قراءة في تصريحات ترامب في ضوء نظرية “إغراق الساحات”

تُعد تصريحات الرئيس الأمريكي دونالد ترامب العائد حديثاً إلي البيت الأبيض، والمتعلقة بالقضية الفلسطينية وقطاع غزة وملف التهجير، هي نمط من أنماط التلاعب الاستراتيجي المحسوب، والذي يقوم علي خلق واقع وهمي علي الساحة السياسية، بحيث تصبح الأفكار المستحيلة قابلة للنقاش، والمشاريع غير القابلة للتنفيذ تبدو وكأنها سيناريوهات مطروحة، فكلما زادت الفوضي حول ملف أو قضية ما، كلما أصبح من الأسهل تمرير تصريحات وقرارات خطيرة تتعلق بهذ القضية. وهذا لا يعني حتمية تنفيذها ولكن الطرح نفسه والحديث حوله والتفاوض بشأنه خبيث ومُهين، ما يعني أن مثل هذه الأفكار بلا شك هي ذات تأثير علي المشهد السياسي، كونها تستهدف إعادة تشكيل الوعي العام ودفع الخصوم إلي موقع الدفاع بدلاً من إبقائهم في موقع الهجوم.

وكما يبدو أن ترامب يسعي في لايته الثانية إلي استحداث نهج مختلف في سياسته تجاه الشرق الأوسط، سيما بعد تصاعد الأوضاع في المنطقة جراء العدوان الإسرائيلي الغاشم وما ترتب عليه من دخول فواعل وأطراف أخري علي الخط. ومن منطلق أيضاً أنه بات يري نفسه قائداً للعالم، وعلي الجميع السمع والطاعة. فترامب عُرف سابقاُ بسياساته الفجة وعجرفته اللامتناهية، وبالمناسبة هذه من إحدي سمات الجمهوريين بشكل عام. وهذا النهج المُستخدم يتسع ويتمدد عبر خلق ضجة إعلامية ضخمة حول شيء غير حقيقي، بهدف تشتيت الانتباه أو إحكام سيطرة، أو تحقيق مصالح وأهداف غير معلنة.

إن القضية الفلسطينية، هي قضية محورية لدول منطقة الشرق الأوسط وفي القلب منها الدول العربية، ما ترتب عليه موقف موحد خاصة لشعوبها في دعمها والوقوف خلف حق الشعب الفلسطينيين في أرضه، وهو ما يفسر طريقة تعامل الإدارات الأمريكية السابقة مع هذه القضية، عبر اعتماد لغة دبلوماسية محسوبة إلي حد ما، وتبنيها سياسة المماطلة في حسم أمور عدة تتعلق بها، وعلي الجانب الآخر دعمها الكامل والمطلق للاحتلال الإسرائيلي. لذلك فإن أي سياسات غير محسوبة مع هذه الدول، خصوصاً الحليفة لواشنطن، قد تؤدي إلى مزيد من التدهور والتصعيد في المنطقة، وهو ما عكسته التصريحات الرسمية الصارمة للأردن ومصر، وكذلك المملكة العربية السعودية مؤخراً رداً على تصريحات ترامب بتهجير الفلسطينيين.

وعليه، يقدم هذا التحليل قراءة في تصريحات الرئيس دونالد ترامب، والمتعلقة بالقضية الفلسطينة في ضوء القيادة، المصلحة، ونظرية إغراق الساحات.

مفهوم القيادة:

يقوم  مفهوم القيادة علي توجيه سلوك الآخرين، لأن القيادة في تعريفها هي عملية التأثير التي يقوم بها القائد في مرؤوسيه لإقناعهم وحثهم علي المساهمة الفعالة للقيام بجهود أو نشاط معين.

دونالد ترامب وكما يري نفسه قد أصبح قائداً وسيداً للنظام العالمي، متحكماً في شعوبه مصيراً وأرضاً، وفي ثرواته أيضاً، يخرج علينا بتصريحات وقرارات جنونية، يصنع في ذهنه من خلالها خريطة جديدة لمنطقة الشرق الأوسط بلا فلسطين وشعبها، ثم يأتي ويُعلنها علي الملأ في مشهد إمبريالي متعجرف، يتنافي والقيم البشرية والتاريخية والقوانين والأعراف الدولية. وإذا ما كان ترامب قد بدأ بإفراغ الولايات المتحدة الأمريكية من المهاجرين غير الشرعيين وإعادتهم إلى بلدانهم الأصلية، فإنه قرر أن يستعمل الآلية نفسها في إفراغ غزة من مواطنيها وفرض سيناريو التهجير عليهم، وكأن الأرض ليست لهم، والكيان الصهيوني الاحتلالي الاستيطاني هو صاحب الحق فيها.

ترامب، زعيم الدولة التي قامت بالفعل علي إبادة سكانها الأصليين من الهنود الحمر، قالها سابقاً “مساحة إسرائيل علي الخريطة صغيرة”، وكأنه المتحكم بجغرافيا الدول. وتتطلب خطته المزعومة نقل شعب بأكمله من أرضه، وتطهيرها عرقياً منه لكي تُقدَم علي طبق من فضة للكيان الإسرائيلي، ما يعني إفراغ القضية الفلسطينية وإغلاق هذا الملف بشكل نهائي. وليست هذه المرة الأولي التي يُدلي فيها بتصريحات تنم عن سياسات استعلائية منافية للقيم والواقع والعدالة، ففي ولايته السابقة، قدَم ما عُرف بـ (صفقة القرن)، والتي تقوم على أساس ضم أراضي الفلسطينيين للاحتلال الإسرائيلي. إلا أن هذه الفكرة لم تكتمل. فهل يعود بما هو أشد وقاحة منها ليثبت للعالم إحكام سيطرته وقبضته علي المشهد السياسي في ظل حكمه؟

وطبقاً للخبراء والمحللين، فإن الرئيس الأمريكي يدخل عهده الرئاسي الجديد وفق ثلاثة معطيات تتعلق بموقفه تجاه حل القضية الفلسطينية، وهم كالتالي:

الأول:- يقوم على اعتماده على استخدام أداة القوة والإجبار، التي تمتلكها الولايات المتحدة كقوة عظمى، لتحقيق أهدافه، وهو ما عكسته تصريحاته كذلك فيما يتعلق بكندا وبنما وغرينلاند.

الثاني:- يقوم على استمرار الدعم المطلق للاحتلال الإسرائيلي، فقد ألغى العقوبات عن المستوطنين، ورفع الحظر المؤقت عن إرسال القنابل الثقيلة لها، في ظل عدم الانقطاع عن سياسته السابقة.

الثالث:- يقوم على رغبته في تحقيق إنجاز لم يستطع أسلافه تحقيقه، باعتباره قائداً مميزاً عنهم، وقد يكون حل القضية الفلسطينية حافزاً مهماً لإنجاز ذلك. لذلك لم تكن دعواته لمصر والأردن باستقبال الفلسطنيين منفصلة عن قراره بوقف المعونات الأمريكية عن الدول التي تستفيد منها لمدة 90 يوماً. ورغم أن القرار استثنى إسرائيل ومصر، وأصاب الأردن التي تستفيد من مساعدات أمريكية سنوية تعدت الـ 200 مليار دولار منذ عام 1951، في ظل وضع اقتصادي متردٍ، وقد تخضع مصر أيضاً لنفس التهديد لاحقاً، في ظل واقع اقتصادي معقد أيضاً.

مفهوم المصلحة:

يعد مفهوم المصلحة، أحد محددات السياسة الخارجية، التي تؤثر في سياسات الدول وعلاقاتها مع الفواعل الدولية الأخري، وهو أول المفاهيم التي يفكر فيها صانع القرار السياسي عند اتخاذ القرارات، والمصلحة هي مسعي وهدف رئيسي لكل دولة ضمن المنظومة الدولية.

إن اقتران أفكار وتصريحات الرئيس الأمريكي الأخيرة بالمصلحة هو حقيقة مؤكدة، فبشكل عام لا شئ يُطلب في السياسة غير تحقيق مصلحة منشودة، أو الدفاع عن مصلحة متحققة. وفي ظل الربط بين ما يصدر عن ترامب من قرارات، وبين المصالح الأمريكية المعلنة أو غير المعلنة في الشرق الأوسط، نجد أنه يرمي إلي تحقيق مصالح أكثر من تنفيذ تلك القرارات، والتي قد يُصرَح بها فقط لرفع سقف المصلحة المطلوبة أو عقد صفقات من نوع جديد مع الفواعل الهامة في المنطقة، خاصة الصفقات المالية، وهو المعروف عن سياسات ترامب. لذا فهو يتمادي في التصريحات والقرارات التي رغم فظاظتها وانعدامها للقيم الإنسانية وعدم احترام الشرعية الدولية، الإ أنها قرارات توصف بالجنون وغير قابلة للنقاش، ولكنها تخرج لا محالة لتحقيق مصالح وأهداف أمريكية معينة.

فإقليم الشرق الأوسط يحظي بمكانة هامة ومحورية في دوائر صنع القرار الأمريكية وسياساتها الخارجية حتى وإن سعت في بعض الأحيان للاستدارة عنه. وتبقى الدول الخليجية أكثر أهمية بالنسبة للبيت الأبيض، ليست لأنها تُشكَل مورد الطاقة الرئيس لحلفائها الأوروبيين فقط، بل لأن نفط الخليج العربي والذي يشكل 60 % من مجمل التجارة العالمية، يرتبط بالدولار منذ سبعينيات القرن الماضي، وأي ضرر يصيب المنطقة من المؤكد سيصيب الولايات المتحدة بلا شك.

ومن منطلق المصلحة يمكن تفسير التسريبات المتعلقة بتعهد الولايات المتحدة بتأجيل إدخال معدات لإعمار شمال غزة لحين التوصل إلى اتفاق حول الترتيبات الأمنية التي تضمن سلامة المستوطنين في مستوطنات غلاف غزة، وهو الأمر الذي من شأنه أن يترتب عليه صفقات جديدة، أو منافع غير معلنة، أو لعلها صورة من صور دعم الهجرة الطوعية لسكان القطاع، والتي تحدثت عنها حكومة اليمين المتطرف الإسرائيلية سابقاً. ولكن من بإستطاعته إخراج الشعب الفلسطيني من أرضه، وهو الذي صمد في وجه آلة الموت الإسرائيلية المدعومة أمريكياً وغربياً قرابة عام ونصف من الإبادة والتجويع والاعتقالات والانتهاكات الجسيمة، مقابل البقاء في وطنه والحفاظ عليه، وبالطبع هذا التمسك الفلسطيني يحتاج إلى وجود ودعم الحاضنة الشعبية العربية بشكل عام.

نظرية إغراق الساحات:

تهدف نظرية “إغراق الساحات” إلي الهيمنة علي المشهد السياسي عبر الأفكار الفوضوية، حيث يقوم على إغراق الإعلام والرأي العام بوابل من التصريحات والقرارات، بغض النظر عن واقعيتها، من أجل إحكام السيطرة على السردية السياسية في قضية ما.

فعلي الرغم من عدم قابلية الأفكار والتصريحات التي خرجت ولا زالت تخرج عن دونالد ترامب، فيما يتعلق بالتهجير وفرض العقوبات ووقف المساعدات وحظر الدول وغيرهم، إلا أنه يعلنها صريحة وبكل استعلاء وبشكل متكرر بهدف إرباك الإعلام والجمهور، بحيث يصبح من المستحيل الرد على كافة تصريحاته أو ملاحقة تهديداته، وذلك لكي يظل الجميع في حالة رد فعل بدلاً من التركيز علي الفعل نفسه. وفي خضم هذه الفوضي، يصبح من السهل تمرير تلك الأفكار، ما قد يخلق لها قبولاً لاحقاً. فلم يكن الحديث عن تهجير الفلسطنيين يلقي رواجاً إعلامياً من قبل، ولكن مع إتباع ترامب لهذا الأسلوب، أصبح الأمر وكأنه خياراً عادياً يُناقش ضمن عدة خيارات أخري، وهو نفس النهج الذي استُخدم من قبل البيت الأبيض قبيل الغزو الأمريكي للعراق في 2003، حيث تحولت أسلحة الدمار الشامل من إدعاء أمريكي كاذب إلى ذريعة للحرب، بسبب التكرار المكثف.

لذا يتخذ ترامب تكرار الحديث عن سيناريو التهجير علي الرغم من استحالة تنفيذه وعلمه بذلك، لجعل الرأي العام العالمي عامة، والعربي خاصة، يتعامل معه كأمر مطروح للنقاش بدلاً من رفضه علي الفور كونه يندرج تحت جرائم الحرب، وكذلك التفاوض علي الوجهة التي يتم إليها الترحيل وكأنه سيناريو محتوم، ما يجعل الدول المستهدفة (مصر، الأردن، بعض دول الخليج) تبدو وكأنها في موقف المُفاوض على صفقة ما، بدلاً من كونها ترفض الطرح من أساسه، ثم تتحول دائرة النقاش إلي أفكار أخري زائفة، فبدلاً من الحديث عن استكمال اتفاق وقف إطلاق النار في قطاع غزة ووقف العدوان والانتهاكات في الضفة، يصبح الحديث عن البدائل المتاحة أمام الشعب الفلسطيني بعد ترحيله.

وختاماً، فإن الخطر الأكبر ليس في قدرة ترامب علي تنفيذ مخططاته وقراراته، بل في قدرته على جعل الإعلام والجمهور يتعاملون معها كأمر ممكن، وواقع لا مفر منه، عبر تحويل المستحيلات إلي احتمالات قابلة للنقاش، خاصة في القضايا التي تتعلق بحق الشعب في أرضه وتقرير مصيره. وهنا لابد من تكاتف عربي قوي وصارم في وجه العجرفة الأمريكية وقراراتها حتي لو كانت جعجعة بلا طحين.

سارة أمين

سارة أمين- باحث في شئون الشرق الأوسط، الباحثة حاصلة علي ماجستير في العلوم السياسية، شعبة العلاقات الدولية، متخصصة في دراسة شئون الشرق الأوسط والخليج العربي.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى