة الوضع المتأزم في غزة. وتأتي هذه الخطوة في إطار سعي ماكرون لتعزيز الجهود الدولية لاحتواء التوترات في الشرق الأوسط، وتأكيدًا على دور فرنسا كوسيط يسعى لتحقيق الاستقرار في المنطقة.

كما تأتي هذه الجهود في وقت تتصاعد فيه التوترات في غزة، مما يستدعي تدخلًا دبلوماسيًا فعالًا لاحتواء الأزمة. من خلال هذه المكالمة، يسعى ماكرون إلى تعزيز التعاون بين الأطراف المعنية والعمل على إيجاد حلول مستدامة لتحقيق السلام في المنطقة.

وعلى ما سبق، يمكن القول إن تحركات ماكرون الأخيرة، تعكس رؤية طموحة لفرنسا على الساحة الدولية. فهو يسعى لجعل بلاده لاعبًا محوريًا في حل النزاعات، وتعزيز الشراكات الاستراتيجية، ودفع أوروبا نحو مزيد من الاستقلالية الدفاعية. ومع ذلك، يواجه ماكرون تحديات جسيمة، من بينها تحقيق توازن دقيق بين علاقاته مع واشنطن وموسكو، والتعامل مع تعقيدات الشرق الأوسط، وضمان توافق أوروبي داخلي حول رؤيته الدفاعية.

 تحديات مؤثرة:

ثمة تحديات يمكن أن يواجها الدور الفرسي النشط في منطقة الشرق الأوسط وبعض أقاليم العالم، يمكن رصدها على النحو التالي:

(*) تباين المواقف: رغم التوافق الظاهري، هناك اختلافات جوهرية بين باريس وواشنطن حول كيفية التعامل مع الأزمة الأوكرانية، خاصة في ظل توجهات ترامب نحو تقارب محتمل مع موسكو.

(*) مصداقية الضمانات: تقديم ضمانات أمنية فعّالة لأوكرانيا يتطلب توافقًا دوليًا واسعًا، وهو ما قد يكون صعب التحقيق في ظل التوترات الحالية.

(*) الاستقرار الإقليمي: تأتي هذه الاتفاقيات في ظل مناخ إقليمي متقلب، مما يطرح تساؤلات حول قدرة هذه الشراكة على تحقيق الاستقرار المطلوب.

(*) توافق الدول الأعضاء: تحقيق إجماع بين الدول الأعضاء على هذه الآلية قد يكون صعبًا نظرًا لاختلاف الأولويات والقدرات الدفاعية. كما أن توفير التمويل اللازم لهذه الآلية، يتطلب موارد مالية ضخمة، وهو ما قد يواجه عقبات في ظل الأوضاع الاقتصادية الحالية.

(*) توازن العلاقات: محاولة فرنسا لعب دور الوسيط، يتطلب توازنًا دقيقًا في العلاقات مع مختلف الأطراف المعنية، وهو ما قد يكون صعب التحقيق.

في النهاية، يمكن القول إن التحركات الأخيرة للرئيس إيمانويل ماكرون، تشكل جزءاً من استراتيجية دبلوماسية طموحة تهدف إلى إعادة ترتيب موازين القوى العالمية، وتعزيز دور فرنسا كمحور رئيسي في السياسة الدولية. فلقاء ماكرون مع الرئيس الأمريكي ترامب حول الأزمة الأوكرانية، يُظهر سعي ماكرون المتواصل لتنسيق المواقف مع الحلفاء الغربيين لضمان الأمن الأوروبي، بينما في الوقت ذاته يسعى لتعزيز الاستقلالية الدفاعية لأوروبا بعيداً عن الاعتماد على الولايات المتحدة. كما أن زيارته إلى مصر، تشير إلى تحول حاسم في السياسة الفرنسية تجاه الشرق الأوسط، حيث تسعى باريس إلى ترسيخ شراكة استراتيجية مع القاهرة لتعزيز الاستقرار الإقليمي، وفتح آفاق جديدة للتعاون الاقتصادي. وفي السياق ذاته، تأكيده على خطط دفاعية أوروبية مشتركة يُظهر رغبة ماكرون في تقوية موقف فرنسا في قلب الاتحاد الأوروبي. أخيراً، لقاؤه مع الملك عبد الله الثاني، يعكس رغبته في لعب دور الوسيط الفاعل في الأزمات الإقليمية، مما يربط هذه التحركات جميعها في إطار رؤية شاملة تهدف إلى تعزيز قوة فرنسا في معركة النفوذ العالمي من خلال مزيج من الدبلوماسية الناعمة، القوة العسكرية، والشراكات الاستراتيجية. ويبقي السؤال هل ستكون تحركات ماكرون الدبلوماسية الأخيرة بداية لحقبة جديدة من النفوذ الفرنسي على الساحة الدولية، أم أن التحديات الداخلية والخارجية ستجعل هذه التحركات مجرد رهانات محفوفة بالمخاطر؟

ديانا محسن

ديانا محسن- باحثة متخصصة في الشؤون الأمريكية، وحدة دراسات العالم

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى