ارتباك واضح: ماذا تبقى من محور المقاومة بعد عام على اغتيال “نصر الله”؟

مر عامٌ كامل على اغتيال حسن نصر الله، الأمين العام السابق لحزب الله اللبناني، ولا يزال الحدث يفرض نفسهُ على المشهدين السياسي والعسكري في المنطقة باعتباره نقطة تحوّل استراتيجية لمعادلات الصراع بين محور المقاومة المدعوم إيرانياً وإسرائيل من جهة، وبين إيران كفاعل إقليمي مؤثر والولايات المتحدة وحلفائها من جهة أخرى. فالاغتيال لم يكن مجرد استهداف لقيادة عسكرية أو سياسية، بل كان محاولة لتقويض رمز اعتُبر لسنوات طويلة أيقونة للمقاومة في العالم العربي والإسلامي، وممثلاً لمعادلة الردع التي رسمها الحزب في مواجهة الاحتلال الإسرائيلي. ومع ذلك، فإن مرور عام على الحادثة، كشف عن أن انعكاساتها كانت أعقد بكثير مما توقعته الأطراف التي راهنت على أن اغتياله سيدفع محور المقاومة إلى الانهيار.

لقد جاء اغتيال نصر الله في لحظة إقليمية شديدة الحساسية، حيث كانت المنطقة تعيش على وقع العدوان الإسرائيلي الوحشي على غزة وتصاعد التوتر في لبنان وسوريا واليمن والعراق. وفي هذا السياق، بدا استهداف شخصية نصر الله محاولة إسرائيلية وبدعم ومباركة أمريكية، لإعادة رسم قواعد الاشتباك وكسر ما اعتبرته تل أبيب “خطوطاً حمراء” فرضها الحزب خلال العقدين الأخيرين. إلا أن النتائج المباشرة لم تعطِ لإسرائيل الهدف المرجو، إذ على الرغم من الارتباك اللحظي داخل حزب الله والصدمة الشعبية التي أحدثها غيابه، ومؤشرات الانهيار الخارجي، إلا أن البنية التنظيمية أظهرت قدرتها على الاستمرار مع الوقت وإعادة التموضع دون وقوع انهياراً داخلياً كما كان مأمولاً.

وعليه، سنقدم قراءة تفصيلية حول عملية اغتيال نصر الله بعد مرور عام كامل عليها وتأثيرها على محور المقاومة في المنطقة وكذلك الدعم الإيراني في ظل ما تعانيه طهران من عقوبات دولية، إضافة إلى السيناريوهات المحتملة لمستقبل المحور.

مسار غير محتمل:

لقد شكّل نصر الله طوال سنوات قيادته مركز ثقل رمزي لا غنى عنه داخل محور المقاومة. لم يكن مجرد قائد سياسي بل كان حاملاً لمشروع أيديولوجي يستند إلى فكرة المقاومة كخيار استراتيجي لا يتراجع أمام الضغوط. ومن هنا، فإن اغتياله استهدف كسر هذا البعد الرمزي وإضعاف شرعية التواجد الإيراني في المنطقة. غير أن ما حدث فعلياً هو أن غيابه أطلق ديناميات جديدة داخل الأذرع الإيرانية في الإقليم، حيث تصاعد دور قيادات الصف الثاني والثالث، وبرزت محاولات لإعادة توزيع مراكز النفوذ داخل المحور بشكل أكثر لامركزية. ففي العراق، على سبيل المثال، ظهر الحشد الشعبي كفاعل أكثر استقلالية في إدارة العلاقة مع إيران، بينما عزز الحوثيون في اليمن من موقعهم كجبهة متقدمة في مواجهة الكيان الصهيوني بشكل غير مسبوق.

إن مرور عام على الاغتيال أظهر أن إيران أدركت خطورة فقدان شخصية بحجم نصر الله، فعملت على توظيف الحادثة لتعزيز خطاب “الشهادة” الذي يشكّل جزءاً جوهرياً من بنيتها الأيديولوجية ومشروعها التوسعي. لقد حاولت طهران أن تجعل من غياب نصر الله فرصة لتعميق فكرة الاستمرارية، بحيث يصبح القادة شهداء يورّثون رسالتهم للأجيال القادمة، بدلاً من أن يكونوا أفراداً لا غنى عنهم. في الوقت نفسه، سعت إيران إلى إعادة مركزية القرار العسكري والسياسي في طهران أكثر من ذي قبل، وذلك لضمان أن الأذرع المنتشرة في لبنان وغزة واليمن والعراق وسوريا تبقى ملتزمة بالسقف الاستراتيجي الإيراني حتى في غياب قادة محليين ذوي رمزية كبيرة. هذا التحول ساهم في تعزيز وحدة الخطاب، لكنه في الوقت ذاته أثار تساؤلات حول مدى استقلالية تلك الأذرع وقدرتها على التكيف مع السياقات المحلية.

على الجانب الآخر، بدا واضحاً أن إسرائيل لم تنجح في استثمار الاغتيال كما كانت تأمل. فبدلاً من أن يؤدي إلى إضعاف بنية حزب الله أو تراجع حضوره الإقليمي، أدى إلى تصاعد حالة العداء وتعزيز صورة الحزب باعتباره ضحية لاستهداف ممنهج. لقد تعامل الحزب بذكاء مع تداعيات الحدث، حيث ضخّم من رمزية نصر الله كشهيد وأعاد إنتاج صورته في الوعي الشعبي كقائد مقاوم لن يُستبدل بسهولة. هذا الخطاب لم يؤثر فقط في الداخل اللبناني، بل امتد إلى قواعد جماهيرية في فلسطين والعراق واليمن وسوريا، ما منح المحور زخماً جديداً لم يكن متوقعاً.

كما أن السياسة العسكرية للأذرع الإيرانية بعد الاغتيال شهدت تحولاً نوعياً، حيث توسّع استخدام الطائرات المسيّرة والصواريخ الدقيقة في مختلف الجبهات. ففي اليمن تحديداً، كثّف الحوثيون من استهدافاتهم للعمق الإسرائيلي، فيما ظهرت إشارات إلى استعداد أكبر للتصعيد في حال فرضت التطورات ذلك. هذه السياسة القائمة على تعددالجبهات جعلت من الصعب على إسرائيل أو الولايات المتحدة حصر الصراع في جبهة واحدة.

تحديات مرتقبة:

إن الحديث عن مستقبل معادلات الردع في المنطقة والمتعلقة بمحور المقاومة في ظل عودة الغرب إلى سياسة العقوبات المشددة ضد إيران يُعد شائكاً، حيث تُثار التساؤلات حول الدعم الإيراني المُقدم للمحور وطهران اليوم على أعتاب مرحلة جديدةمع الضغوط الغربية وذلك بعد إعادة تفعيل “آلية الزناد” الخاصة بالاتفاق النووي وإحياء العقوبات الأممية التي من المتوقع أن تزيد من عزلة إيران المالية والاقتصادية. هذه التطورات تعني أن قدرة طهران على تمويل أذرعها بالوتيرة السابقة قد تتقلص بشكل واضح، وهو ما قد ينعكس على أداء تلك الأذرع في المنطقة. ولكن على الجانب الآخر قد يُنظر إلى النظام الإيراني بأنه يمتلك خبرة طويلة في التكيّف مع العقوبات، وقد سبق أن أثبتت قدرته على الالتفاف عليها عبر قنوات اقتصادية موازية وشبكات تهريب وتحالفات مع قوى دولية مثل روسيا والصين.

وفي مواجهة هذه التحديات المرتقبة، يبدو أن إيران ربما قد تعتمد أكثر على نقل التكنولوجيا العسكرية بدلاً من التمويل النقدي المباشر. فالطائرات المسيّرة والصواريخ الدقيقة وأنظمة الحرب الإلكترونية أصبحت أقل كلفة وأكثر فعالية في تعزيز قدرات الأذرع على الردع. وبذلك، قد يتراجع التمويل المالي لكن الدعم العسكري سيأخذ شكلاً أكثر استدامة من خلال تمكين الأذرع على الاكتفاء الذاتي جزئياً. هذا النموذج ظهر بالفعل في اليمن، حيث تمكن الحوثيون من تطوير قدراتهم التصنيعية رغم محدودية الموارد.

وف هذا السياق سيواجه محور المقاومة نفسه سيواجه واقعاً مزدوجاً: فمن ناحية، سيزداد اعتماده على الاقتصاد الموازي المحلي، سواء عبر شبكات الدعم الشعبي أو عبر أنشطة اقتصادية غير رسمية -في حالة غياب الضغط الداخلي-. ومن ناحية أخرى، سيظل بحاجة إلى المظلة الإيرانية كمرجعية سياسية وأيديولوجية، بما يضمن بقاء الخطاب موحداً رغم تباين الأولويات المحلية. لكن هذا لا ينفي أن أي تقليص للتمويل الإيراني سيخلق تفاوتات داخلية بين الأذرع، بحيث قد تحافظ بعض الجبهات على قوتها مثل لبنان واليمن، بينما تشهد جبهات أخرى مثل العراق تراجعاً في زخمها.

ماذا بعد؟ (سيناريوهات محتملة):

الحديث عن مستقبل محور المقاومة بعد مضي عام على اغتيال نصر الله يظل مفتوحاً على عدة سيناريوهات:

(*) السيناريو الأول،- يتمثل في استمرار المحور في التماسك والتوسع عبر توزيع مراكز القيادة وتعزيز قدرات الأذرع وبنيتها التنظيمية على الصمود، وهو ما يعني أن غياب نصر الله هو مجرد محطة في مسار طويل من المواجهةبين كافة أذرع المحور والخصوم الإقليميين والدوليين. هذا ومن المحتمل أن تلعب إيران دوراً محورياً في دعم هذا التحول عبر نقل الخبرات وتقديم الدعم اللوجيستي والتقني اللازمين، ما يمكّن المحور من السير نحو نمط قيادة لامركزي وأكثر مرونة.

(*) السيناريو الثاني،- يتعلق باحتمال تراجع بعض الأذرع نتيجة ضغوط محلية أو إقليمية، خاصة في ظل الأزمات الاقتصادية والسياسية التي يعانيها لبنان أو العراقعلى وجه التحديد، ما قد يُضعف من قدرتهم على الحفاظ على الحاضنة الاجتماعية التي لطالما وفرت غطاءاً شعبياً وحماية داخلية، كذلك تصاعد الصراع بين أولويات الدولة الوطنية وضغوط الشارع الرافضة لمثل هذا الوضع في الوقت الراهن نظراً لما يتبعه من تدخلات دولية بحجة القضاء على هذه الجماعات. هذا إلى جانب احتمالية تقلص الدعم الإيراني بسبب العقوبات الأممية، ما قد يؤثر سلباً على أداء المحور ما لم تُوجد خطط بديلة للتمويل كما ذكرنا سلفاً.

ختاماً، بعد مرور عام على اغتيال حسن نصر الله، يمكن القول إن هذه العملية لم تكن نهاية مشروع المقاومة، كما كانت تهدف إسرائيل، بل كانت بداية لمرحلة جديدة من إعادة التموضع وإعادة توزيع الأدوار داخل المحور. إذ أظهر المحور قدرة على التماسك، بل واستطاع تحويل الخسارة على الأرض إلى رصيد تعبوي. هذا التحول يكشف عن أن مشروع المقاومة لم يعد قائماً على أفراد بعينهم بقدر ما بات يعتمد على بنى تنظيمية وأيديولوجية متينة قادرة على الاستمرار. ومع ذلك فالمرحلة الحالية لا تخلو من التحديات خاصة مع الضغوط التي تواجهها طهران اليوم باعتبارها الداعم الأساسي لهذا المحور، في ظل العقوبات والعزلة الدولية، لذا مستقبل هذه الأذرع سيتأرجح بين السيناريوهين السابقين: إما تعزيز التماسك وإعادة إنتاج القدرة على الصمود عبر قيادة أكثر لامركزية، أو التراجع تحت وطأة الضغوط والأزمات التي قد تضعف من نفوذ المحور في بعض ساحاته.

سارة أمين

سارة أمين- باحث في شئون الشرق الأوسط، الباحثة حاصلة علي ماجستير في العلوم السياسية، شعبة العلاقات الدولية، متخصصة في دراسة شئون الشرق الأوسط والخليج العربي.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى